إنسانيات - تعليم

الجامعة والمجتمع

المحور السابع: قطاع التربية والتعليم والبحث العلمي

يواجه العراق منذ عقد ثمانينات القرن الماضي تحديات كبيرة، حيث تخرجت أعداد غفيرة من جامعاته بعد قضاء سنوات محددة على كراسي الدراسة وتلقّي البرامج والمناهج المقررة التي لم يراعِ واضعوها حاجات التنمية في مجتمعنا، ودخل هؤلاء الشباب معترك الحياة وواقع المجتمع وما يحتاجه، بحروبه الشرسة...
ورقة دراسة موجزة: أ. د. صلاح يوسف الدهش

 

تُعَدُّ جامعة بغداد أول الجامعات العراقية في الزمن المعاصر حيث تعود لبناتها الاولى لسنة 1908 حينما تأسست كلية الحقوق ثم دار المعلمين العالية فكلية الطب (1927). وتوالت بعد ذلك تأسيس وإضافة كليات اخرى وجامعات في المدن الكبيرة حتى تجاوزت اليوم المائة جامعة (منها 36 جامعة حكومية، والعديد من الجامعات والكليات الأهلية إضافة الى تلك التابعة لوزارتي الدفاع والشرطة وبعض المؤسسات الدينية). تسير هذه الجامعات بمجملها حسب النمط الجامعي التقليدي، حيث تحوي كليات أدبية نظرية وأخرى علمية نظرية وتطبيقية بأساليب منقولة طبقاً لما معمول به مسبقا في العالم الأجنبي المتقدم وبسياقات تعدّت حتى اللغة، حيث بقيت العديد من الكليات العلمية خاصة معتمدة اللغة الإنكليزية في التدريس.

وقبل الحديث عن العلاقة الواقعية بين الجامعة والمجتمع، لابد من التذكير دوماً بواقع العالم المحيط بنا والذي يتفاعل معه آخذاً منه جميع إحتياجاته مستورداً إياها بدلاً من أن يكون لديه ما يُصدّره بالمقابل من علوم وتقنيات ومعارف ثقافية أو زراعية أو صناعية، حيث لا ينبغي أن يبقى حالنا كما هو عليه معتمداً فقط على تصدير المواد الخام التي تعتمد عليها صناعات العالم المتقدم.

فكما هو معلوم ما للتقنيات الحديثة من أبعاد أضافت للاقتصاد علامة من العلامات المميزة للتقدم على كافة المستويات الفردية والمؤسساتية والدولية. وجاءت هذه التقنيات متزامنةً مع مظهر آخر للتعامل بين الدول والذي أُطلق عليه إسم العولمة التي أزاحت الحدود بين الدول وقفزت فوقها وكادت أن تُلغيها وتُلغي معها سلطات الدول الصُغرى من خلال فرض سيطرة وهيمنة الشركات العملاقة عابرة القارات.

فهناك مظاهر جديدة عديدة يستخدمها الطامعون في خيرات عراقنا بمفاهيم خاصة وبأشكال مغايرة لما نألفه، ولا مجال للخوض فيها ضمن الموضوع المطروح. فعلينا جميعاً أن ننظر إلى العالم من حولنا ونحن نعيش منذ عقود مكتوفي الأيادي أمام الرياح العاصفة الآتية من دولٍ إهتمت لأقصى حد بالعلم والتربية والتعليم. والجميع واثق أن كل ما توصلت إليه تلك الدول من مفاتيح القوة والجبروت ما هو إلاَ نتاج لبذل كل غالٍ ونفيس وكل جهد في مجال العلم والتعليم ونشره بين كافة شرائح المجتمع. فما عادت هناك دولة بإمكانها خوض غمار التقدم والعِزة بلا قوى متينة هي أفراد المجتمع جميعاً بوعيه وعلمه وثقافته.

فقد بدأت المهمة الترابطية بين الجامعة والمجتمع في الدول المتقدمة منذ عصر الثورة الصناعية وما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية من خلال العمل على بناء الشخصية وخلق مناخ الإبداع والإستقلالية واعتبرت هذه البداية شرطاً أساسياً للربط بين المؤسسات الجامعية وتلك الإنتاجية في المجتمع. ومن هنا يأتي التعاون في مصاريف الإنفاق ومصادرها للتمكن من المضي بالخطط السليمة وصولاً إلى الأهداف المرجوّة. فقد سبق أن إتفقت الهيئات الدولية والإقليمية والوطنية على إعتبار نسبة ١٪ من الناتج المحلي للاقتصاد يجب أن يكون الحد الأدنى للبحث والتطوير ودون ذلك يعدّان غير إنتاجيَّن لعدم تمكنهما من تحقيق أي تأثير ملحوظ بمستويات الإنتاج الإجتماعي العام.

