ان الفراغ القيادي يمثل نتاج انحراف الحكام؛ فإن السيد الشيرازي، وبرؤية مستقبلية ثاقبة يؤشر على أهمية مشاركة الناس في اختيار القادة والحكام، وذلك من خلال المشاركة في الممارسات الانتخابية التي تقام في البلدان. فهو بقوله (ذنب الذين رضوا أن يحكمهم ...) يريد أن يقول أنكم أيها الناس قادرون على المساهمة الفعلية في صنع مستقبلكم الذي تحلمون به من خلال المشاركة الواعية، والاختيار الصحيح للأشخاص المناسبين.

حينما يعاني الشعب من فراغ على مستوى القيادة؛ فإن خللاً حتمياً سيربك سير الحياة. ولو تطرقنا لأهمية العامل الديني، وحضوره الفاعل وتأثيره في داخل الفرد الإنساني؛ لأدركنا أهمية الدور القيادي الذي يمكن أن يلعبه القائد الذي يمثل الحالة الدينية. لكن ماذا لو تصرف القائد الديني على نحو يشبه التفرد؟ عندها سيكون الخلل مضاعفاً، وتأثيراته السلبية أكثر؛ لذلك كان لا بد من قيادة جماعية تأخذ على عاتقها مهمة توطيد العلاقة مع الأمة مع الأخذ بنظر الاعتبار الجانب الروحاني الكبير للقيادات العلمائية التي ستعمل وفق مبدأ أصيل ومتجذر وهو مبدأ الشورى. ومثل هذا التصور ينبغي أن يتبناه ــ حتى من دائرة الفقهاء ــ الذين يؤمنون بمنطق الحركة التي تمتد لتشمل كل الجوانب التي تحيط بالإنسان، خصوصاً بما يتصل بجوانبه الحياتية التي لا علاقة لها بالصراعات والتجاذبات السياسية للدول ومصالحها، ويكون الإنسان ضحية هذه الصراعات.

ومن هذه المرتكزات المهمة والحيوية؛ جاءت فكرة شورى الفقهاء التي تبناها المفكر والمرجع الراحل السيد (محمد الحسيني الشيرازي/ قدس سره) والتي نادى فيها بضرورة تجديد الأفكار والدخول بكل القضايا الاقتصادية والاجتماعية بهدف تهيئة الإنسان للعب دوره المحوري في الحياة. ونظرية شورى الفقهاء مستندة لجذر إسلامي متأصل ولم تأت من فراغ، بل ثمة تأكيدات قرآنية "وأمرهم شورى بينهم" ما يعني أهمية التشاور وضرورة اعتماده كمنهج يضمن الحرية والعدالة الاجتماعية، ويكفل عدم التسلط والقهر وغيرها من الممارسات التي لاتجلب السعادة للبشرية. والحديث عن أهمية شورى الفقهاء من الناحية الفقهية ليس هنا مورده في الحقيقة؛ لأنه من اختصاص المختصين. الذي نريد أن نقوله من خلال الاستشهاد بنظرية شورى الفقهاء هو الأثر الذي ستتركه عملياً على قضية الفراغ القيادي وكيف سيتم ملء هذا الفراغ وفق هذه النظرية التي تحمل سمات مستقبلية تعمل على تصحيح الأخطاء التي وقع ويقع فيها العالم البشري جراء استسلامه للمنطق المادي الغربي، والذي يعمل على إلهاء وتخدير الشعوب، فتغض النظر عن الانحرافات التي تزيد من فراغات القيادة، وهذا البديل بحسب رؤية السيد الشيرازي يتمثل في إيجاد البديل العملي في السياسة والاقتصاد حيث يستشهد بسقوط الشيوعية؛ بسبب ظهور الخيار الغربي الذي صار أفضل حتى مع سيئاته الكثيرة1.

الفراغ القيادي يبدأ من انحراف الحكام

أكثر شيء يمكن أن يتسبب بفراغ القيادة حتى مع وجود القائد أو الحاكم الفعلي، يتمثل بالممارسات التي تجعل الحاكم منحرفاً عن جادة الصواب. وقد يأخذ الانحراف القيادي أشكالاً عدة، لكن أكثرها ضرراً هو ما يتعلق بهوس الحكام بالحروب وإشعال النزاعات، والتنافس غير المفيد بين الأقطاب العالمية من أجل النفوذ، كما حدث مثلاً في الصراع الشهير بين الرأسمالية ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية، وبين الاشتراكية ممثلة بالقطب الشيوعي الاتحاد السوفيتي. فكم أنفقت من الأموال في هذا الصراع؟ ومالذي استفادته البشرية جراء هذا التناحر المؤدلج؟

إن إدامة هوس الحرب لدى الحكام يجعل الفجوة بينهم وبين الشعوب تزداد. هذا التصور عندما يتجسد بسلوكيات قائد يتبنى التوجهات والمبادىء الإسلامية، كقادة الجماعات المتطرفة المدعومة من قيادات رسمية؛ سيتولد حينها تصور خاطىء عن الإسلام كمنظومة إنسانية شاملة. وفي هذا الصدد يقول السيد الشيرازي: "ماشاهده المسلمون أولاً، والعالم ثانياً، من المظالم التي اقترفتها أنظمة سياسية تحت اسم (الدولة الإسلامية)، ابتداء من نظام الحكم الأموي بزعامة معاوية ومن سبقه من الغاصبين، وانتهاء بسقوط آخر خليفة عثماني في تركيا، خلق لدى معظم أهل العالم انطباعات سيئة عن الدولة الإسلامية، ظناً منهم أنها هي نفسها التي أدارها الأمويون والعباسيون، ومن جاء بعدهم، لذا رأى الناس ــ مسلمون وغيرهم ــ أن في قيام الدولة الإسلامية تكراراً للمآسي والدمار، ولذا أخذت الجلود تقشعر من اسم (الخليفة) و (الأمير) و (الحكم الإسلامي) وغيرها من الرموز.. ومن الواضح أن ذلك لم يكن ذنب الإسلام، وإنما كان ذنب الذين رضوا بأن يحكمهم مثل أولئك الذين انحرفوا عن الإسلام"2

وبما أن الفراغ القيادي يمثل نتاج انحراف الحكام؛ فإن السيد الشيرازي، وبرؤية مستقبلية ثاقبة يؤشر على أهمية مشاركة الناس في اختيار القادة والحكام، وذلك من خلال المشاركة في الممارسات الانتخابية التي تقام في البلدان. فهو بقوله (ذنب الذين رضوا أن يحكمهم ......الخ) يريد أن يقول أنكم أيها الناس قادرون على المساهمة الفعلية في صنع مستقبلكم الذي تحلمون به من خلال المشاركة الواعية، والاختيار الصحيح للأشخاص المناسبين، وهذا الاختيار؛ يضمن لكم عدم انحراف الشخص الذي سينال ثقتكم من خلال برامجه وتطبيقاته، وليس من خلال الشعارات فقط. وبالتالي فإن عدم انحرافه كحاكم سيضمن بطبيعة الحال عدم حصول فراغ قيادي، وبذلك يكون الناس مساهمين فاعلين في ملء هذا الفراغ كلما سنحت الفرصة لذلك عبر الانتخابات، ومن دون الحاجة للسلوكيات العنفية والممارسات المتطرفة التي تضر بكيان المجتمع أكثر مما تنفعه.

------------------------
1: يُنظر: فقه المستقبل، السيد محمد الشيرازي، ص155
2: السيد محمد الشيرازي، عالم الغد، الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام،
ص161 و162

اضف تعليق