q
فهل استعدَّينا نفسياً وروحياً لاستقبال هذا الشهر العظيم وهذا الموسم الكريم لنكون من المتهيئين ولا نتفاجأ به فيكون همُّنا كغيرنا الطعام والشراب والسهر في الليل والنوم في النهار بحجة الصوم، فتنقلب حياتنا رأساً على عقب وننسى جمالية وعظمة هذا الشهر الكريم، وهو باستغلاله في تصفية الجسد من الكثير...

مواسم النور

ها نحن نستقبل شهر رمضان المبارك كقمَّة لهذا الموسم النوراني في هذا العام الذي يأتي علينا والأمة مازالت تعيش هذا الامتحان الشديد من حيث التشرذم والتفرقة والحروب والمنازعات والمخاصمات في مختلف بقاعها ودولها وشعوبها التي فرَّقتهم دول الطغيان والظلم إلى دول عديدة وحالت فيما بينهم بالحدود والقيود ومنعتهم من التواصل والتآزر والتعاون فيما بينهم، وهم يسعون ليكونوا طرائق قددا بسياستهم الخبيثة (فرِّق تسد).

وكم هو عظيم في هذه الأمة أن تنتبه إلى نقاط القوة والاجتماع واللقاء فيما بينها لتدرك مدى عظمتها وضرورة أن تعود إلى الوحدة ليعود لها المجد والتألق والحضور الفاعل في المجتمعات الدولية فإننا أمَّة لا تغيب عنها الشمس، ولها من الامكانيات والطاقات والموقع الجغرافي، والبحار، والمضائق، وكل مقومات النهوض والحضارة.

لا سيما وأننا يجمعنا الدِّين الإسلامي العظيم في فسطاطه العملاق، وتحت خيمته المباركة بكل منظومته القيمية الحضارية والتي يجمعها القرآن الحكيم، فهو دستورنا وقانوننا السماوي الذي فيه كل شيء تحتاجه الأمة للنهوض من جديد وربنا سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء: 9)

فهو صحيفة السماء لأهل الأرض وهو يهدي للتي هي أقوم، وأفضل، وأحسن في كل ما يقصده ويريده ويحتاجه الإنسان في مسيرته، فمهما بحثوا وحاولوا وأحدثوا القوانين وكتبوا التشريعات فإن القرآن الحكيم سيبقى الأقوم من كل ما يتوصل إليه البشر، لأنه كلام الله وفضله على الكلام كفضل الخالق على المخلوق، والرب على المربوب، وهو من الأصول التي تجتمع عليها هذه الأمة المرحومة به، والتي تفضَّل الله عليها وأنزل لها هذا القرآن بلغتها ورسول الله منها.

شهر رمضان المبارك

ومن هذه المشتركات التي أجمعت عليها الأمة ويجب أن تجتمع فيه وعليه هو هذا الموسم العبادي الراقي جداً والذي فيه منظومة متكاملة للعبادة والتسامي الروحي والنفسي، وللرياضة البدنية والجسمية لتقوية المناعة والجسم، فالإنسان الصائم يجب أن يخرج من هذا الموسم أقوى في الروح والجسد، لما في هذا الشهر الكريم من نظام يحفظ الجسم ويقويه، ويزكي النفس ويطهرها، فالصوم الحقيقي والصحيح يرفع الإنسان ويطهره روحاً وجسداً.

وشهر رمضان فرصة لهذه الأمة أن تعيد نظرها لنفسها وترتب أوراقها وتجمع كلمتها من جديد وترفع رايتها لتكون خفاقة في كل مكان فوق هذه المسكونة، لأنها الأمة الأجدر بقيادة هذه الحضارة التي تتداعى وتترنح وهي ساقطة عاجلاً أو بعد حين من الزمن، فالعالم اليوم يعيد رسم خارطته من جديد وسيعود إلى القطبية المتعددة، وإذا لم يقف المسلمون في هذا العصر ليثبتوا أنفسهم ويكون لهم الحضور اللائق بهم فإنهم سيتأخرون لقرون قادمة، والزمن لن يرحم المتقاعسين، كما أنه لم يرحم الجبناء والخائفين والخائنين.