وبذلك أصبح هدف التعليم بصورة عامة وعلاقة الجامعة بالمجتمع، كعنصر من عناصرها، هو إعداد أُناس لعالم دائم التغيير يحتاج الفرد والمؤسسات والحكومات على حدٍ سواء من أجل التلاؤم والتكيّف والإسهام في التغيير وصنعه وضبطه وتسييره وليس الإنجراف الأعمى مع تيارات الأحداث مُساقين دون دراية إلى ما يبغيه صانعوه. وعليه، تبقى المعرفة حقٌّ طبيعي لكلِّ إنسانٍ، ويقع على عاتق جامعاتنا اليوم، كما كان من المفروض أن يكون من زمن بعيد، مسؤولية الاستجابة لحاجات المجتمع الذي أُنشئت من أجله.

وينبغي أن يكون المجتمع وحاجاته وصعابه ومشكلاته مواضيع دراسات جادة من قبل أساتذة الجامعات وطلابها وإداراتها وفنييها. فلقد دأبت الجامعات في الدول المتقدمة، منذ عقود من السنين، على تغيير أنماط التعليم فيها وإضافة ما هو جديد ومطلوب منها. فلم تَعُد للجامعات وظائفها المحددة المعروفة بتدريس الطلبة وتعليمهم وكذلك البحث العلمي والأدبي ضمن التخصصات المختلفة، بل تعدّتها بإستحداث وظائف اخرى مرتبطة بخدمة المجتمع محطّمة الجدران والفواصل التي كانت تتقوقع داخلها بكوادرها ومستلزماتها ناهيةً عزلتها عن واقع مجتمعاتها ومشاكل الناس بكافة أصنافها المهنية والاجتماعية والصحية والاقتصادية والتربوية وغيرها. فإنفتحت كل جامعة، نازلةً لمجتمعها الذي يحتضنها، ضمن أهداف وبرامج وخطط محددة وواضحة باحثةً قضاياه ومشاكله وطموحاته وكل ما يتّصل ويتعلّق بالنهوض والتقدم.

وهناك العديد من الأمثلة الواقعية التي تبيّن صلة الجامعة بحاجات التنمية في المجتمع الذي تعيش فيه وما آلت إليه في بلدان العالم المتقدم من نتائج خدماتها للمجتمع فاقت الوصف والتصور. فلقد اُنيط بعاتق أساتذة الجامعات مسؤولية وضع مناهج التربية والتعليم للمستويات الدراسية ما قبل الجامعية (الإبتدائي والإعدادي والثانوي):

• ففي اليابان، مثلاً، بدأ أساتذة الجامعات بتفحّص طبيعة المجتمع أولاً ونوعية الخدمات التي يمكن أن يؤدّيها خريجو المدارس على مختلف مستوياتهم. وإعتماداً على ذلك تم تصميم البرامج والخطط الدراسية (بدءاً من أسفل السُلَّم: التعليم الابتدائي) لتواكب أحوال مجتمع متقدّم ينافس بقوة الدول العظمى من أجل صدارة العالم وخاصة في مجال التقنيات. هكذا كانت البداية حيث الاهتمام بالعنصر البشري على رأس قوائم الأولويات.

• وفي ألمانيا الغربية (قبل توحيدها) قام خبراء المناهج من أساتذة الجامعات بمراعاة حاجات مجتمعهم ومشكلاته بعد خروجه من الحرب العالمية الثانية مهشماً ممزقاً محطماً ومحترقاً. ومن هنا بدأوا مناهجهم وخططهم واضعين أمام أعينهم طموحاتهم في تحقيق تعويض الهزيمة الماحقة في الحرب واستبدالها بانتصار ساحق كاسح وبسرعة فائقة للارتفاع إلى أعلى درجات سلالم التقدم. فاهتموا بالأسرة وإدارة المنزل أولاً، كما اهتموا بالعلاقات بين الأفراد، وجمعوا الفنون مع دراسة الدين، وقدموا التربية البدنية واهتموا بالطبيعة وفتحوا الباب واسعاً أمام تطوير المناهج وتعديلها ما بين حين وأخر من اجل ضمان تقديم كل ما يقع في المجتمع وفي العالم من تغيرات وتطورات إلى الطلاب وكافة شرائح المجتمع ذات العلاقة.

