‬ان‭ ‬محاولات‭ ‬الضبط‭ ‬التقليدية‭ ‬من‭ ‬قوانين‭ ‬وخطب‭ ‬دينية،‭ ‬وتحذيرات‭ ‬اجتماعية‭ ‬ورقابة‭ ‬أسرية،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إيقاف‭ ‬طوفان‭ ‬الشهرة،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬جاذبية‭ ‬الظهور‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬جيل‭ ‬المنصّات‭ ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬الهواتف،‭ ‬والصانع‭ ‬لموجة‭ ‬هادئة‭ ‬من‭ ‬“الهجرة‭ ‬القيمية‭ ‬حيث‭ ‬تنتقل‭ ‬أعراف‭ ‬غريبة‭ ‬من‭ ‬بيئات‭ ‬بعيدة‭ ‬لتستقر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المحلي‭ ‬بلا‭ ‬مقاومة‭...

تهزّ‭ ‬الواقعةُ‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬أحد‭ ‬المسارح‭ ‬العراقية‭ ‬صورة‭ ‬المجتمع‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هزّت‭ ‬خشبة‭ ‬العرض،‭ ‬بعدما‭ ‬قفزت‭ ‬مراهقة‭ ‬قاصرة،‭ ‬لعناق‭ ‬مطرب‭ ‬أمام‭ ‬جمهور‭ ‬مذهول،‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مستغرباً‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬تحوّل‭ ‬اجتماعي‭ ‬عميق‭ ‬تصنعه‭ ‬منصّات‭ ‬التواصل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصنعه‭ ‬البيوت‭.‬

تكشف‭ ‬الضجة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬الحادثة‭ ‬أن‭ ‬تأثير‭ ‬التواصل‭ ‬تجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الترفيه،‭ ‬ليمتد‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬السلوك‭ ‬العام‭ ‬وإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬المسموح‭ ‬والممنوع‭ ‬عبر‭ ‬نمط‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬النجومية‭ ‬السريعة،‭ ‬حيث‭ ‬تُمنح‭ ‬الأضواء‭ ‬لمن‭ ‬يجرؤ‭ ‬أكثر‭ ‬لا‭ ‬لمن‭ ‬يقدّم‭ ‬قيمة،‭ ‬فتتحول‭ ‬الجرأة‭ ‬إلى‭ ‬عملة‭ ‬اجتماعية‭ ‬يتداولها‭ ‬الجميع‭ ‬دون‭ ‬حساب‭.‬

ولم‭ ‬يعد‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬تتحوّل‭ ‬حتى‭ ‬نشاطات‭ ‬شيوخ‭ ‬العشائر‭ ‬وواجهات‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬بثّ‭ ‬مباشر،‭ ‬عبر‭ ‬الهواتف،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬حفلات‭ “‬الدية‭ ‬العشائرية‭” ‬التي‭ ‬تستعرض‭ ‬فيها‭ ‬المليارات‭ ‬من‭ ‬الدنانير،‭ ‬كتعويض،‭ ‬وتُعرض‭ ‬حيّة‭ ‬على‭ ‬المنصّات‭ ‬وكأنها‭ ‬عروض‭ ‬اجتماعية‭ ‬تُستهلك‭ ‬للفرجة‭.‬

ويتعقّد‭ ‬المشهد‭ ‬أكثر‭ ‬عند‭ ‬أبواب‭ ‬السياسة،‭ ‬بعدما‭ ‬اندفع‭ ‬مدونون‭ ‬ومشاهير‭ “‬التيك‭ ‬توك‭” ‬إلى‭ ‬الترشح‭ ‬للانتخابات‭ ‬معتقدين‭ ‬أن‭ ‬جيوش‭ ‬المتابعين‭ ‬ستترجم‭ ‬الإعجابات‭ ‬إلى‭ ‬أصوات‭ ‬حقيقية‭. ‬لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬كانت‭ ‬صادمة‭: ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬انتخبهم،‭ ‬لأن‭ ‬الشعبية‭ ‬الرقمية‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬عبور‭ ‬الصندوق‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭.‬

