من التحديات التي تواجه العربية اليوم تفشي الازدواجية بين الفصحى والعامية، واتساع اللهجات المحلية وعمق حضورها في الوعي واللاوعي لدى الناطقين بها، حتى غدت عامية البلد الذي ينتمي إليه المتحدث هي اللغة التي يفكر بها ويعبر من خلالها الإنسان عن مفاهيمه ومشاعره، بينما تراجع حضور الفصحى في الحياة اليومية...

تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة، اللغة ليست أداة محايدة للتعبير، بل هي الأفق الذي يرى الإنسان من خلاله ذاته والعالم. تنبثق اللغة من عمق التجربة الإنسانية، وتتشكل في تفاعل الوعي مع الواقع، وتغتني بما يختزنه الإنسان من خبرات ومعانٍ. لا تهبط اللغة من عوالم الغيب، ولا تأتي من خارج مدار الوجود البشري. لا لغة أسمى من أخرى، ولا لغة أدنى من أخرى، ولا تنقسم اللغات إلى مقدسة ومدنسة.

تتجلى قيمة اللغة بقدر ما تحتضن حاجات الإنسان، وتعكس وعيه، وتترجم نمط عيشه. اللغة الحية تتحرك مع نبض الزمن، وتنفتح على تحولات الواقع، وتتحرر من جمود القوالب الجاهزة، لأنها كائن اجتماعي يخضع لقوانين النمو والتطور والتحول التي تسري في الكائنات الحية. 

الكائن الذي ينغلق على ذاته، ولا يتغذى، يتخلف عن إيقاع الحياة، ويفقد القدرة على التجدد، ثم ينكمش ويتحجر ويفنى. اللغة التي تتجدد وتتناغم مع إيقاع العصر تفتح للإنسان أفقًا أرحب لرؤية العالم وفهمه وإعادة بنائه.

بما أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي الأفق الذي يتشكل فيه المعنى، والفضاء الذي تتكوّن فيه رؤية الإنسان للعالم، فإن أي تجديد في هذه الرؤية يمر عبر تجديد اللغة، وإعادة بناء معجمها، وتحريرها من القوالب المغلقة، لتستعيد قدرتها على إغناء الشعور، وتحفيز الفكر، وإيقاظ الوعي. 

اللغة التي تنغلق على ذاتها، ولا تستجيب لتحولات الواقع، ولا ترتوي من ينابيع التجربة الإنسانية الحية، تفقد صلتها بالإنسان، وتتحول إلى كائن مشلول عاجز عن مواكبة ايقاع الحياة.

لا يمكننا تجديد رؤيتنا للعالم مالم نعمل على تجديد لغتنا، فكل كلمة في لغتنا تعكس منظورنا الذي نرى فيه العالم، ومفاهيمنا ليست إلا نتيجة لهذه المنظورات، كما يقول توشيهيكو إيزوتسو. في هذا السياق خصّص محمد عابد الجابري الفصل الرابع من كتابه "تكوين العقل العربي" لدراسة رؤية الأعرابي للعالم، وكيف كان: "الأعرابي صانع العالم العربي"، يكتب الجابري: "لقد جمعت اللغة العربية من البدو العرب الذين كانوا يعيشون زمنا ممتدًا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانًا بل فضاءً فارغًا هادئًا، كل شيء فيه صورة حسية، بصرية أو سمعية. 

هذا العالم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها، اليوم وقبل اليوم، وسيظل هو ما دامت اللغة خاضعة لمقاييس عصر التدوين.. أن يظل الذهن العربي مشدودًا، إلى اليوم، إلى ذلك العالم الحسي اللاتاريخي الذي شيده عصر التدوين، اعتمادًا على أدنى درجات الحضارة عبر التاريخ، حضارة البدو الرحل التي اتخذت أصلا، ففرضت على العقل العربي طريقة معينة في الحكم على الأشياء، قوامها: الحكم على الجديد بما يراه القديم"1 . 

تمتلك العربية بنية اشتقاقية ثرية تمنح الجذر الواحد طيفًا واسعًا من المفردات، وتتيح للكلمة أن تغدو ريشة ترسم الصور الموقظة للشعور، والمحفزة للبصيرة. نشأت العربية وترعرت في بيئة مشبعة بمجازات الشعر وكناياته وصوره، وارتقت بفضل القرآن الكريم إلى أفق رمزي رحب تتعدد دلالاته، وينفتح على التأويل، ويتسع للتجربة الذوقية التي تغذي الروح وتعمق الوعي. 

