الطغيان والاستبداد وجهلن لعملة واحدة، لهما أسباب تسرّع نموهما في المجتمع، وغالبا ما تكون هناك أمراض اجتماعية هي التي تسهم بطريقة أو أخرى في صناعة الطغيان والاستبداد، وعلى هذا الأساس فإن المجتمعات التي تمكنت من تقليل الأمراض الاجتماعية الى أدنى حد ممكن، تمكنت بالمقابل أن تقلل فرص ازدهار الاستبداد الى أدنى حد ممكن، لذلك قلما تجد الطغيان في المجتمعات الواعية، كونها حاضنة رافضة وطاردة للقيم الاجتماعية المريضة.
هل يعني كلامنا هذا أن الطغيان يمكن أن يكون الوليد المحتمل للتأخر والتخلف الاجتماعي، فإذا كان الطغيان في الجزء الأهم والأخطر منه سياسيا، فما علاقة القيم الاجتماعية وضعفها في صناعة الحاكم المستبد أو الطاغية، إن سلسلة الاستنتاجات في هذا الصدد تقودنا الى المعنى الذي يطرحه العنوان أعلاه، فالقيم المتأخرة هي نتاج مجتمع متأخر وهذه الأخيرة نتاج للجهل وقلة الوعي، فأينما تجد التخلف سوف تجد الطغيان والاستبداد مزدهرا.
وثمة الكثير من القيم المتخلفة، تسهم بطريقة أو أخرى في صناعة الطغيان، منها اضمحلال الثقة في التعامل المجتمعي، وانتشاء سوء الظن بالآخر وبالله، وانتعاش الاتهامات المتبادلة، وزرع الفتن والأحقاد بين الأفراد بعضهم مع بعض وبين المكونات الاجتماعية، ما يسهّل على الحاكم مهمة أن يكون طاغية متنمرا على شعبه، لذلك فإن سوء الظن وانعدام الثقة بين افراد الشعب، يسهم بطريقة أو أخرى في صناعة الحاكم الطاغية.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد في كتابه القيم الموسوم بـ (فلسفة التأخر) ما جاء في المقدمة حيث يقول سماحته:
(من فلسفة التأخر سوء الظن بالله وبالناس وبالنفس).
وربما تنتشر حالة سوء الظن بالآخرين، فتسود هواجس سيئة بين مكونات المجتمع، فينظر بعضهم الى بعض بحقد وتخوين ومكر ويسود الخداع والسرقة والفساد بينهم، ومثل هؤلاء قد يظن السوء بنفسه، وهذه أعلى مرحلة من سوء الظن، التي تعد مرضا اجتماعيا خطيرا يسهم بصناعة الطغيان على نحو متسارع.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي حول هذا الأمر: (قد يسيء بعضهم الظن بالناس بأنهم مكّارون، مخادعون، سارقون، مفسدون وربما أساء الظن بنفسه، فيتصور أنه لا يمكن أن يعيش، ولا أن يتقدم في الحياة. وكل هذه الأمور بالإضافة إلى كونها تخالف الواقع، فإنها تؤدي بالإنسان نحو البؤس النفسي، وتوقفه عن البناء والعمل، مما يقود بالنتيجة إلى هدم نفسية الفرد وتأخّره عن الآخرين، وبالعكس من كل ذلك حسن الظن).
المتملقون مرضى الاستبداد
وعندما يسيطر الحاكم الطاغية وتسنده حكومة فاسدة، فإننا سوف نكتشف من دون عناء كبير بأن الأمراض الاجتماعية، ومرضى المجتمع، أو على الأدق الأفراد المصابون بالأمراض والعقد الاجتماعية البالية، هي التي ساعدت على تقوية الحاكم المستبد وانتشار الفساد، وكثيرة تلك الظواهر والقيم المتخلفة أو المريضة التي تسهم بطريقة أو اخرى في صنع الطغيان، منها على سبيل المثال مرض التملق، وهو ملاصق لسوء الظن.
فالمتملقون يجدون حاضنة جيدة لهم في ظل الاستبداد من أجل إرضاء السلطة الأعلى أيا كان حجمها ونوعها، فالمهم بالنسبة للمتملق أن يصل الى ما يريد، علما أن ما يريده هؤلاء واضح، إنها مطالب مادية متدنية ومهينة وذات سقف معيب لا يليق بكرامة الإنسان السوي، لدرجة أن المتملق مستعد أن يذل نفسه لكي يرضي سيده، والسبب تافه حقا، هو الحصول على بعض المنافع التي لا يصح مطلقا أن يذل الانسان نفسه من أجل الحصول عليها.