لا سيما وأن الفرص سريعة المرور وهي تمرُّ مرَّ السَّحاب، وصار على الأمة أن تعي جيداً أسباب قوتها وعظمتها وحيويتها ونشاطها في كل الميادين فنحن أمة عملاقة ولدينا ما ليس لدى الآخرين من شعوب الأرض، فما أحوجنا لتلك الآيات العظيمة التي طالما تحدَّث عنها سماحة الإمام الشيرازي الراحل (رحمة الله عليه) في كتبه وخطبه ومحاضراته ودروسه، وهي الركائز والمنطلقات الأساسية التي لو لاحظتها الأمة وسعت لتطبيقها في واقعها إذا لنهضت نهضتها العملاقة التي ربما يعجز الكثيرون أن يتصوروها وهي:

1-آية الوحدة وهي قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52)

2-آية الأخوة الإيمانية؛ وهي قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)

3-آية الحريات، وهي قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157)

4-آية التعاون والنشاط، وهي قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2)

5-آية الشورى، وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى: 38)

فهذه الآيات الكريمة والحكيمة وما يعضدها من الآيات كآية (خَلَقَ لكم)، والآيات الآمرة بالعدل في الحكم، والقسط في المجتمع، والآمرة بالسعي والجد والاجتهاد في تحصيل العيش الحلال والكسب المشروع، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكل هذه التي تشكل قوانين ناظمة وراقية جداً لحركة المجتمع بحيث أنكم لا تظلمون ولا تُظلمون، فالعدل من أصول الدِّين، وهو من أصول الحكم وأساس حفظ المجتمع، والأخوة تلك القاعدة العظيمة التي جمعت المسلمين وكانوا متفرقين بشكل عجيب، فصهرتهم جميعاً بقاعدة الأخوة الإيمانية، ولا يوجد قاعدة يمكن أن تجمع البشر كهذه القاعدة الربانية التي تفضِّل الأخوة العقائدية والفكرية على الأخوة النسبية.

وجميل ما يقوله الإمام الراحل في كتابه الرَّمضاني الذي يؤكد فيه على دستورنا القرآن الحكيم وآياته الاجتماعية: " كان القرآن الكريم في بدو الإسلام، فهو الذي وضع المسلمين على طريق الحياة الرَّغيدة الشريفة من خلال حثّه على العمل والانتاج، وعبر تحفيزه الناس على التعاون ومساعدة الغير، ومن خلال ما وضع أمام المسلم من مناهج اقتصادية واجتماعية نتيجتها هي الحياة الكريمة التي ترفرف أجنحتها بالسعادة والرخاء.

وكذلك القرآن الكريم أرشد الناس إلى طريق الحياة السليمة من خلال الضوء الذي يسلّطه في طريقهم ليهتدوا في الظلمات إلى مواطن الخير فيتمسكوا بها، وإلى مواطن الشرّ فيتجنبوها، وعرّفهم القرآن الحكيم سُبل السلام في الدنيا قبل الآخرة، ويوم كان المسلمون يفهمون القرآن وتعاليمه ويتمسكون به ويأخذون بمنهجه كان لهم الخير والصلاح.

اما عندما تركوا القرآن جهلاً من بعضهم بآياته، وعناداً منهم لِمنهجه انهالت عليهم المشكلات من كل حدبٍ وصوب".

إلى أن يقول في النتيجة الواضحة التي يتوصل اليها بفكره وتجربته الطويلة: "عندما ترك المسلمون العمل بهذه الآيات، وغيرها من آيات القرآن الكريم انطفأت شعلة الحياة في نفوسهم وأصبحوا كما قال تعالى: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) (طه: 74)، فلا هم بميتين ولاهم بأحياء، أي أنهم في حالة احتضار دائم، وهناك أممٌ كثيرة في التاريخ عاشت هذه الحالة العصيبة لردح من الزمن.

