q
أثبتت الأبحاث التي أجريت في مجال الانحياز المعرفي أننا نميل إلى البحث عن المعلومات والآراء التي تؤكد قناعاتنا وأحكامنا المسبقة، وإذا ترددت هذه المعلومات على أسماعنا، سننتبه لها ونتذكرها أكثر من غيرها، وهذا يُسمى الانحياز التأكيدي. فإذا كنت تحب الخمور، فأغلب الظن أنك ستتذكر الدراسات...
كلوديا هاموند-صحفية علمية

 

درجنا على الاعتقاد بأننا نتشبث بآرائنا ولا نتراجع عنها مطلقا، لكن بحثا جديدا أثبت أن آراءنا، سياسية كانت أو غير ذلك، تتقلب باستمرار، ولأسباب قد لا تخطر لك على بال.

ربما تبدو شعوب العالم في الوقت الراهن أكثر انقساما من أي وقت مضى، ففي بريطانيا أفرز الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فريقين؛ أحدهما مؤيد للخروج والأخر معارض له، وكذلك الحال في الولايات المتحدة، حيث خيم الانقسام على المشهد السياسي بين أنصار ومعارضي الرئيس دونالد ترامب.

ومهما احتدم بيننا الجدال، سواء على طاولة الطعام أو في وسائل التواصل الاجتماعي، فيبدو أنه لا يزيدنا إلا تمسكا واقتناعا بآرائنا. لكن بحثا جديدا يكشف عن أننا قد نتنازل عن آرائنا، وتنقلب المعارضة في بعض الأحيان، إلى قبول وترحيب.

إذ طالما أثبتت الأبحاث التي أجريت في مجال الانحياز المعرفي أننا نميل إلى البحث عن المعلومات والآراء التي تؤكد قناعاتنا وأحكامنا المسبقة، وإذا ترددت هذه المعلومات على أسماعنا، سننتبه لها ونتذكرها أكثر من غيرها، وهذا يُسمى الانحياز التأكيدي. فإذا كنت تحب الخمور، فأغلب الظن أنك ستتذكر الدراسات التي تؤيد مزاياها وتنسى غيرها التي تؤكد مخاطرها.

فضلا عن أن أدمغتنا تعالج الآراء التي تتفق مع آهوائنا أسرع مما تعالج غيرها. ومن المعروف أنك إذا أعطيت مجموعة من الناس قائمة من جمل وعبارات مخالفة للمنطق ومليئة بالأخطاء اللغوية، فإن القارئ سيستغرق وقتا أطول لإدراك الأخطاء اللغوية، لأن المعنى أيضا غير دقيق.

وهذا ينسحب على الآراء، إذ طلب باحثون من الجامعة العبرية بالقدس مؤخرا من مشاركين تدقيق بعض الجمل التي تنطوي على آراء ووجهات نظر من الناحية اللغوية، مثل "الانترنت يشجع على مخالطة الأخرين" أو "الإنترنت يشجع على العزلة".

ولاحظ الباحثون أن المشاركين تمكنوا من استخراج الأخطاء اللغوية في الجمل التي تتفق مع قناعاتهم قبل غيرها. وهذا يدل على أن آراءنا وأحكامنا المسبقة تتحكم في قراراتنا دون أن ندري.

لعل هذه الأدلة تبرهن على أننا نتشبث بآرائنا. غير أن هذا لا يعني أن آراءنا راسخة لا تتغير مطلقا، بل على العكس، قد اتضح مؤخرا أن البشر متقلبو الأهواء ولا يستقرون على رأي.

إذ أجرت كريستين لورين من جامعة بريتيش كولومبيا بحثا استطلعت فيه آراء بعض الناس قبل تفعيل قرار حظر القوارير البلاستيكية في ولاية سان فرانسيسكو وبعده. ومع أن أحدا لم يؤيد القرار في البداية، فلم يكد يمر يوم واحد حتى تغيرت آراء الناس، إذ اكتشف فريق لورين أنهم أصبحوا أقل اعتراضا على القرار.

في هذه الحالة، لم يمض الوقت الكافي ليغير الناس سلوكياتهم للتأقلم مع الوضع الجديد واكتشاف مزايا القرار، ولكن يبدو أن نظرتهم للأمر قد تغيرت.

وهذا يعني أننا نسوق الأسباب التي نسوغ بها القرارات والأوضاع المفروضة علينا. وكأنها عملية لتفريغ الدماغ من بعض الأفكار المنغصة لنرضى بالواقع من خلال النظر إلى مزاياه وغض الطرف عن مساوئه. وتشبه لورين ذلك بالجهاز المناعي النفسي.

ثم استطلعت لورين وفريقها آراء الناس بعد قرار حظر التدخين في المتنزهات وشرفات المطعام في ولاية أونتاريو عام 2015. واكتشفت أن الناس لم يغيروا آراءهم بعد دخول الحظر حيز التنفيذ فحسب، بل نسوا سلوكياتهم قبل الحظر.

إذ ذكر المدخنون لفريقها قبل الحظر أنهم يدخنون في الأماكن العامة بنسبة 15 في المئة يوميا، ولكنهم قالوا بعد الحظر إنهم لم يكونوا يدخنون في الأماكن العامة إلا بنسبة 8 في المئة فقط. فهؤلاء المدخنون عدّلوا ذكرياتهم وبدلوا آراءهم ليقنعوا أنفسهم أنهم لم يتأثروا كثيرا بقرار الحظر.

ثم أجرت لورين وفريقها الاختبار الأخير والأكبر، إذ استطلعوا آراء الأمريكيين قبل تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وبعده.