• أما خلال أزمة الطاقة التي نشبت أعقاب حرب إكتوبر ١٩٧٣ فقد كان درساً مهماً وقاسياً على ما يمكن للجامعات وعلماءها تقديمه. فقد أسهم عالِم واحدٌ بمفرده (أ. د. رودني ألن Rodney F. Allen) في تقديم العديد من البرامج العملية التي ساعدت المجتمعات، الأمريكية والكندية خاصة، على ترشيد إستهلاك الطاقة والحد من الإسراف فيها.

وبقيت جامعات تلك المجتمعات في مواقعها الطبيعية في المقدمة داخل الأعصاير آخذة بأيدي مجتمعاتها، الناشئة الشابة آنذاك والمتحمسة بتطلعاتها إلى العُلا والرقي. وقد تختلف طبيعة مجتمعنا العراقي كثيراً عن أمثال هذه المجتمعات في البلدان المتقدمة في العديد من المبادئ والقيم والممارسات، لكن لابد من التسليم أن اهتماماتها بالعلوم والتربية هما اللذان قادا تلك الدول نحو أرفع مكانة تكنولوجية واقتصادية وقوى عسكرية في التاريخ المعاصر.

ويواجه العراق منذ عقد ثمانينات القرن الماضي تحديات كبيرة، حيث تخرجت أعداد غفيرة من جامعاته بعد قضاء سنوات محددة على كراسي الدراسة (أولية وعليا على حدٍّ سواء) وتلقّي البرامج والمناهج المقررة التي لم يراعِ واضعوها حاجات التنمية في مجتمعنا، ودخل هؤلاء الشباب معترك الحياة وواقع المجتمع وما يحتاجه، بحروبه الشرسة وحصاره الجائر، فوجدوا أنفسهم عُزّلاً غير مسلَّحِين بالمعرفة الصحيحة المطلوبة والفعّالة عاجزين عن الإِيفاء بواجباتهم المفروضة لخدمة المجتمع، أخذين بالتكدس عاماً بعد عام لا يُجيدون حِرفة يتعيشون وعوائلهم منها، كما أنّهم لم يلتحقوا بأعمال تحتاجهم فعلاً لأنهم أصلاً أنصاف متعلمين إن لم يكن البعض أقل من ذلك. وتلجأ الحكومات في فترات إلى تعيين عدداً منهم بوظائف لا تحتاجهم فيها أصلاً ليشكلوا بذلك بطالة مقنّعة وضغطاً على الميزانية العامة للدولة دون عائد من عمل حِرَفي تخصصي فِعلي يقومون به.

وهنا لابد من الاعتراف والإقرار أن التوسع الكمي الذي شهده التعليم العالي في العراق كان ضعيفاً في نوعيته وجودته حيث بقي محافظاً إلى حد كبير على النمط التقليدي فلسفةً وأهدافاً وهياكل وبناء تنظيمي ومحتوى وطرائق تدريس وأساليب أُخرى من نظم التقويم والتقييم وغيرها. ونتيجة لتلك الأوضاع مجتمعة، وما آلت إليه أنظمة التعليم العالي من جمود وعدم تطور نوعي، تعالت الكثير من الإنتقادات إلى أساليب أنظمة الجامعات ومراكز بحوثها لضعف فاعليتها وقلة كفاءتها التي تجلّت في عدم القدرة على الإستجابة لمتطلبات المجتمع وعدم مواكبتها لمستويات مظاهر التطور والنمو الذي يشهده العالم. ويمكن الإشارة هنا، للتذكير فقط، إلى بعض أسباب هذا القصور والتدنّي في جامعاتنا العراقية، على سبيل المثال لا الحصر، حيث تم سردها في مقالتنا السابقة تحت عنوان ”التعليم العالي والبحث العلمي/ الواقع والطموح / دراسة ملخّصة للدكتور صلاح يوسف الدهش“:

• التقولب دون تغيير أو تطوير في معظم المفاصل الأساسية لأركانها الحيوية.

• المركزية العُليا في صناعة القرارات ذات العلاقات المهنية المختلفة التي لا تتلاءم معظمها مع ما هو واقعي ومطلوب للتطوير.

