قول الإمام علي (ع) هو دعوة مفتوحة لكل مسؤول وموظف ومواطن، إلى مراجعة الضمير قبل الحساب، وإلى مقاومة إغراء المال الحرام، وإلى إدراك أن القيمة الحقيقية للإنسان ليست فيما يملكه من أموال، بل فيما يحمله من مبادئ، ويحافظ عليه من كرامة، ولذلك فإن محاربة الرشوة لا تكون فقط بسَنّ القوانين والعقوبات، بل ببناء ثقافة النزاهة الإنسانية...
من نفائس ما ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من حكم ومواعظ، قوله: "من اغتنى بالرشوة افتقر بعرضه"، وهي عبارة موجزة تحمل معاني عظيمة في فقه الأخلاق والسياسة والعدل، وتكشف عن أثر الرشوة في تخريب الضمير والمجتمع معًا، والرشوة لغةً هي العطية التي تُقدّم لقصد التأثير، وشرعًا هي ما يُعطى للقاضي أو الموظف ليحكم أو يعمل خلافًا للحق أو الواجب، وهي في جوهرها انحرافٌ في السلوك وتزييفٌ للعدالة وتخريبٌ لنظام المساواة بين الناس، وفي مجتمعات يُستباح فيها المال العام، ويُقدَّم فيها صاحب الجاه على صاحب الكفاءة، تتحول الرشوة من فعل فردي إلى سلوك مؤسسي مُمَنهج، يفتك بالمجتمع من الداخل ويهدم ثقة المواطن بالدولة والقانون.
لو جزئنا قول الإمام (ع): "من اغتنى بالرشوة"، فسنجد فيه تعبير دقيق، فالإمام لا ينكر أن الرشوة قد توفّر مالًا لصاحبها، لكنها ثروة وهمية مشوبة بالخيانة، لأنها تقوم على الاستغلال والكذب وإهدار الحقوق العامة، فهي مالٌ ممزوجٌ بدماء المظلومين وصراخ الفقراء ودموع المقهورين، لكن الإمام (ع) لا يتوقف عند هذا الاغتناء المادي الظاهري، بل ينتقل إلى النتيجة الأهم والأخطر وهي افتقر بعرضه!، والعَرض في لغة العرب هو السمعة والشرف والاهل والاعتبار الاجتماعي، ومن افتقر بعرضه، فقد افتقر إلى ما لا يُشترى ولا يُعوَّض، فكل من يغتني بالرشوة يبيع شرفه العائلي والمهني والإنساني بثمنٍ بخس، ويخسر احترام الناس وثقتهم، ويعرّض نفسه للهوان في الدنيا والعقوبة في الآخرة.
بل إن سمعة المرتشي تلاحقه حتى بعد موته؛ فلا يُذكر إلا مقرونًا بالخيانة والذل، أما من صان نفسه وعفّ عن المال الحرام، فقد حفظ دينه وعرضه وكرامته، وكان بحق غنيًّا حتى وإن قلّ ماله، ولقد جرّم المشرّع العراقي الرشوة بشكل صريح في قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969، إذ نصّت المادة (312) وما بعدها على تجريم كل موظف يطلب أو يقبل رشوة مقابل أداء أو الامتناع عن عمل من واجبات وظيفته، وحددت عقوبات تصل إلى السجن والعزل وردّ المال، كما نصّ قانون النزاهة والكسب غير المشروع رقم (30) لسنة 2011 المعدل، على متابعة مصادر الإثراء غير المشروع، وعلى رأسها الرشوة، باعتبارها من أدوات الفساد الكبرى التي تقوّض هيبة الدولة وتعطّل العدالة، لكن القانون وحده لا يكفي إن لم يُصاحبه وعي أخلاقي مجتمعي يُجرّم الرشوة معنويًا قبل أن يجرّمها قانونًا.
ختامًا- قول الإمام علي (ع) هو دعوة مفتوحة لكل مسؤول وموظف ومواطن، إلى مراجعة الضمير قبل الحساب، وإلى مقاومة إغراء المال الحرام، وإلى إدراك أن القيمة الحقيقية للإنسان ليست فيما يملكه من أموال، بل فيما يحمله من مبادئ، ويحافظ عليه من كرامة، ولذلك فإن محاربة الرشوة لا تكون فقط بسَنّ القوانين والعقوبات، بل ببناء ثقافة النزاهة الإنسانية، وتقديم القدوة الصالحة، وربط الوظيفة العامة بالأمانة والرسالة لا بالغنيمة والمصلحة.
اضف تعليق