الأمم الذكية هي التي سبقت الآخرين في اعتماد أساليب التبرع المختلفة لمواصلة أعمال البناء الحضاري في شتى المجال، صحيح أن الفكر يبقى في حيز الكلمات المجردة، ولكن جميع الأفكار تنتهي بالنتيجة الى المجال العملي، فتتحول الأفكار الى أفعال تتجسد في واقع الإنسان وتسهم بطريقة أو أخرى في تطوير حياته ونقل أساليب العيش من حال الى حال، علما أن البناء من خلال التبرع لا يتوقف على النتائج التي تخضع للرؤية البصرية أو لحاسة اللمس، وإنما هنالك أبعاد أخرى قد تدخل في إطار الجانب الروحي.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم (انفقوا لكي تتقدموا):
(هنالك أحاديث كثيرة تشجع الناس على الإنفاق والإعطاء والوقف والضيافة والهبة وغيرها.. وفي بعض الأحاديث: إن الصدقة تدفع البلاء وتعمل على زيادة الرزق وأنها تمنع الموت وتدفع ميتة السوء).
وطالما أننا دخلنا في الكلام عن الجانب الروحي، فإن الإنفاق بأنواعه، يمكن أن يدفع عن الإنسان أضرارا كثيرة، وبعضها قد تكون خطيرة تصل الى تهديد حياة الإنسان بالموت، إن التبرع قد يكون ذا سمة مادية، ويمكن أن نرى نتائجه في البنايات والأشكال ذات التجسيد المادي بأنواعه الكثيرة، لكن هذا لا يقصر دور التبرع والإنفاق على هذا الجانب فقط.
حيث يقول الإمام الراحل، في كتابه نفسه عن هذا الموضوع: (لقد أخبر عيسى بن مريم (عليه السلام) قومه بموت حطاب ثم لم يمت في الوقت الذي حدده عيسى، فسأله الحواريون عن سبب عدم موته فقال اسألوه ماذا صنع؟ فسألوه فقال: أنفقت طعامي).
ليكن الرسول أسوة لكم في الإنفاق
وحتى نفهم ماذا يعني التبرع، وكيف يشترك في بناء الدول، وبأية طريقة يقود الأمم نحو العلا والسؤدد، علينا أن ندرس أسلوب الرسول الأكرم (ص)، وكيف قاد العمل الجبار في بناء دولة المسلمين العظمى، عندما شارك في هذا البناء كل من هو قادر على مد يد العون لهذه الدولة التي بدأت بمظهر نشر الرسالة النبوية الوليدة، مع خوض ذلك الصراع الرهيب ضد المشركين، وخوض الحروب في ظروف مختلفة وعصيبة، حيث تم تعبئة جميع الطاقات وكان للتبرع والإنفاق قصب السبق في توفير وسائل الفوز والنجاح، وكان القائد الأعلى، الرسول الكريم معلما للجميع في مجال التبرع والإنفاق لبناء الدولة بمواصفات حضارية عظيمة.
فقد قال الإمام الشيرازي في هذا المجال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق كل ما استطاع إنفاقه، ويعد مالا يقدر عليه، حتى استشهد وهو مدين وقد كانت الأموال تأتيه كالسيل).
واذا كان القائد الأعلى للمسلمين يموت وهو مدين لآخرين بسبب التبرع والإنفاق على بناء الدولة والأمة، فإننا من هذه النقطة وهذا الدليل بالذات، نكتشف أهمية التبرع، وينبغي أن يكون درسا لنا في هذا المضمار، وأن يشكل حافزا للناس جميعا، خصوصا أن هذا الأسلوب أثبت نجاحا قاطعا في البناء والتطوير، وهذا الأسلوب القيادي أخذه الإمام علي عليه السلام عن معلمه الرسول الأكرم فكان أسلوبا لحياته في الإنفاق والتبرع.
فقد كان الإمام علي في أثناء قيادته وإدارته لأمة المسلمين، وقبلها أيضا، حريصا على هذا المنهج في البناء الحضاري، وهو بناء في المجالين المادي والمعنوي، وقد كان الإمام من أوائل وأكثر المتبرعين، لدرجة أنه لا يعبأ بقوت نفسه، حتى ما يسد رمقه يكون عرضة للتبرع، وبهذه الطريقة العصماء تمكن قادة المسلمين العظماء من بناء أعظم دولة إسلامية تصدرت آنذاك جميع الدول وتقدمت على جميع الأمم.