• إعتماد المناهج والنماذج المستوردة التي لا تتلاءم معظمها مع ما يحتاجه مجتمعنا فعلاً من اجل النهوض والتطور.

• ضعف القدرة الفعلية على استيعاب الطلبة المؤهلين لمواصلة التعليم العالي.

• عدم التلاؤم أو الموازنة بين الاحتياجات الفعلية لخطط التنمية الوطنية ومخرجات الجامعات من تخصصات وأعداد وكفاءات.

• إهمال معايير الكفاءة والإقتدار والتميّز في إختيار القيادات الجامعية.

• الإفتقار لأنظمة المتابعة والتقويم في مجالات وظائف الجامعة المختلفة وعلاقتها بالمجتمع وترابطها مع إحتياجاته.

ومن المعلوم أنَّ كل مجتمع واعٍ يعرف حق المعرفة قيمة ما تقدمه الجامعات من خدمات في كافة نواحي المعرفة، مما جعل خدمة المجتمع هي الوظيفة أو الواجب الرئيس الثالث للجامعة بعد التدريس والبحث العلمي. ويمكن تصنيف هذا الواجب الثالث إلى أنواع فرعية خدمية أساسية ثلاث، قد يتشعّب من كل منها أصناف مختلفة من الخدمات التي يحتاجها المجتمع، ويمكن وضع هذه الأنواع الفرعية تحت ما يأتي:-

١) الخدمات التي تقدمها اللجان والتنظيمات المهنية المختلفة داخل كل قسمٍ أو كليةٍ أو جامعةٍ حسب تخصص كل منها.

٢) ما يُقدَّم من خدمات مهنية لصالح الإتحادات المهنية على مستوى المجتمع.

٣) ما يُقدّم من خدمات عامة على مستوى الأفراد أو الجماعات خارج إطار المجتمع الأكاديمي.

ويمكن حصر مجالات الخدمات التي تستطيع الجامعات تقديمها للمجتمع تحت ثلاثة محاور رئيسة تشمل الآتي:-

المحور الأول: توفير أحدث المعلومات وتقديم المعونة وإسداء النصائح للأفراد والجماعات والشركات والهيئات التجارية والصناعية والزراعية وكافة المجالات المختلفة الأخرى والحكومات من أجل مواجهة الصعاب والمشكلات التي تستطيع الجامعة إيجاد حلول علمية لها ضمن تخصصاتها المختلفة.

المحور الثاني: إجراء البحوث العلمية الميدانية والأكاديمية التي تستهدف إيجاد الحلول للمشكلات والصعاب المتعلقة بالسياسات العامة فى كافة مجالات الحياة من خلال:-

أ) وحدات جامعية متخصصة بكل مجال مطلوب.

ب) مراكز علمية مرتبطة بالأقسام العلمية والكليات كل حسب تخصصها.

ج) لجان استشارية من أعضاء هيئة التدريس، أفراداً أو جماعات، تُنْتَدَب للمساهمة في المشاريع المختلفة.

المحور الثالث: تنظيم برامج تدريبية قصيرة الأجل لمختلف قطاعات المجتمع، من موظفين وعاملين وفنيين ورجال الأعمال وغيرهم، وعقد مؤتمرات وندوات ولقاءات دورية منتظمة ومستمرة.

ومن أجل تحقيق الهدف والغاية من علاقة الجامعة بالمجتمع يتوجب على الجامعات ما يأتي:

• التحلّى بالصدق والدقة والواقعية في التخطيط وأعمال التنفيذ.

• أن تكون متفردة في نوعها مهتمة برسالتها النبيلة، ذات حركة ديناميكية لا تتوقف بتحدٍ عالٍ من أجل إنجاز الوعد بالتفوق في أداء مهامها بِحُرية.

• فتح أبوابها للجميع دون تفرقة أو تمييز بين أفراد المجتمع وشرائحه الخدمية لكي تتمكن من تقديم كل ما يحتاجه المجتمع إبتداءً من التدريس الجامعي العادي إلى الإستمتاع بأوقات الفراغ مروراً بالمساهمة في حل الصعاب والمشكلات اليومية المؤقتة والحياتية طويلة الأجل لكل فرد أو مؤسسة صغيرة أو كبيرة وصولاً إلى المجتمع ككل.

وهنا لا بد من التذكير أنَّ مفهوماً وحيداً في مجالٍ ما قد لا يصلح لكل المجتمعات، حيث اختلاف النظريات والتطلعات والثقافات والمفاهيم التي تُطرَح هنا وهناك من بعض المنظمات الدولية (ومن بينها اليونسكو) ويغلب عليها الطابع الغربي الأوربي أو الأمريكي، مما يدعو إلى معاودة صياغة مفاهيم أخرى لكل مجتمع لتتماشى مع ثقافته وطموحاته وخصائصه وخصوصياته.

ويرى الفلاسفة، الذين يؤمنون بالتربية والتعليم نمواً مستمراً للعقل وتنويراً للحياة، أن التعليم الحقيقي يأتي بعد ترك مقاعد الدراسة والإنخراط بمعترك الحياة الفعلية لممارسة النشاط المناط بكل تخصص. ويعدّ ذلك أحد أهم الضمانات للتعايش المرن مع متطلبات الحِقبة الحالية والمقبلة بتداعياتها واحتمالاتها المختلفة. فالشواهد التي نعيشها اليوم، وما خفي للغد كان أعظم، على المسرح العالمي من تطورات وتغيرات وتبدلات في الأوضاع الاقتصادية والثقافية والسياسية وكافة المجالات الأُخرى ومفهوم العمل وطبيعته جعلت من " التعليم المستمر مدى الحياة" البديل المنطقي والضروري لمفهوم التعليم كإعادة للحياة. فمن ينتفع من التقدم ويصبح رابحاً هم أفراد ذلك المجتمع القادر على تسخير العلوم والوسائل الحديثة لمصلحته.

وهنا لا بد من الإيمان أن التكيّف مع المتغيرات التقنية التي يشهدها العالم اليوم في محتوى العمل يتطلب رفع جودة العمل العقلي الذى بدأ يحل محل العمل البدني. ويقوم التعليم المتصل بالتنمية وتدفق المعارف الحديثة بتطوير فرص الأفراد للحصول على وظائف عمل أفضل طوال حياتهم. ولابد من الإيمان كذلك أن حيازة المعرفة العلمية والتعليم هما متغيران رئيسان للتنافس بين المؤسسات في تقسيم الأعمال الكوكبية التي تزداد فيها أهمية الأعمال العقلية.

ومن هنا يمكن القول أن الإنتاج أصبح يعتمد على المعلومات الكثيفة بدلاً من العمالة الكثيفة مما يعطي للمرء واقع إنهاء خدمته بسبب سرعة التغيرات التقنية ويبقى المتعلم الماهر القادر على التكيّف والعطاء حيث يستمر السعي إليه طلباً لخبرته ومؤهلاته وقدراته التي يتم تنميتها بإستمرار. وهكذا شأن المؤسسات بكافة أحجامها بسبب ما تفرضه التحولات الإقتصادية الحالية، والمستقبلية ربما، من تحديات عديدة. والتاريخ بطبيعته لا يرحم المجتمعات الضعيفة أو التي اُستُضعِفت وغُيِّب وعي أبناءها بعدم مشاركتهم الفعّالة فى البناء والإنجاز والدخول بكفاءة ومؤهلات معرفية وعلمية كافية. فلا بد من التأكيد على أهمية ربط الجامعة بالمجتمع وإبراز دورها القيادي بعملية التعليم المتجدد وإعادة التأهيل وإتاحة الفرص لأفراد المجتمع كافة إلى تجديد المعلومة وتطور الأحداث بما يضمن التقدم والإزدهار من خلال برامج متنوعة بشكل غير متناه وملبّي لكافة الإحتياجات والمتطلبات وفي كافة الأوقات. ومن المعلوم أنَّ علاج معظم المعضلات، من أيِّ نوعٍ كانت، يكمن في الإهتمام بالتربية والتعليم المستمر من خلال إندماج الجامعة بكل مفاصل الحياة للقيام بالأدوار الطبيعية إتجاه المجتمع. وتعود فكرة التعليم المستمر وعلاقة الجامعة بالمجتمع إلى زمن بعيد، حيث تبنّت كلٌّ من جامعة لندن، بالمملكة المتحدة، وجامعة شيكاغو، بأمريكا، مثلاً ومارستا هذا النمط من التعليم والعلاقة بين الجامعة والمجتمع منذ أواخر القرن التاسع عشر (بالتحديد سنة 1887 لجامعة لندن و1890 لجامعة شيكاغو).

