q

جدار عدم الثقة بين المواطن والحكومة يعود تاريخه الى بدايات تشكيل الانظمة السياسية في بلادنا الاسلامية في بدايات القرن الماضي، عقب انتهاء حقبة الاستعمار، لعلم الناس أن هذه الانظمة والحكومات التي أولدتها، لم تتمخض من رحم المجتمع، فهي لم تمثل يوماً إرادة الجماهير وتطلعاتهم، بمعنى أنها لم تكن "ديمقراطية" بالمعنى الدارج حالياً، وقد انعكس وجود هذا الجدار القاتل على قضايا هامة، منها الخدمات مثل؛ الماء والكهرباء والمواصلات والصحة والتعليم، فلم يتسنّ للناس الحصول على هذه الخدمات بشكل طبيعي بسبب وجود فيروس الشك وعدم الثقة في العلاقة بين الجانبين؛ فالحكومة ترى الناس استهلاكيين وحسب، بينما يرى الناس حكوماتهم استغلالية، وربما ترقى الى درجة اللصوصية والإفساد المالي والإداري.

أما الخيار الآخر الذي تتبعه الدول المتقدمة والنامية ايضاً لإيصال الخدمات الى المواطن، فهو منهج القانون الصارم، متمثلاً بالضرائب وبنسب عالية بغية تغطية تكاليف الخدمات العامة، وفي مقدمتها التأمين الصحي، علماً أن قانون الضرائب هذا مطبق في عديد بلادنا المتخلفة، مع ذلك نلاحظ أزمة الخدمات، وايضاً أزمة التكاليف الباهضة لهذه الخدمات الى درجة ان تجعلها غير ذات قيمة في حياة الانسان الذي يشعر انه مهدد بلقمة عيشه من اجل استمرار تدفق الخدمات من الدولة، مما يدفع البعض للتحايل على هذه الخدمات، كما يتحايل الناس في الغرب للتهرب من الضرائب كما يحصل في ايران، وتحديداً في أمر الكهرباء، حيث انتشرت في الآونة الاخيرة ظاهرة بين الناس باستخدام "خط الإمام" في مقياس الكهرباء، ويعني بالعربية؛ "تيار الإمام الخميني"، وهو عبارة عن سلك يتم ربطه من خلف المقياس يجهز كمية من الطاقة دون المرور بالمقياس، وتيار الإمام الذي يتداوله الناس بتندّر، هو كناية عن التيار الملتزم والثوري الذي يطبق توصيات الإمام ومنهجه، ومنها مقولته الشهيرة في أول من وصوله ايران بعد انتصار الثورة الاسلامية، بأننا "سنقدم الماء والكهرباء مجاناً للناس فهو ملكهم..."!

والعراق الذي يعيش أزمة غريبة من نوعها في توفير الكهرباء المستمر للمنازل السكنية والمحال التجارية منذ حوالي أربعة عشر سنة، أي منذ سقوط نظام صدام، علماً ان العديد من المصانع الضخمة توقفت عن العمل بسبب هذه الازمة، وقد بحث الخبراء اسباب استمرار هذه الازمة وذهبوا الى عامل الفساد الإداري البشع لمسؤولين معنيين عن هذا الملف، وهنالك من ذهب الى عوامل خارجية تضغط باتجاه إبقاء العراق محروماً من الطاقة الكهربائية ويكون محتاجاً الى الآخرين في هذه المادة الحيوية، وربما يكون لهذين السببين واسباب اخرى مدخلية في هذه الازمة، بيد أن جوهر القضية بما أشار اليه المسؤولون انفسهم غير مرّة، ويتحدث عن الناس في كل مكان، هو؛ انعدام الثقة المتبادلة بين المسؤول والمواطن، فثمة اعتقاد لدى الكثير بان ما تجبيه الحكومة من أجور الكهرباء، إنما يذهب الى جيوب المسؤولين المتنفذين، ولا علاقة لها بتكاليف انتاج الطاقة الكهربائية، بالمقابل ينظر المسؤول في الدولة الى المواطن –بشكل عام- على انه صاحب حق في استهلاك الطاقة الكهربائية في بيته بما يشاء وبأجور قليلة.

وفي الوقت الذي تتقدم حكومة الدكتور حيدر العبادي بخطوات ثابتة نحو معالجة الازمات؛ ملفاً بعد آخر، بعد الانتهاء من معالجة ملف الارهاب ودحر عناصر داعش من العراق، تجد من الضروري إزالة جدار عدم الثقة هذا لضمان نجاح حل أزمة الكهرباء من خلال مشروع خصخصة الكهرباء وتحديد تسعيرة جديدة تعتمد كمية الاستهلاك وبشكل تصاعدي.

فكرة المشروع الذي قدمته الحكومة الى مجلس النواب، اثارة حفيظة الاوساط الاجتماعية فظهرت ردود فعل عنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض سائل الاعلام تعكس وجهة نظر الناس الغاضبة على المشروع الحكومي الجديد، بدعوى انه يضع الناس تدريجياً وجهاً لوجه أمام شركات خاصة تزود الناس بالكهرباء، كما تزودهم حالياً بالاتصال الهاتفي النقال، وكما تنسحب الحكومة تدريجياً من ملف التعليم فاسحة المجال أمام المدارس والجامعات الأهلية لتقدم افضل الخدمات وبأسعار غير قليلة.

والى جانب هذا الصوت الجماهيري الغاضب، كان يفترض ان يكون هنالك صوت آخر من الشريحة المثقفة لأن تنشر الوعي الاقتصادي بين الناس، وتعمل على إزالة جميع الترسبات النفسية بسبب سوء العلاقة القديمة بين المواطن والنظام الحاكم، فالاعتماد على مبدأ الثقة من شأنه حل هذه المشكلة المفتعلة، كما سائر المشاكل، لان المنطلق هنا سيكون وجدانياً، الى جانب رادع القانون والجزاء، ولعلنا نسترشد بما يعزز هذه الفكرة الحضارية من الحديث المشهور للنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: "كلكم راعٍ وكلكم مسوؤل عن رعيته".

ففي أمر الكهرباء، كما في سائر المفردات الخدمية، القضية لا تنحصر في التكاليف المالية، إنما تعود الى مشكلة نفسية، فالذي يسرف في الاستهلاك، لا يضر بالدولة بقدر ما يضر بمصلحة ابناء بلده، لان البعض له قدرة الاستهلاك اكبر من الآخرين بامتلاكهم اجهزة تكييف او سلع منزلية متنوعة، بينما هنالك من يرجو تبريد بيته فقط خلال فصل الصيف اللاهب بأي وسيلة كانت.

اضف تعليق