يقول الامام الشيرازي عن ذلك: (من فلسفة التأخر التملّق، فإنه إذلال للنفس وإهانة لها، فيضعها دون موضعها، بالإضافة إلى أنه ربما أغرى الطرف الآخر ــ إذا كان حاكماً ــ بالاستبداد والتمادي في الغي والطغيان). هكذا يعمل المتملقون على صناعة الطغاة حتى من دون أن يعرفوا بذلك.
وقد لا يخطر على هؤلاء المرضى اجتماعيا بأنهم بأفعالهم الخاطئة هذه يسهمون بطريقة أو أخرى في تدمير القيم التي تحد من فرص الاستبداد، ولكن مع ذلك هناك اصرار وإيغال على مواصلة مسح الأكتاف، فيعتاد الحاكم الطاغية على مثل هذا السلوك وتنمو في داخله بذرة الطغيان، ليكون الشعب كله ضحية مثل هذه السلوكيات الخاطئة.
ربما لا يعرف من يسهم بإنعاش القيم والظواهر الخاطئة بأنه يساعد على تدمير الدولة والمجتمع، مقابل منافع هزيلة في المحصلة، ولكن عندما يرى الحاكم الطاغية مثل هذا السلوك الشائن الضعيف المفتقر للكرامة، فإن بذور الطغيان سرعان ما تنمو في تربة نفسه وذاته وأنانيته وغروره، ليصبح مع تقادم الزمن نمرا مفترسا على شعبه، فيصبح الطغيان معضلة يعاني منها المجتمع كله، في حين أن الأفراد أو حتى الجماعات التي تفكر بمصالحها فقط، وتسعى إليها على حساب الآخرين، ستكون هي السبب في الدمار الذي يتسبب به الطغيان.
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن الاستبداد محاط بألف انحراف وانحراف، فالمستبد يمنح نفسه أكثر من حقها، لذلك يخصص الرأي والحكم والإعلام والمال والسلطة ونحوها لنفسه).
عدم الاحترام إهانة للنفس
في داخل شخصية الطاغية أمراض كثيرة متداخلة، تجعل منه كائنا مريضا، يحاول التعويض عن العقد والامراض النفسية التي تفتك به، من خلال إلحاق الأذى بالأبرياء من شعبه، لسبب بسيط أن الطاغية مصاب بالأمراض التي يُصاب بها المتحلّقون حوله، من المرائين المخادعين الأذلاء بسبب سعيهم لمآرب دنيئة لا تنسجم مع الكرامة التي ينبغي أن يصونها كل إنسان حفاظا على قيمته ومكانته.
لذلك يسعى المستبد الى إلحاق الإهانة بالناس المحترمين، كونه يمتلك أدوات السلطة والقوة الغاشمة الخارجة على القانون، كي يبطش بالناس، كل هذا يحدث لأن هناك من ساعد الطاغية على أن يكون هكذا، فالطغيان يتواجد أصلا في نفوس بعضهم، ولكن هناك من يساعده على صنع وتضخيم حالة الطغيان، كما يفعل أصحاب إساءة الظن بالآخرين، والمتملقين، وغيرهم ممن هم مصابون بأمراض تدخل في صناعة الاستبداد والتجبّر.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (من فلسفة التأخر، عدم إعطاء الناس قدر حقهم، في أي بعد من أبعاد الحياة، فإنه ظلم وتعدّ وبغي، وقد قال سبحانه وتعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ).
ولكن حتى هذا الطاغية المتنمر، لا يدري ولا يشعر بأنه وهو يحاول اهانه الناس، إنما هو في الحقيقة يهين نفسه، لسبب واضح أن المجتمع بكل أفراده ينظرون الى هذا الطاغية على أنه كائن ساقط، فارغ من الأخلاق، ولا علاقة له بالقيم الإنسانية التي ترفع من شأن الإنسان وترفض أن تعرضه للإهانة أو الاستصغار في أي حال، لذا ليس الحاكم المستبد وحده سوف يشعر بالضآلة وصغر الحجم والقيمة أمام الناس، وإنما كل فرد يمتلك سلطة يحاول أن يفرضها خارج ضوابطها على الناس، سوف يكون أضحوكة في عيون الناس، شعر بذلك أم لم يشعر.
يقول الإمام الشيرازي تعبيرا عن هذا الرأي في كتابه (من فلسفة التأخر): (إن من لا يحترم الناس فإنه يهين نفسه ويسقطها في نظر المجتمع).
اضف تعليق