ووفقا لاستطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب للأبحاث لتقييم معدل الرضا عن أداء الرئيس الأمريكي، فإن دونالد ترامب يحظى بأدنى نسبة تأييد بين الرؤساء الأمريكيين منذ الحرب العالمية الثانية.

ولو نظرت إلى هذه النسب قد تظن أن معارضيه الذين لم يصوتوا له من البداية قد ازدادوا سخطا واستياءا منه بعد أن أصبح رئيسا. لكن العكس هو الصحيح، إذ اكتشف فريق لورين بعد يومين فقط من تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، أن معارضيه غدوا أكثر تفاؤلا حيال أدائه.

ربما يكون الخطاب الذي ألقاه دونالد ترامب في حفل التنصيب قد ساهم في تعزيز ثقتهم في الرئيس الجديد. لكن لورين قالت في برنامج "أول إن ذا مايند"، وهو برنامج يستكشف قدرات العقل البشري، ويبث على إذاعة بي بي سي: "في الواقع قد تبين لنا العكس، إذ اكتشفنا أن الأشخاص الذين كانوا مستائين للغاية من خطاب تنصيبه ومن أدائه في حفل التنصيب، أصبحوا أكثر تفاؤلا وتأييدا للرئيس الجديد".

وتضيف: "هذا يدل على أن تغير الآراء والأهواء لا يكتسب بالتعلم عندما تفرض علينا سياسة جديدة أو يتقلد السلطة مسؤول جديد، بل يحاول الدماغ تسويغ الأمر وتجميله حتى يساعدك على تقبل الأمر الواقع، والتغاضي عن مساوئه".

غير أن هذا لا يعني أن كارهي ترامب أصبحوا يحبونه بعد أن تولى مقاليد الحكم، ولكن يمكن القول إنهم أصبحوا أقل بغضا له.

إذ أن الناس لا يعتادون ببساطة على الوضع الجديد، إنما يغيرون نظرتهم للأمر. وكأنها حيلة دفاعية لا شعورية للتغلب على الغضب بالبحث عن أسباب لإقناع أنفسنا بأن كل شيء سيكون على ما يرام.

وترى لورين أنها طريقة لا إرداية لإخلاء الذهن من بعض الأفكار السلبية للمضي قدما في الحياة. فلا وقت للغضب من كل صغيرة وكبيرة تصادفنا في حياتنا.

ولكن هذه العملية النفسية، مما لا شك فيه، كان لها جانب سلبي في بعض الحقب التاريخية، فربما تكون قد شجعت الناس على الاستكانة والصبر على أنظمة حاكمة رغم معارضتهم الشديدة لها.

ويؤيد هذه النتائج بحث سابق أجري عن نوع آخر من الانحياز المعرفي وهو المبالغة في تقدير استجابتنا الانفعالية للأحداث التي قد تقع مستقبلا.

إذ أجرى فريق من جامعة هارفارد مجموعة من التجارب برهنوا من خلالها على أننا عندما نتصور الأحداث التي قد تقع مستقبلا في مخيلتنا، نتوقع أسوأ التصورات بالنسبة للأحداث المؤلمة، وأفضلها بالنسبة للأحداث المبهجة. لكن في الواقع لا الأحداث المؤلمة تعصف بحياتنا، ولا الأحداث المبهجة ترفعنا إلى عنان السماء كما كنا نتوقع.

والسبب في هذه المشكلة أننا عندما نتصور الحدث في مخيلتنا قبل وقوعه، لا نستدعي إلا السمات البارزة المتعلقة به، ونتغاضى عن غيرها. فقد يكره البعض على سبيل المثال زيارة الطبيب، وهذا يعني أنهم يستدعون في الذاكرة الجوانب الأسوأ منها. غير أنها قد تنطوي على بعض السمات المحايدة، التي لا تعد منفرة ولا ممتعة، مثل قراءة المجلات في غرفة الانتظار.

وقد يتوقع المرء أن ينهار إن حلت به كارثة، أو في المقابل أن تنقلب حياته رأسا على عقب إن حدث شيء مبهج، ولكن في الحقيقة في كلتا الحالتين، سنظل كما نحن ولن تتغير حياتنا كثيرا. فبعد الصدمة الأولى، ستهدأ انفعالاتنا ونشعر أننا أتعس قليلا أو أسعد قليلا مما نحن عليه الآن.

وهذا ينسحب على السياسات أو الأوضاع التي تثير سخطنا، فنحن نلجأ قدر الإمكان إلى التعايش مع الواقع والقبول بتغييرات كنا نعترض عليها في البداية.

وبالرغم من أن هذا التجميل للواقع قد يعطينا أملا في الحياة، إلا أنه لا يعني أننا دائما نرضخ ونقبل قرارات الساسة والحكام رغم معارضتنا لها. فلولا الغضب الشعبي لما قامت ثورات وأطيح بحكومات أو سقطت أخرى في انتخابات رسمية.

لعلنا نلجأ إلى تسويغ القرارات وتجميل الأوضاع العصية على التغيير، ولكن بمجرد أن تحتشد الجموع الغفيرة الناقمة من الأوضاع، سيتوقف الناس عن البحث عن مبررات وأسباب لتقبل الوضع الراهن، وسيشعرون أنهم بإمكانهم، بمساندة الأخرين، التأثير في صناعة القرار، ثم يطلقون حملات من أجل التغيير.

ولكن إذا عجزنا عن تغيير الأوضاع، فإن التسليم والرضا بالوضع القائم قد يكون مهما للحفاظ على صحتنا النفسية.

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق