ليس من المؤكد على الإطلاق ما إذا كان التعافي بعد الجائحة ليدوم ويُـفضي إلى اقتصادات أكثر استدامة وإنصافا. رأسمالية الجدارة الليبرالية لابد أن يتغير بشكل كبير من أجل التصدي للتحديات الجهازية، يفرض التفاوت المفرط بين الناس وتدني الحراك بين الأجيال تهديدا وجوديا لرأسمالية السوق، وقد زادت الاحتجاجات...
بقلم: كمال درويش/سيباستيان شتراوس

واشنطن، العاصمة ــ ليس من المؤكد على الإطلاق ما إذا كان التعافي بعد الجائحة ليدوم ويُـفضي إلى اقتصادات أكثر استدامة وإنصافا. ومن الواضح أن إغراء محاولة العودة إلى الماضي القريب قوي، وكذا المصالح الخاصة التي تفضل مثل هذا المسار.

لكن كثيرين يدركون الآن أن ما يسميه رجل الاقتصاد برانكو ميلانوفيتش "رأسمالية الجدارة الليبرالية" لابد أن يتغير بشكل كبير من أجل التصدي للتحديات الجهازية: ليس تغير المناخ وحسب، بل وأيضا اتساع فجوات التفاوت في الدخل، والثروة، والرفاهة، والسلطة ــ وخاصة في الولايات المتحدة. يفرض التفاوت المفرط بين الناس وتدني الحراك بين الأجيال تهديدا وجوديا لرأسمالية السوق، وقد زادت الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة في مدن الولايات المتحدة ضد العنصرية الجهازية من حدة الشعور بإلحاح هذه المشكلة.

كما لاحظ داني رودريك من جامعة هارفارد، تستطيع الحكومات أن تستهدف التفاوت بين الناس في ثلاث مراحل من العملية الاقتصادية. من الممكن أن تؤثر سياسات ما قبل الإنتاج على أمور مثل التعليم، والصحة، والثروة. وتؤثر التدخلات في مرحلة الإنتاج على خلق الوظائف وتكوينها، واتجاه التغير التكنولوجي، وقوة المساومة والتفاوض لصالح رأس المال والعمالة. أما سياسات ما بعد الإنتاج مثل الضرائب والتحويلات فمن الممكن أن تعمل على إعادة توزيع العوائد من العمل ورأس المال.

على الرغم من أن صناع السياسات يعالجون التفاوت بين الناس عادة من خلال إعادة التوزيع اللاحقة، فإن كثيرين يدركون الآن أن بقاء الرأسمالية يستلزم تحولا في النموذج.

صحيح أن الحكومات يمكن أن تعتمد بشكل أكبر على سياسات مرحلة الإنتاج، وهو ما يدعو إلى مزيد من التعاون بين القطاعين العام والخاص لضمان استيعاب الشركات للعوامل الخارجية السلبية المترتبة على قرارات تشغيل العمالة، والاستثمار، والابتكار. وقد تشمل هذه التدابير سياسات صناعية وابتكارية لتعزيز تطور التكنولوجيات التي تكمل العمالة ولا تحل محلها. بالإضافة إلى هذا، من الممكن أن تعمل الضوابط التنظيمية للعمل، والحد الأدنى للأجور، والإرادة المشتركة، على تحسين قدرة العمال على المساومة، في حين من الممكن أن تساعد السياسات القائمة على المكان والسياسات التجارية في تحسين الظروف اللازمة لإنشاء وظائف جيدة.

ولكن على الرغم من أن مثل هذه التدخلات من الممكن أن تعمل بكل تأكيد على تحسين الوضع الراهن إلى حد كبير، فإنها ستفشل رغم ذلك في معالجة أكثر مصادر الظلم وضوحا: الحظ عند الولادة.

تُـظهِر أبحاث أجراها راج شيتي من جامعة هارفارد وآخرون أن نوع الأسرة التي يولد فيها الفرد في الولايات المتحدة ــ بما في ذلك العِـرق، وبنية الأسرة، وموقعها الجغرافي، فضلا عن ثروات الآباء، والدخل والتعليم ــ تحدد بقوة نوع الحياة التي سيحظى بها، بل وحتى متوسط عمره المتوقع. إن التفاوت الموروث بين الناس في الفرصة يسبق مشاركة الناس في الأسواق، ويتفاقم على مدى الحياة.

كمجتمع، يجب أن ننظر إلى أشكال التفاوت الموروثة الواسعة النطاق باعتبارها غير محتملة ولا يمكن التسامح معها. يعبر الفيلسوف السياسي جون راولز عن هذا الأمر على أفضل نحو بقوله: هل يختار أي شخص عاقل العيش في مجتمع يسمح بمثل هذا التفاوت إذا لم يعرف الهوية التي وُلِـد عليها؟ خلف "حجاب الجهل" هذا، يفترض أن يختار الجميع عقدا اجتماعيا يوفر مجالا متكافئا للجميع.