وتشير العديد من الدراسات حول الاستعداد للتعايش مع متغيرات ما جرى وما قد يجري في معظم المجالات الحياتية إلى إشكالية التخلف في المجتمعات النامية والتقدم وصناعة الحاضر في المجتمعات المتقدمة رابطةً هذه الدراسات بين ما يحدث هنا وهناك بالتربية والتعليم مما يؤكد أنهما سرّ من الأسرار في المضمار.

ويبقى السؤال مطروحاً: أيَّةُ تربية؟ وأيّ تعليم؟ وما أشكالهما وفحواهما وخطوط ومسارات حركتهما؟. وللإجابة على مثل هذه الأسئلة، رغم وضوحها وسهولتها، إلاّ أنها تحتاج إلى تجمّع أصحاب الإختصاص وصنّاع القرار وكافة المؤسسات المجتمعية للمشاركة في وضع الإجابات عن مثل هذه الأسئلة بإخلاص وتفانِ، ويتوجّب إتخاذ كل الوسائل المتاحة لإستعادة الثقة بالنفس حضارياً وثقافياً بعدما نجحت بعض الإفتراضات التي حاول الغرب مع أمريكا، ومازالا يحاولان، نشرها وتأصيلها في نفوس أبناء شعبنا المغلوب على أمره وما أصابه من اليأس والقنوط التي قيّدت حركته، حيث الأبواب مفتوحة مهما حاول أحد إغلاقها خاصة أن معطيات هذه المسألة متوفرة لدى مجتمعنا، وكل ما يحتاجه هو إعادة الترتيب والقدرة على التفعيل سواءً كانت مادية أو حضارية أو بشرية أو غيرها.

وهنا لا بد من الدِقَّة والصدق والواقعية في التخطيط والتنفيذ. ومن المعلوم جداً أن الدِقَّة هي درس علمي عابر للتخصصات، ويتطلب الصدق الإقرار أن البشر مصدر الإبداعات وفيه طاقات تشمل كافة عناصر الأفعال الإجتماعية، أما الواقعية فهي مطلب خيالي متمثلاً بأقصى درجات الطموح أمام عالم تعاد فيه صياغات كل شيء بما فيها قدرة البقاء على خريطة العالم. ويمكن أن يتم ذلك فى مجتمعنا العراقي النامي من خلال مراجعات دور الدولة وكافة النُخَب العلمية والثقافية والإنسانية في إدارة شؤون المجتمع وإنفتاح العالم من حولنا وإستهداف التنمية الشاملة للإستدامة واللحاق بالركب الذى يسير ويتطور بسرعة هائلة.

ومن أجل تحقيق كل ذلك يتوجب الأخذ بما يأتي:

أولاً: الفهم العميق والتحليل المنطقي للتحديات التي يواجهها مجتمعنا وطرح البدائل وإثارة التساؤلات لرؤية الهدف المنشود لإختيار الوسائل الصالحة للوصول إليه. كل ذلك بداية يُعدّ الموجه الإجرائي الرئيس لسياسة التطوّر واللحاق بالركب الذى سبقنا بأشواط عديدة.

ثانياً: الحقوق المعرفية لكل إنسان وإعتباره أمناً وطنياً أساسياً، مع الإيمان بالتكيّف مع المتغيرات التقنية التي يشهدها العالم اليوم في محتوى العمل الذي يتطلب رفع الجودة العقلية التي بدأت تحل محل العمل البدني، مما يتوجب فتح الجامعات أو الكليات في كافة المدن (من ضمنها الأقضية والنواحي) كل حسب الطبيعة التخصصية لكل منطقة (زراعياً، صناعياً، تراثياً، سياحياً …الخ).

ثالثاً: وجوب توفير الإرادة المجتمعية ليصبح من السهل تهيئة الظروف وتفعيل الشروط التي توفر سبل الإبداع والتميّز للجميع وتوجيهه نحو المستقبل.

رابعاً: غرس الثقة الكاملة لدى الأفراد وكافة مؤسسات العمل والإنتاج وإعتبار الجامعات هي المصادر الرئيسة والقيادية العليا في مجالات العلوم المختلفة التي يحتاجها المجتمع وعليه لابد من وجود قناة أو اكثر، مهما كان حجمها في البداية، ترتبط بين كل فرد أو مؤسسة في المجتمع مع هذه الجامعة أو تلك بهدف إدامة التواصل وتغذية الجامعات دوماً بالمعلومات التي يعاني منها المجتمع لتقوم بدورها بالمساهمة للتخطيط والبحث لإيجاد أنجح السبل للخلاص من هذه المشكلات والمعضلات ودفع العجلة سويةً مع تلك المؤسسات أو الأفراد نحو التقدم والإزدهار.

