q
الثقافة الاسلامية والدين الاسلامي بشكل عام يُظهر انسانية الانسان ولا يطمسها، فاذا التزم الانسان بهذه الثقافة الربانية سوف تساعده على إظهار انسانيته، في حين الالتزام بالثقافات الاخرى التي لا تنسجم مع فطرة الانسان يؤدي الى طمس انسانيته، وزيادة الشوائب التي تغطي على هذه الانسانية...

{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}

سورة الروم- الآية:30

ثمة اعتقاد بان ما يحمله الانسان من قناعات وافكار وتقاليد قابلة للتغيير والتعديل وفق الظروف الاجتماعية وتطورات الزمن، وإن كانت تستقي مصدرها من قاعدة أصيلة تولد مع الانسان و ترافقه طيلة فترة حياته، وتسمى "الفطرة".

بل ذهب البعض الى أن الاعتقاد بوجود هذه القاعدة مدعاة لتكبيل الانسان في قوقعة التخلف والتبعية، في الوقت نفسه تمكن شريحة في المجتمع من استغلال الآخرين لتحقيق المزيد من الثراء والهيمنة، وذلك من خلال الابقاء على هذه الثوابت للحؤول دون حصول تغييرات في البنية الاجتماعية والاقتصادية ثم السياسية ما يهدد مصالحهم ومستوى ثرائهم.

ولا أخال المنظرين لهذا التصور يجهلون وجود الفطرة السليمة لدى الانسان، وميله العفوي للعطاء والتفاعل مع الآخرين، بموازاة ميله العفوي والفطري ايضاً نحو التملّك والتفكير بالذات، فمن الصعب تكذيب حقائق واضحة كالشمس لما يستشعره أي انسان عاقل.

تجارب ماثلة للعيان

ابرز اسقاطات النظام الرأسمالي القائم على الملكية الفردية انه فتح الباب واسعاً أمام الاثرياء وملاكي الاراضي والمواشي، وفي فترة لاحقة؛ المصانع والشركات، لأن يزيدوا من ثرائهم مستغلين الشريحة الفقيرة، وإن تفتّقت عقول علماء الاقتصاد الرأسمالي عن نظرية "دعه يعمل دعه يمُر"، فانها فتحت باباً لابناء هذه الشريحة لأن تتحول الى أجزاء صغيرة في ماكنة الانتاج الكبيرة العائدة الى أولئك الأثرياء الكبار، فوجد الانسان الغربي أن حياته تحولت الى ما يشبه سكتي قطار ممتدة غير قابلة للتوقف؛ العمل والانتاج، ولا غير، فالصغير والكبير، وحتى المرأة راحت تسابق الرجل في المصانع والشركات التجارية، فضلاً عن انزلاقها المريع في عالم السينما المبتذلة، وتجارة الرقيق الابيض، والدعايات الرخيصة للسلع الاستهلاكية، فضاعت الأسرة، وانعدمت الأخلاق والقيم الانسانية، رغم إن الادعاءات تقول بأن ما يجري هو استجابة لفطرة الانسان وميله للعمل والانتاج والتملك، ثم توفير الحياة المرفهة والسعيدة له، وهو نجحت الماكنة الاعلامية الغربية لترويجه بذكاء منذ خمسينات القرن الماضي، ليكون الانسان الغربي في عيون العالم، نموذج الانسان الناجح والسعيد قبل أن تتضح الحقائق فيما بعد ليعرف هذا الانسان بأن الغاية لم تكن إسعاده هو تحديداً بقدر تحقيق المزيد من الثراء والهيمنة، وهذا من خلال جملة تطورات شهدها العالم، ليس أقلها إدارة الغرب للحروب في العالم الثالث، وما أنتجه الزواج المحرّم بين ديكتاتوريات العالم الثالث و"الغرب المتحضر" من أزمات قاتلة، مثل الهجرة، والارهاب، ثم تراجع سلامة المناخ العالمي بسبب الانبعاثات السامة من المصانع، وانتشار الأوبئة الفتاكة، وبالمختصر؛ وجد الانسان الغربي نفسه الوحيد في الساحة يبحث عن حل لينجو من الموت، او يتخلص من حياة الذل.

وبالضد من هذا المسار جاءت الفكرة المقابلة بدعوى انقاذ الانسان من براثن الاستغلال والعبودية لاصحاب الرساميل وكبار الاثرياء، فألغت الملكية الفردية، ودعت الى الملكية العامة "لوسائل الانتاج"، بدعوى أنهم يعالجون جذر المشكلة في استرسال الانسان بالتملّك، ثم الاثراء، ثم الهيمنة بهذا الثراء على الآخرين لاستغلال قدراتهم، ثم استعبادهم.

وحتى يواجهوا نداء الفطرة الانسانية المحبة للعمل والانتاج والتملّك، ادعوا منذ البداية، أن "ما يقال عن الفطرة والجبلّة والميول الفطرية والاتجاهات الموروثة، إنما هي كلمات تولّى كِبر وضعها الطبقة البرجوازية لاغراضها، وما في الانسان شيء يوافق مسميات هذه الاشياء، وكل ما فيه من الميول والاتجاهات انما هي وليدة البيئة والمجتمع، فاذا ما استبدلنا بيئة ببيئة، ومجتمعاً بمجتمع، صاغت في قالبه فكرته، واصبح قلبه مورداً لعواطف تلائمه، واقبلت نفسه تخترع افكاراً جديدة توافقه وأخذ يتدبر الامور ويرى فيها على حسب مقتضاه، فالناس فرديون بعقليتهم وفكرتهم، مادام نظام الملكية الفردية قائماً، وستنقلب عقليتهم جماعية حينما يقوم نظام الملكية الجماعية يظلهم بظله الوارف". (أسس الاقتصاد بين الاسلام والنظم المعاصرة- أبوالأعلى المودودي).

