q

كان طفلاً صغيراً مميزاً بين الاولاد بشعره الأشقر وبشرته البيضاء ووجهه الدائري المكتنز، مع فطنة ونباهة تنضح من عيونه وهو يتسابق أقرانه للاقتراب الى الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في تلك الغرفة الصغيرة، وهو يستقبل وفداً من عوائل الشهداء والمعتقلين السياسيين في سجون الطاغية صدام، وذلك عام 1981، فحانت التفاتة من سماحته لهذا الصبي المتحفّز، فقربه اليه بإشارة منه، وسأله عن اسمه، فأجاب:

اسمي قيصر!، وبسرعة بديهية قال له سماحته: بل اسمك حيدر!.

فلسفة الدور الاجتماعي

ما الذي يدفع عالم ومرجع دين مثل الامام الراحل، ليكون قريباً الى هذا الحد من المجتمع؟، والسؤال الآخر الذي يطرحه البعض بصيغة أخرى: ما الذي يخوّل عالم الدين التدخّل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المجتمع؛ افراداً وجماعات؟.

بكل بساطة؛ لو عرفنا مدى تأثر الامام الراحل بشخصية الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، وحرصه الشديد على اقتفاء أثره في طريقة تعامله مع المجتمع، نكون أمام الاجابة الواضحة، ففي هذه الشخصية العظيمة أحد اسرار العبقرية والعظمة والتكامل الانساني، فالنجاح الذي تحقق خلال 23سنة من حياته؛ بشقيها المكيّة والمدنية، كانت بفضل العلاقة اللصيقة بأفراد المجتمع.

ولعل هذا بدوره يذكرنا بالإجابة على جانب من الاسئلة الحائرة التي طرحها المؤرخون والمفكرون الغربيون عن السر وراء تغيّر مجتمع الجزيرة العربية، وتحوله من مجتمع جاهلي الى مجتمع حضاري في غضون فترة قياسية جداً في حساب الحضارات البشرية.

فالسيرة النبوية تسجل لنا بعض المواقف والمشاهد من هذه العلاقة؛ من إفشاء السلام الى الكبير والصغير، والبشاشة الدائمة والحب واحترام المشاعر وتلبية الحاجة وغيرها من مفردات الاخلاق الحميدة التي كان الهدف منها بناء المجتمع على لبنات الاخلاق والقيم الانسانية، وهو ما تحقق جزءٌ كبير منه، وتمكن المسلمون من خلال هذه الموهبة العظيمة ان يبسطوا جناح الاسلام في مشارق الارض ومغاربها.

هذا ما كان في بداية الدعوة الى الاسلام والمراحل الاولى لبناء المجتمع الاسلامي، أما اليوم، حيث نشهد تطور الفكر الانساني وتبعاً له تطورت الحياة بسبب ما انتجه الانسان من وعي وثقافة أفرزت جملة أسئلة عن كيفية تحقيق النجاح وتجنب مخاطر الفشل؟، وايضاً في كيفية تطابق العقيدة والثقافة والتاريخ مع المتطلبات المستجدة في الحياة؟ وهذا ما تنبه اليه الامام الراحل في بواكير تصدّيه للعمل الرسالي، فاستفاد من التجربة النبوية ليس لبناء المجتمع الاسلامي هذه المرة، لانه موجود، إنما لنشر الوعي والثقافة في هذا المجتمع حتى يكون مؤهلاً للتفكّر والاستنتاج للوصول الى الخيار الصحيح.

وإذن؛ فان الجديد الذي أبدعه الامام الراحل في الساحة الاسلامية، انتاج الوعي والثقافة من صميم واقع المجتمع، وليس تصديره اليه من الخارج، وليكون بمنزلة الوليد الشرعي والنتاج الطبيعي للمجتمع، فبقدر حيويته واستجابته وقدراته، يكون نصيبه أوفر من الثقافة والوعي.

إن تغيير أسماء الاطفال وافشاء السلام ومبادرة الشباب بالسؤال عن كونهم متزوجين أم لا، وغيرها من السمات الاجتماعية الثابتة للامام الراحل، كانت تمثل نسخة طبق الأصل عن السمات الاجتماعية للنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ومن خلال هذا السلوك الاجتماعي يعرف افراد المجتمع، أن هنالك يد كبيرة من شأنها مساعدته لتحقيق السعادة في حياته، ويعوا مكانتهم من الاسلام الذي ينتمون اليه ثم دورهم في تطبيق النظام الاسلامي على واقع حياتهم.

العطاء قبل الأخذ

من خلال قراءة سريعة لتجارب الحركات الاسلامية والتيارات الثقافية، أن اهم مشكلة عانت منها وكانت وبالاً على مسيرة عملها؛ ايغالها في التنظير والتقريع ثم المطالبة من الناس بالولاء والتفهّم والارتقاء الى المستوى الذي تراه مطلوباً عندها، واذا ما حصل التلكؤ، فتحوا نيران الاتهامات وإلصاق مختلف الصفات الدنيئة، من قبيل؛ الميوعة او القابلية على الاستعمار وحتى وصل الأمر أخيراً الى التكفير، و هذا يجعلنا لا نستغرب عدم معرفة المجتمعات الاسلامية بقدرة الاسلام على قيادة الحياة، وما أفرز هذا من عزوف الشباب عن التديّن وانتشار حالات الإلحاد والتجديف والتشكيك بالدين والاحكام والقيم.

ولذا نلاحظ سماحة الامام الراحل يؤكد في غير مؤلف له، على تميّز علماء الدين والمراجع في تاريخهم الطويل بالعطاء العلمي والثقافي حتى النفس الاخير، فهم لا يدخرون شيئاً لانفسهم إلا ما يستقوون به على التواصل مع جميع افراد المجتمع لئلا يبقى هنالك فقير في المال والعلم والأدب، ويعزو التفاف الناس واتباعهم للعلماء الى هذه الميزة من جملة مميزات وعوامل اخرى، ويشير في "الصياغة الجديدة" الى 35 عالم دين ضحوا بأرواحهم في طريق النهضة ونشر الوعي والثقافة الاسلامية، فمنهم من دُس اليه السم، ومنهم استشهد تحت التعذيب في مطامير السجون ومنهم من استشهد شنقاً اوغيلة.

ويجب أن نتذكر دائماً أن مسيرة العطاء التي خاضها علماء الدين، لم تسفر فقط عن تضحيات بالنفس، إنما هنالك التضحية المعنوية بالسمعة والمكانة الاجتماعية،وربما يكون هذا أمضّ على الانسان من الموت السريع والمريح الذي يلحقه بالصالحين في جنان الخلد، بينما في هذه الحالة فهو يعيش حالة تعذيب نفسي في أمد غير منظور، وهذا ما جربه الامام الراحل في فترات من حياته، ومن نافلة القول؛ انها ايضاً جزء من التأسّي والاقتداء بالنبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، الذي واجه التكذيب والحرب النفسية، كما خاض نفس التجربة سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام.

ولكن؛ هذه التضحيات الجسام هي التي تغذي المجتمعات والامة بالوعي والثقافة والفكر، كما تجعله يعطي زمام القيادة عن طيب خاطر وإيمان كامل بصدق وقدرة العالم على التغيير الحقيقي وايجاد الحلول الجذرية لما تعانيه من ازمات ومشاكل.

اضف تعليق