احتضنت العربية تنويعات الميثيولوجيا والحكاية، وتغذت على عوالم السرد في "ألف ليلة وليلة"، وانفتحت على الشذرات المتدفقة من الحياة الروحية للمتصوفة، ومقامات شهودهم للأنوار الإلهية، وتجاربهم في الإشراق والمكاشفة، فاستوعبت رموز الغيب، وتلألأت كلماتها بالتعبير عن الحياة العاطفية والروحية. تنوع مفردات العربية، وغزارة تراكيبها، يعززان قابليتها على احتضان أعمق الخبرات الروحية، والانفعالات النفسية، والأحاسيس الشعورية. 

وبفضل شفاهيتها الأولى، وبنيتها الإعرابية، وتوالدها الاشتقاقي، اتسع مجالها لغزارة طرائق التأويل، وأسست لتقاليد راسخة في فهم النصوص، ومراكمة معانيها. هكذا حافظت العربية على مكانتها بوصفها وعاء حيًا للدين، والخيال، والأسطورة، والشعر، والسرد، وأفقًا رحبًا للمعنى. تتجدد اللغة بقدر ما يتجدد الوعي الذي تتكلمه، وتتسع بقدر اتساع رؤيتها للعالم.

بما تمتلكه العربية من طاقة مجازية عالية، وتعدد في الدلالات، وتكاثر في الاشتقاق، وتوسع في المعجم، ووفرة في المرادفات، وغزارة وتنوع في الألفاظ، فإنها قادرة على احتضان أعمق الخبرات الشعورية، وأدق الحالات الروحية، وتجليات الغيب. 

وبما تمتاز به من قدرة على بناء الصور الشعرية المتنوعة، وثرائها في التعبير عن أشواق العاطفة العميقة، وغنى معجمها في سرد الأساطير والملاحم والمرويات الكبرى، بما تختزنه من طاقة رمزية، وقدرة على التلميح والمجاز والإشارة والتأويل. 

يغتني معجم العربية في تصوير العالم اللامرئي، وتجسيد معاني الغيب، ومخاطبة العاطفة، والتعبير عن خلجات النفس وانفعالاتها. تعزز هذا الغنى بتأثير القرآن الكريم في إعادة تشكيل الذوق والخيال، حتى غدت العربية لغة تتسع للتعبير عن الغيب، وتوظيف الرموز ورافقتها خبرة تجلت في تصوير ما يبتكره الخيال والأساطير والحكايات، وأمثال القبائل، وأناشيد الجماعة، وتنوعت تعبيراتها وأسهم انفتاحها التاريخي على حضارات متعددة، وتفاعلها مع لغات وثقافات أخرى، ومرورها بعصور ازدهار نثري وتأويلي وفلسفي وكلامي وأصولي وفقهي، في توسيع طاقتها الدلالية، وإثراء مخيالها، وتغذية منابعها في الفنون الأدبية المتنوعة، حتى غدت اللغة لا تنقل التجربة فحسب، بل تجسدها، وتفتحها على أفق يتسع لتأويل لا نهائي.

تواجه اللغة العربية اليوم جملة من التحديات التي تحد من قدرتها على التجديد، وتبطئ قابليتها على التكيف مع الحاجات اللغوية والثقافية والمعرفية للإنسان العربي. هذه الرؤية هيمنت على تفسير النصوص التشريعية، وبسطت سلطانها على لغة القوانين، فتعطلت إمكانية إنتاج لغة قانونية أكثر حيادية ودقة ووضوح، قادرة على تحديد المعاني من دون تعدد في الخيارات أو التفسيرات. 

من التحديات التي تواجه العربية اليوم تفشي الازدواجية بين الفصحى والعامية، واتساع اللهجات المحلية وعمق حضورها في الوعي واللاوعي لدى الناطقين بها، حتى غدت عامية البلد الذي ينتمي إليه المتحدث هي اللغة التي يفكر بها ويعبر من خلالها الإنسان عن مفاهيمه ومشاعره، بينما تراجع حضور الفصحى في الحياة اليومية، وانحصر مجالها في الإعلام وبعض المجالات الرسمية. 

وبمرور الزمن، ضعف التواصل بين أبناء الضاد أنفسهم، حتى صار المتحدث بلهجة أهل المغرب لا يكاد يُفهم لدى المتحدث بلهجة أهل المشرق، فتقلص الفضاء المشترك للغة العربية، وتعرضت وحدتها الثقافية والشعورية لتهديد حقيقي.