هذه الفكرة هي الاخرى ثبت فشلها في انقاذ الانسان من ضنك العيش والضياع الفكري والثقافي، عندما وجد المواطن في الدول الاشتراكية أنه عبارة عن صامولة في ماكنة الدولة، تتصرف به كيف تشاء، من لحظة ولادته، ثم شبابه، ثم زواجه، وانجابه، وتعليمه، وعمله، وحتى موته، لايملك من كل هذا شيئاً خاصاً له، بينما يرى بأمّ عينه كيف أن الامتيازات والتملّك مباح لقيادات الحزب الحاكم، وكان أبرز المصدومين بهذه الحقيقة؛ الثائر الارجنتيني الشهير، ارنست تشي جيفارا، الذي كان يتصور أنه يزور موسكو للتقرّب الى مصدر إلهام الشعوب الكادحة والفقيرة، فوجد السيارات الباهضة الثمن والراقية يستقلها قادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق، وهو الاتحاد الذي ذاب وانمحى للأبد بسبب هذا التناقض الحاد بين الشعارات والنظريات والتطبيق العملي.

ماذا نخسر بغياب الفطرة السليمة؟

الغياب، المفردة الأنسب لما نعيشه من علاقة غير سليمة مع الفطرة الإلهية السليمة، فالفطرة لا تموت، ولايمكن تزييفها والتلاعب بها ابداً، لأنها ليست من صنع البشر حتى يتمكن من التلاعب باعداداتها، فهي مودعة في نفس كل انسان، إنما تجاهلها وتغييبها عن مصدر القرار هو الذي أدى الى ما نعيشه اليوم.

الفطرة السليمة تدعو للعمل والتملّك، وحتى الإثراء، كما تدعو في الوقت نفسه للنظر الى أحوال الآخرين في المحيط الاجتماعي ضمن منظومة قيمية وأحكامية دقيقة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك عظمة هذه الموهبة الإلهية المنظمة لحركة الانسان وتفكيره وسلوكه، لذا نجد القرآن الكريم يُقرن دعوة السماء بالعدل مع الإحسان، فالعدل ينطوي على جنبة علمية –إن جاز التعبير- فكلٌ يأخذ حقه حسب قدراته، بينما الاحسان ينطوي على جنبة "فنية –أخلاقية" ناظرة الى أحوال العاجزين عن العمل والفاقدين لسبل الحصول على المال والحياة الكريمة.

هذا التطابق البديع بين الفطرة الإلهية والقيم الأخلاقية والانسانية ومصاديقها العملية على الأرض، تمنح الانسان والمجتمع والامة الاستقرار الاجتماعي و"الامن الغذائي"، وبحبوحة من العيش للجميع، وإنما أمرٌ آخر لا يقلّ أهمية من كل هذا؛ الاستقرار النفسي لذات الانسان، "فالثقافات التي ليس لها منشأ رباني، في كثير من الاحيان لا تنسجم مع فطرة الانسان، وعدم انسجامها مع هذه الفطرة يولد ازدواجية في الحالات النفسية للأشخاص من جهة، ويولد مشاكل عملية من جهة اخرى". (محاضرات اخلاقية- السيد جعفر الشيرازي).

واذا ألقينا نظرة على المآل الاجتماعي والاقتصادي للبلاد الاسلامية المأزومة، نجد أن السياسة ورجالاتها واجهة هذه الازمات، والجميع يرفعون اصابع الاتهام بوجوههم، وإن كانوا يتحملون جزءاً كبيراً من الناحية التنفيذية، مسؤولية كل هذه المآسي والمعاناة للشعوب، إنما المشكلة الأساس في نمط الثقافة المستوردة غير المتطابقة مع فطرة الانسان المسلم، ولعل لسان حال الساسة المتهمين بالفساد والفشل، أن الأفضل لكم البحث في مصادر أخرى لعلّة كل هذه المصائب والمعاناة، فهي تكمن في الثقافة التي تبرر أخذ الرشوة، وفرض ما يسمى بـ"كومشن"، على البضائع المستوردة في المنافذ الحدودية، والاختلاس الواسع النطاق بأشكاله وأحجامه المختلفة، فلا أحد من هؤلاء السرّاق يرضى لنفسه تهمة اللصّ، بل هو، وجماعته محقون في الحصول على ما يريدون من ملايين او مليارات الدولارات لمسوغات ومبررات عديدة يمكن البحث فيها في مقام آخر.

ولمن يدعي وجود المتسربلين برداء الدين بين المختلسين والفاسدين، نطلب التحقق ما اذا كان هؤلاء تحركوا خطوة واحدة نحو نشر الثقافة الاسلامية الأصيلة في الحياة العامة، سواءً ما يتعلق بالنظام التربوي، او النظام الاقتصادي، او الجهاز القضائي، فكل ما يجري من مفاسد في هذه الدول المأزومة إنما يتم بفضل حالة الازدواجية التي يترنح بسببها الانسان (المواطن) بين فطرته السليمة الداعية الى الخير والحق والفضيلة، وما يجده سائداً من ثقافة تروج لها السلطة تنتزع الإرادة والقيادة من يده، فتجعله موجوداً متحركاً بإرادة الآخرين، بينما "الثقافة الاسلامية والدين الاسلامي بشكل عام يُظهر انسانية الانسان ولا يطمسها، فاذا التزم الانسان بهذه الثقافة الربانية سوف تساعده على إظهار انسانيته، في حين الالتزام بالثقافات الاخرى التي لاتنسجم مع فطرة الانسان يؤدي الى طمس انسانيته، وزيادة الشوائب التي تغطي على هذه الانسانية".

اضف تعليق