خامسا: تشكيل صفوة قيادية مبدعة تقوم بأعباء التوجيه التخطيطي والتنفيذي لاقتحام كل ما هو جديد ونافع من المعرفة والتكنولوجيا من خلال تواجد الخبراء الجامعيون في ميادين العمل داخل المجتمع ضمن مجالس المؤسسات الإنتاجية والصناعية وغيرها، والعكس هو الصحيح بتواجد ممثلين فنيين وإداريين من هذه المؤسسات داخل الأقسام الجامعية والبحثية المعنية من اجل إتقان المعرفة النظرية أو تعديلها من خلال الممارسات الفعلية في التدريب والإنتاج بالإتجاهين على حد سواء ليصبح أكثر فاعلية وتأثيراً وإثراء كل ما هو نظري وما هو مهني تطبيقي.

سادساَ: يتطلب من الجميع الإعتراف أولاً بذاتية الإنسان وقدرته على المشاركة بوصفه فاعلاً إجتماعياً في مختلف مجالات الحياة وفق نقاشات وحوارات ودراسات تضع بالإعتبار طبيعة النشاط وأهميته. ويأتي هنا دور الجامعة بكل نشاطاتها داخل المجتمع لقيادة ذلك التوجه نحو الأفضل، حيث تبقي المؤسسات الجامعية، في الأساس والمبدأ، منبع الجودة الشاملة للتعليم بمفاهيم تشير إلى ثقافة أصيلة إلاّ أنها متجددة بالتعامل بمعايير متفق عليها عالمياً من حيث التميّز بالمهارات من خلال تحديث مناهجها وتطوير أعضاء هيئة التدريس وإداراتها نحو التحسين والتطوير المستمر وخلق وعي للعمل الجماعي لإظهار القدرات والمواهب وإلإبتكار بعيداً عن النمطية السائدة منذ زمن طويل.

سابعاً: العمل الجاد على وجوب تدريب الكوادر المهنية المختلفة وإنخراطها بالتدريب المستمر المتطور، والتدريب التحويلي، والتي بمجملها تُعَدُّ من أهم المطالب في ضوء ثورة المعلومات والإتصالات والتغير في المهارات التي تتطلبها المهن الجديدة نتيجة التغيرات العالمية المتلاحقة في كافة المجالات، حيث اصبح ذلك أمراً مهماً جداً عند الحديث عن التنمية البشرية والتطور الإجتماعي والتقدم وإعادة الهيكلة نحو اللحاق بالركب المتسابق.

ثامناً: إعادة إنتاج وتوليد معارف حديثة وتشغيلها بمحور الإبداع كخيار إستراتيجي حتمي وإيجاد الجواب السليم لكيفية إنتاج المعرفة وعدم الوقوف عند الإهتمام باستهلاكها فقط، وذلك من أجل اللحاق بهذا العصر الذي تتسابق فيه تشظّي المعلومات وإنسيابها وتجددها بسرعة مذهلة. فلا بد من إبتداع الرؤية المجتمعية الخاصة مدعومة بإستشارات ذوي الإختصاص العِلميين والباحثين في الجامعات مع سياسات وقرارات وجهود تعمل سوية على تكريس إنجاح العمل والوصول إلى الهدف المنشود.

تاسعاً: لابد من الأخذ بعين الإعتبار تأثيرات الخطط والبرامج بالحاضر ومعطياتها وما يحدث في العالم المحيط بمجتمعنا وما يُتوقّع أن يحصل، متأثراً كذلك بإدراك القادة العِلميين والميدانيين والسياسيين حول المستقبل وما تحمله النوايا والإستراتيجيات والغايات من إستهداف يواجه مسار الحركة وإستخلاص الكثير من معايير الإلتقاء وأولويات المشاريع الواجب الإهتمام بها فعلاً من اجل اللحاق بالركب العالمي.

عاشراً: منح الجامعات كافة أنواع الدعم المتاح والممكن مادياً ومعنوياً وسياسياً لجعلها بموقع القيادة الفاعلة مهنياً في كافة مجالات ونشاطات المجتمع المختلفة. ومن المعلوم أنَّ مصادر التمويل، الخاصة بالبحث العلمي والتطوير في العراق ومنها موضوع العلاقة بين الجامعة والمجتمع، ظلّت حكومية مقتصرة على دفع رواتب المنتسبين بصفة أساسية. ويلاحظ أيضاً أن نسبة المساهمات غير الحكومية في هذه المجالات ضئيلة جداً، إن لم تكن منعدمة.