ولا شك أن هذا الأسلوب في البناء يعطينا الإجابة الشافية عن الأسباب التي أدت الى أن يستشهد الإمام علي قائد المسلمين وهو مدين بمبلغ من المال كان يقدمه للناس المحتاجين على أمل سداده في الوقت المناسب، واذا كان قادة المسلمين العظماء يرون في التبرع والإنفاق هذه الدرجة الكبيرة في توفير ابناء الحضاري الأفضل للدولة والإنسان، فما أحرى بالحاضرين اليوم قادة والآخرين، أن يمضوا في هذا الأسلوب الذي أثبت نجاحه وتفوقه في البناء.
يقول الإمام الراحل حول هذا الموضوع: (كان علي عليه السلام ينفق كل ما يجد، وكان لا يدع لنفسه حتى مقدار الأكل اليومي، وهو يقول: (يا بيضاء! ويا صفراء! غري غيري)، ولما استشهد كان مديناً بسبعمائة ألف أوصـــى بأن يوفيها الإمام الحسين عليه السلام).
المسلمون السابقون أكثروا من التبرع
وعندما تأكد المسلمون السابقون من أهمية أسلوب التبرع والإنفاق في البناء، لم يترددوا قط في استثمار هذا الأسلوب في بناء دولتهم وأمتهم وأنفسهم، بل بادر القادة أولا في توضيح ذلك للجميع، وحثوا الجميع على أهمية جعل هذا الأسلوب في الصدارة من اهتمامهم وطريقة حياتهم، وقد ثبت لهم أن الإنفاق يزيد من أرزاقهم، ويضاعف من فرص الحياة الأفضل لهم، فأكثروا من الصدقة، والإنفاق، والوقف، وباشروا في بناء المساجد والمدارس وكل ما من شأنه تطوير حياة الناس ونقلهم من حال الى حال أجمل وأفضل وأقوى.
يقول الإمام الشيرازي رحمه الله بهذا الصدد: (جزى الله المسلمين السابقين.. فقد أكثروا من الصدقة، والإنفاق، والوقف، حتى أنهم وقفوا لكلاب القوافل، ومن درس أوضاع البلاد الإسلامية بدقة، رأى كثرة المساجد، والحسينيات، والربط، والخانات، والبساتين، والحوانيت، والدور الموقوفة).
والسؤال الذي يمكن أن يُثار في هذا الخصوص، هل هذا المنهج نجده بين مسلمي اليوم كما كان يفعل المسلمون السابقون؟ في الحقيقة هناك مشكلة في هذا الجانب، تتمثل بحالة التلكؤ في هذا المجال، نعم هنالك تبرعات، وهنالك إنفاق ولكن ما يحدث اليوم لا يساوي نصف ما كان يقدمه المسلمون آنذاك، مع أننا نلاحظ نجاح الأمم الأخرى في هذا المجال، حيث يتبرع الأثرياء بكثرة، وتُقام المؤسسات الخيرية، وتقام المشاريع الكبيرة، وكل ذلك من أموال الإنفاق الأهلي والأثرياء والتبرعات المدنية وليس الحكومية، وقد ساهم ذلك بتطوير حياتهم بصورة فاعلة وكبيرة
وقد جاء في كتاب الإمام السيد الشيرازي حول هذا الجانب: (في هذا العصر الذي تفجر النفط في كثير من بلاد الإسلام، لا ترى حتى نصف ذلك المقدار من موقوفات جديدة، فهل هذا زهد من المسلمين في الآخرة، أم زهد منهم في الدنيا؟ فإن الدنيا أيضاً تتوقف على الأوقاف والخيرات.. وبالعكس: ترى غير المسلمين يوقفون بكثرة هائلة).
لذلك ربما لا نأتي بجديد، عندما نكتب ونركز ونذكّر بأهمية هذا المنهج، ولابد من التذكير أن نوع التبرع ومقداره ليس هو المهم، بل المبادرة والاستعداد للإنفاق يقف في المقدمة، أي بمجرد أن يبدي الإنسان رغبته في مساعدة الآخر وفي إعلان المساهمة بهذا المشروع أو ذاك من المشاريع التي تطور حضارة الأمة وفكرها وتبنيها ماديا ومعنويا، فإن ذلك سوف يشجع الآخرين على الدخول في مجال المنافسة والإقدام على هذا المنهج الذي يصب في البناء والارتقاء، وهذه دعوة لأثرياء المسلمين للمساهمة الفعالة في تطوير هذا المنهج الحضاري الكبير. وقد دعا الإمام الشيرازي في مخاطبة أثرياء الأمة قائلا: (فليرغب أثرياؤنا في ثواب الله سبحانه وأجره، وليحفظوا دنياهم بالإنفاق والوقف).
اضف تعليق