هذا في مجال الحياة أما في مجال النور الذي يسطع من آيات القرآن ليبعث على الهداية والصلاح؛ فقد أصبح الأمر عكسياً، فالظلام هو الذي عمّهم والموت هو الذي شملهم، فقد وصفهم القرآن بقوله: (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات) (البقرة: 255)، بعد أن أخرجهم القرآن من الظلمات إلى النور".

والنتيجة: "هذا هو حال المسلمين اليوم، حياة تحتضر، وظلام دامس، واضطراب وضنك، فإذا أردنا الحياة السعيدة ذات العزة والشَّرف والكرامة، وإذا أردنا أن يرفرف السلام فوق رؤوسنا، فلا بدّ أن نعود إلى كتاب الله، وبالأخص في هذا الشهر المبارك، ولا بدّ أن نقرّر العودة إلى القرآن ونجلس بين يدي الرحمن ونقرأ آياته". (شهر رمضان: 28 بتصرف)

الاستعداد الروحي

فهل استعدَّينا نفسياً وروحياً لاستقبال هذا الشهر العظيم وهذا الموسم الكريم لنكون من المتهيئين ولا نتفاجأ به فيكون همُّنا كغيرنا الطعام والشراب والسهر في الليل والنوم في النهار بحجة الصوم، فتنقلب حياتنا رأساً على عقب وننسى جمالية وعظمة هذا الشهر الكريم، وهو باستغلاله في تصفية الجسد من الكثير مما يتراكم فيه خلال العام كله، وتصفيه القلوب والنفوس مما يحصل لها من حقد وحسد وبغض وضغينة وعداوات تظلم قلوبنا ولا تدع فيها منفذاً للنور والضياء ففي هذا الشهر الكريم يجب أن ننظف الجسد من أدرانه، والقلب من أمراضه لنخرج من هذا الشهر كيوم ولدتنا فيه أمهاتنا كما في الروايات، فالمحروم مَنْ حُرم غفران الله في هذا الشهر الكريم.

موسم النور أكرموا ضيافته

فحلَّ بنا هذا الموسم النوراني بكل ما فيه من أدعية وعبادات وصلوات وأذكار وأفكار فأهلاً بحلوله ضيفاً عزيزاً علينا، بل نحن نكون من ضيفان الرحمن كما قال الرسول الأكرم (ص) في خطبته الرمضانية حيث يقول: (إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ، وَاَلرَّحْمَةِ، وَاَلْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَفْضَلُ اَلشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ اَلْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اَللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ اَلسَّاعَاتِ، وَهُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اَللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اَللَّهِ؛

أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ..

وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ..

وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ..

وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ.. فَاسْأَلُوا اَللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلاَوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّ اَلشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اَللَّهِ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ اَلْعَظِيمِ).

فنحن في ضيافة الله لطيلة هذا الشهر الكريم، فما أجدرنا أن نكرم ضيفنا، ونحترم مضيفنا في هذه الأيام التي هي أفضل، وأشرف، وأكرم الأيام عند الله تعالى، لننال رضاه ويعتق رقابنا من النار، ويسلخ عنا ذنوبنا مع انسلاخ أيامه ولياليه.

وبما أن الشياطين فيها مغلولة والأعمال فيه مقبولة، فإننا سنكون وجهاً لوجه مع أنفسنا الأمارة بالسوء، ولا يوجد فرصة جوهرية مثل هذه الفرصة الذهبية لترويضها بالطاعات، لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر، فنقضي النهار بالكد والعمل والليل بالعبادة والصلاة، ونملأ كل الأوقات فيه بالأذكار والأدعية المأثورة والكثيرة والتي تطال كل لحظة من لحظاته.

أسأل الله أن يوفقنا لصيامه وقيامه في لياليه وأيامه وأن يجعلنا من عتقائه.

اضف تعليق