إذا أردنا أن نرى عراقًا جديدًا يخرج من مأزق الطائفية والفساد والتبعية، فعلينا أن نخلق في وعي الناس نزوعًا حضاريًا نحو الدولة الحضارية الحديثة. لن يتحقق ذلك بين ليلة وضحاها، لكنه مسار تراكمي يبدأ من الإيمان، يمر عبر القناعة، وينتهي بالإرادة الشعبية التي تفرض التغيير...
في ظل الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتراكمة، بات من الضروري اليوم الانتقال من ردود الأفعال الشعبوية والمطالب الفئوية إلى بناء وعي سياسي ناضج وجماعي. وعيٌ يتجاوز العناوين الطائفية والإثنية والحزبية، ويتأسس على فهم عميق لمفهوم الدولة ودورها في حياة الإنسان. وفي هذا السياق، تبرز الدولة الحضارية الحديثة كإطار نظري وعملي يمثل طموحًا واقعيًا لبناء العراق الجديد.
الوعي السياسي لا يعني فقط متابعة الأخبار أو المشاركة في الانتخابات، بل هو إدراكٌ لدور المواطن في صياغة شكل الدولة، ومحاسبة السلطة، والمشاركة في رسم السياسات. ومن دونه، تبقى الشعوب عُرضة للتلاعب من قبل النخب أو القوى الخارجية أو مشاريع الأدلجة.
إن بناء هذا الوعي ضرورة وطنية لأنه يشكل جدار الصد الأول أمام عودة الاستبداد، ويمنح الشعب أدوات الدفاع عن مصالحه العليا في وجه المشاريع الضيقة، سواء أكانت طائفية أو قومية أو شخصية.
تقوم فكرة الدولة الحضارية الحديثة، كما طرحتها في كتاباتي السابقة على منظومة متكاملة من القيم العليا (كالعدالة، الحرية، المواطنة، الكرامة الإنسانية) تحيط بـ"المركب الحضاري" المؤلف من خمسة عناصر: الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، والعمل.
ليست هذه الدولة مجرد حلم نظري، بل مشروع عملي لتحويل العراق إلى دولة ذات سيادة قانونية، اقتصاد منتج، مجتمع متماسك، علم متقدم، ونظام سياسي ديمقراطي شفاف. هذا النموذج يتجاوز ثنائية الدولة الدينية والدولة العلمانية، ويعيد تعريف الدولة بوصفها مؤسسة خادمة للإنسان، لا متسلطة عليه أو تابعة لطائفة منه.
كيف نخلق الإيمان الجماعي بالدولة الحضارية؟
1. التثقيف العام: نشر فكرة الدولة الحضارية الحديثة عبر المناهج التعليمية، الإعلام، والمنتديات الفكرية.
2. النخب الواعية: تشكيل كتلة تاريخية من المفكرين والإعلاميين والسياسيين المؤمنين بالمشروع، تعمل على الدفاع عنه وتسويقه سياسيًا.
3. البرامج السياسية: تحويل النموذج إلى برامج عملية تُطرح في الانتخابات وتتبناها الأحزاب الجديدة.
4. الخطاب الشعبي: صياغة الخطاب بلغة بسيطة وواقعية تمس حاجات المواطن اليومية (الخدمات، الأمن، الكرامة، فرص العمل).
إذا أردنا أن نرى عراقًا جديدًا يخرج من مأزق الطائفية والفساد والتبعية، فعلينا أن نخلق في وعي الناس نزوعًا حضاريًا نحو الدولة الحضارية الحديثة. لن يتحقق ذلك بين ليلة وضحاها، لكنه مسار تراكمي يبدأ من الإيمان، يمر عبر القناعة، وينتهي بالإرادة الشعبية التي تفرض التغيير. فالدولة ليست قدرًا مفروضًا، بل مشروعًا يُبنى بإرادة الشعوب.
اضف تعليق