ضعف تواصل الإنسان العربي مع العربية التي يفترض أن تعبّر عن هويته، وانصرافه إلى لهجة بلده التي أخذت بمرور الزمن تبتعد عن الفصحى وتفقد صلتها بها. كل ذلك جرى خارج أروقة المجامع اللغوية، وأسوار تصوراتها التقليدية، وانشغالها بإعادة صياغة مفردات مستقاة من التراث، وإغلاق أبوابها أمام كل دعوة لتحديث قواعد اللغة، وأساليب التعبير، وتيسير النطق بها. 

استكانت هذه المجامع لدور الوصي على لغة توقفت عند ما أنجزه المتقدمون من منجزات ثمينة، من دون أن تصغي لما يفرضه الواقع من حاجات جديدة في التفكير والثقافة والكتابة والتواصل ورؤية العالم، فلبثت بعيدة عن مواكبة نبض الحياة، وعن الإسهام في صياغة أفق لغوي يجدد الصلة بين الإنسان العربي ولغته.

على الرغم من أن الحداثة الشعرية والأدبية في اللغة العربية تمتد لأكثر من قرن، فإنها لم تجد ما يواكبها من تحديث بنية اللغة وقواعدها ومعجمها، ولم تنهض المجامع اللغوية بمهمة شجاعة تلامس إيقاع التحولات الشعرية والأدبية والثقافية والمعرفية، وتستجيب لمتطلبات التجديد في أساليب التعبير وبناء المعجم. منذ بدايات القرن العشرين شهد الشعر العربي تحولات زلزلت البنية التقليدية للقصيدة، وأدخلت معاني جديدة، وابتكرت صورًا واستعارات لم تألفها لغة التراث، وغيرت إيقاع التعبير، وحررت القصيدة من سلطة البحور القديمة.

كان الرواد الأوائل لهذا التحول أمثال: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، وبلند الحيدري، وغيرهم، ممن اشتقوا قاموسًا شعريًا جديدًا، وأغنوه بمفردات استحضرت بعض الأساطير اليونانية والرافدينية والفينيقية والفرعونية وغيرها، وبنوا تراكيب تحمل شحنة شعورية ومعرفية تعكس قلق الإنسان المعاصر واغترابه وأسئلته الوجودية. 

كما انعكس هذا التجديد في البنية الموسيقية للقصيدة، وفي توظيف الرموز، والانفتاح على موضوعات بديلة، تحولت فيها الشعر إلى دعوة للإصلاح التربوي والتعليمي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي، ومطالبة بمنح الشعوب حرياتها، واسترداد الحقوق الضائعة للمرأة، ومعالجة الفقر والمرض والجهل والتخلف، والالتفات إلى الطبقات المهمشة، ورصد آلام الإنسان الفرد واغترابه، وما يعتمل في داخله من أسئلة كبرى لمعنى وجوده وحياته ومصيره.

كما أن السرد العربي الحديث أعاد تشكيل أساليب التعبير، ووسع آفاق اللغة، وأدخلها في فضاءات جديدة تكشف البنية النفسية العميقة للذات، بما يداهمها من عبث واضطراب واغتراب وقلق واكتئاب وأسى، وتلامس في الوقت نفسه التحديات السياسية والاقتصادية والتربوية والتعليمية والأخلاقية والثقافية التي تواجه المجتمعات. 

تجلى السرد العربي الحديث بأغنى أشكاله في أعمال: نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وعبد الرحمن منيف، والطيب صالح، وغائب طعمة فرمان، ويوسف إدريس، وذو النون أيوب، وحنا مينه، وإدوار الخراط، وفؤاد التكرلي، وجبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي، وغسان كنفاني، والمئات من الأدباء غيرهم، ممن فتحوا للسرد العربي فضاءات جديدة، وجعلوه أداة لكشف تحولات المجتمع، وتحليل أزماته، ورصد تحولات الإنسان في عمق تجربته الوجودية.

 جرى التجديد الأدبي خارج سلطة المؤسسات ومجامع اللغة ومعاهد التعليم الديني، بينما ظلت لغة التراث وكثير من أنصارها تعيد إنتاج معجمها القديم، متجاهلة للتحولات العميقة في وعي الإنسان ومعارفه وثقافته ولغته، غافلة عما يعيشه الفرد والمجتمع من آلام وهموم، من دون أن تدرك الحاجة إلى تحديث أساليب التعبير، وتحرير اللغة من القوالب المتصلبة. 

___________

1 - الجابري، محمد عابد، تكوين العقل العربي، ص 78، ط13، 2017، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

اضف تعليق