وفي الختام، ومن خلال ما سبق طرحه، أصبح من الضروري تحويل الأقوال والمقالات والندوات إلى خطط وبرامج عملية تطبيقية تفصيلية تتسم بالمرونة والقابلية للتعديل دوماً. وتبقى ثمة تغذية راجعة متبادلة ومستمرة بين الخطط والسياسات في ضوء التغيرات التي تحدث في الواقع، أو التي يمكن توقعها ومحاكاتها بالمنظور الإبداعي إعتماداً على أسس المعرفة ومهارات التعليم المستمر طول الحياة وتوفير المناخ الثري الذي يفجر الطاقات وينمّيها لدى الجميع دون إصطفاء أو إستبعاد أو تهميش وذلك حفاظاً للأمن الوطني في كافة تشعباته وآلية للتحصين لمواجهة أية هيمنة متخطية الحدود.

ويبقى أصحاب العلم والتقنية يقودون العالم ويُنيرون الطريق ويمدّوه بعلومهم من أجل الإستمرار بالتعلم والمشاركة، حيث ما تزال أنظمة مجتمعنا قائمة على تجزئة القضايا مضخمةً موضوعات مُحدَّدة ومُهملةً لأخرى تاركة أمر بلورة المجتمع ككل إلى المسؤول الإداري الأعلى والسياسيين الذين تفارقوا فيما بينهم، وما بينهم وبين مجتمعهم، مما حدى إلى غياب الصياغة الصحيحة لأي منطلق أو مشروع يخدم المجتمع ضمن توازنات النظام العالمي.

كل ذلك يأتي من عدم الإتفاق على ما هو أهم وما هو أخطر، ليبقى المواطن البسيط جاهلاً الكثير من واجباته للمساهمة في تطوير المجتمع في كافة المجالات، إبتداءً من جهله لدوره الفعال كونه الوسيلة والهدف والغاية. وبالمقابل تلاحظ بوضوح نبرات الإعجاب والافتخار بالذات في معظم المجالات أن لم تكن جميعها!. وطالما يبقى الحال هكذا وتغيب البحوث الجادة والأصيلة والإستطلاعات للرأي الواعِ فسوف يمر الزمن، كما مرَّ سابقاً، دون معرفة حقائق كثيرة يجب النهوض بها ونبقى في خانة الضياع.

ولا بد من التأكيد بإستمرار أنَّ هدف التعليم وربط الجامعة بالمجتمع ربطاً مباشراً يبقى هو الأساس للحاق بالعالم المتغير من خلال مقدرة الأفراد والشركات أو المؤسسات على التلاؤم والتكيّف بعيداً عن الإنحراف مع تيارات الأحداث وفقدان القدرة على الإسهام في صنع التغيير وضبطه وتسييره. فلا بد من البدء بخطوات سليمة صائبة واثقة يساهم بها الجميع من خلال بلورة الموجهات الإجرائية والبدء بالعمل على كافة المستويات الثقافية والتعليمية والإجتماعية والسياسية والعمرانية والصناعية والزراعية والشبابية.. وغيرها.

.................................
* تدعو الأمانة العامة للهيئة الاستشارية العراقية للإعمار والتطوير (ICADP)، التي تأسست عام 2010، الأخوات والإخوة الزملاء الأعزاء من الأكاديميين والخبراء العراقيين المختصين في مختلف المجالات والميادين العلمية والثقافية من داخل العراق وخارجه، لتقديم رؤيتهم لإصلاح الوضع في العراق، من خلال: تقييم تجربة الحكم والعملية السياسية وإدارة الدولة ما بعد عام 2003 وإيجاد الحلول الناجعة لإخفاقاتها، عِبرَ مشاركتهم بدراساتهم ومقترحاتهم العلمية كلٌ حسب اختصاصه، وتقييمها بالشكل التالي:
أولاً ـــ تحديد المشاكل والمعوقات فيما يتعلق بالموضوع الذي يتم إختياره.
ثانياً ـــ تقديم الحلول والمقترحات العلمية الواقعية لها دون الخوض في تفاصيلها.
وإرسالها عن طريق البريد الالكتروني: E- mail: [email protected]
د. رؤوف محمّد علي الأنصاري/الأمين العام

اضف تعليق