وتتسلل‭ ‬عدوى‭ ‬الاستعراض‭ ‬إلى‭ ‬الطقوس‭ ‬الدينية‭ ‬نفسها،‭ ‬فتتحول‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬روحانية،‭ ‬خاصة‭ ‬بك،‭ ‬إلى‭ ‬محتوى‭ ‬بصري‭ ‬يبتعد‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً‭ ‬عن‭ ‬جوهر‭ ‬الدين،‭ ‬ويوسّع‭ ‬الهوة‭ ‬بين‭ ‬الإيمان‭ ‬الحقيقي‭ ‬وبين‭ ‬“الاستعراض‭ ‬الديني”‭ ‬الذي‭ ‬تصنعه‭ ‬عدسة‭ ‬الهاتف‭.‬

تتراجع‭ ‬ثقافة‭ ‬العيب‭ ‬والستر‭ ‬أمام‭ ‬موجات‭ ‬الحرية‭ ‬غير‭ ‬المنضبطة،‭ ‬حيث‭ ‬يجري‭ ‬تقديم‭ ‬الجرأة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬معيار‭ ‬للحضور،‭ ‬ويجري‭ ‬تجاوز‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والمحددات‭ ‬الدينية‭ ‬بثقة‭ ‬صادمة‭.‬

وما‭ ‬يثير‭ ‬الدهشة‭ ‬أن‭ ‬مجتمعاً‭ ‬محافظاً‭ ‬كالعراق‭ ‬بات‭ ‬يتصدر‭ ‬إنتاج‭ ‬المحتوى‭ ‬الهابط،‭ ‬ويحوّله‭ ‬إلى‭ ‬نشاط‭ ‬يومي‭ ‬يطغى‭ ‬على‭ ‬صورته‭ ‬الحقيقية‭.‬

تفقد‭ ‬المدرسة ‭‬والجامعة‭ ‬والأسرة‭ ‬أدوارها‭ ‬كمرجعيات‭ ‬للسلوك،‭ ‬بعدما‭ ‬صارت‭ ‬المنصّات‭ ‬منافساً‭ ‬شرساً‭ ‬يزرع‭ ‬قيماً‭ ‬جديدة‭ ‬عبر‭ ‬طبقة‭ ‬غريبة‭ ‬من‭ ‬المؤثرين‭ ‬العابرين،‭ ‬بلا‭ ‬جذور‭ ‬ولا‭ ‬حضور‭ ‬واقعي،‭ ‬لكنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬الأذواق‭ ‬وتوجيه‭ ‬السلوكيات‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تشكلت‭ ‬لغة‭ ‬اجتماعية‭ ‬جديدة‭ ‬تختلط‭ ‬فيها‭ ‬السخرية‭ ‬بالجد،‭ ‬حتى‭ ‬باتت‭ ‬القضايا‭ ‬الأخلاقية‭ ‬تُناقش‭ ‬بروح‭ ‬الترند‭ ‬لا‭ ‬بروح‭ ‬المسؤولية،‭ ‬والحسّ‭ ‬العام‭ ‬يلهث‭ ‬خلف‭ ‬سرعة‭ ‬التداول‭ ‬لا‭ ‬عمق‭ ‬التفكير‭.‬

أن‭ ‬محاولات‭ ‬الضبط‭ ‬التقليدية‭ ‬من‭ ‬قوانين‭ ‬وخطب‭ ‬دينية،‭ ‬وتحذيرات‭ ‬اجتماعية‭ ‬ورقابة‭ ‬أسرية،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إيقاف‭ ‬طوفان‭ ‬الشهرة،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬جاذبية‭ ‬الظهور‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬جيل‭ ‬المنصّات‭ ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬الهواتف،‭ ‬والصانع‭ ‬لموجة‭ ‬هادئة‭ ‬من‭ ‬“الهجرة‭ ‬القيمية‭ ‬حيث‭ ‬تنتقل‭ ‬أعراف‭ ‬غريبة‭ ‬من‭ ‬بيئات‭ ‬بعيدة‭ ‬لتستقر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المحلي‭ ‬بلا‭ ‬مقاومة‭.‬

‭ ‬تبدو‭ ‬الحاجة‭ ‬ملحّة‭ ‬اليوم‭ ‬لوضع‭ ‬معالجات‭ ‬عصرية‭ ‬تنظّم‭ ‬هذا‭ ‬الانفلات،‭ ‬وتحمي‭ ‬المجتمع‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تفقد‭ ‬قيمه،‭ ‬آخر‭ ‬خطوط‭ ‬الدفاع‭.‬

اضف تعليق