لا قِـبَل لسياسات الحكومة بتغيير عِـرق أي شخص، أو نوعه الاجتماعي، أو أسرته، أو محل ميلاده. لكن التدابير الرامية إلى مساواة الثروة الموروثة قادرة إلى حد كبير ــ وإن لم يكن بالكامل ــ على مقاومة التفاوت الموروث في الفرصة.

على سبيل المثال، اقترح داريك هاميلتون من جامعة ولاية أوهايو وساندي داريتي من جامعة ديوك أن تمنح الحكومة الفيدرالية الأميركية كل مولود جديد صندوقا ائتمانيا يؤسس بما يتناسب عكسيا مع ثروة الأسرة. وسوف تنمو "سندات المواليد" هذه، وتتضاعف، وتصبح قابلة للاسترداد في سن الثامنة عشرة. ونظرا للطبيعة المتداخلة للتفاوت العنصري والطبقي، فإن مثل هذا المخطط كفيل بأن يزيل إلى حد كبير فجوة الثروة العِـرقية الموروثة في الولايات المتحدة بتكلفة فورية معتدلة ــ وإن كان ذلك على مدى سنوات عديدة.

هذا ليس على الإطلاق الاقتراح الوحيد من نوعه. في عام 2015، دعا أنتوني أتكينسون من كلية لندن للاقتصاد إلى فرض ضرائب شديدة التدرج على المواريث لتمويل الوقف الرأسمالي، أو الحد الأدنى من الميراث، والذي يُـدفَـع إلى المواطنين عندما بلوغهم سن الرشد ــ وهي الفكرة التي أقرها ميلانوفيتش أيضا.

تعكس اقتراحات أخرى ملاحظة ماريانا مازوكاتو بأن الدولة تكون غالبا الملاذ الأول والأخير للاستثمار. على سبيل المثال، دعا يانيس فاروفاكيس إلى اعتماد مبلغ أساسي شامل يمول بواسطة تدفق الدخل من استثمارات المجتمع في رأسمال الشركات الخاصة. على نحو مماثل، اقترح مدير صندوق التحوط البارز راي داليو وجوزيف ستيجليتز من جامعة كولومبيا مؤخرا تجميع حصص ملكية دافعي الضرائب في الشركات التي جرى إنقاذها خلال أزمة كوفيد-19 في صندوق ثروة سيادي يوزع الأرباح دوريا على جميع المواطنين. كما اقترح رودريك إنشاء صناديق استثمارية عامة ممولة بالدين تستحوذ على حصص الأسهم في قطاعات وتكنولوجيات رئيسية، وتوزع الأرباح على هيئة عائد اجتماعي للابتكار والإبداع.

من الواضح أن الحجة قوية لصالح منح المواطنين هِـبة رأسمالية تعكس كرامتهم غير القابلة للتصرف والعائد الذي يحصله المجتمع على استثماراته العامة. ولكن يتعين على المجتمعات أن تختار عندما يتعلق الأمر بمنح مثل هذه الهبة، فضلا عن حجمها، وتدرجها، وتمويلها، والقيود التي يجب أن تفرض على استخدامها.

تتطلب سندات المواليد، على سبيل المثال، موارد مقدمة أقل كثيرا من منحة الرأسمال للشباب البالغين، لكنها ستستغرق وقتا أطول كثيرا لتغيير توزيع الثروة. بالإضافة إلى هذا، ستحظر أغلب المقترحات الاسترداد الفوري للهبة، وتقييد استخدامها بحيث لا يتجاوز أغراض مثل التعليم والسكن. وسوف يقلل اختبار الموارد المالية من التكلفة المالية لمثل هذه السياسة، لكنها ستنطوي على تكاليف إدارية، واجتماعية، وسياسية، وتحفيزية. وسوف يتطلب إيجاد التوازن الصحيح بين هذه المعايير إجراء مقايضات بين التكاليف والفوائد.

أما الوقف الرأسمالي الشامل فمن شأنه أن يساعد في تخفيف العواقب الظالمة التي يفرضها الحظ عند الولادة. ولكن لإحداث تغيير حقيقي، يجب أن يكون كبيرا بالقدر الكافي لتضييق فجوات الثروة الحالية بشكل كبير وإبطال تركز ملكية رأس المال والسلطة السياسية. يتطلب مثل هذا البرنامج إعادة توزيع كبيرة للثروة مقدما، وهو ما يبدو تحقيقه صعبا من الناحية السياسية حتى في ظل أفضل سيناريوهات التعافي. ولكن كما حذرنا ستيجليتز، فإن أي سياسة أقل طموحا ربما تنتهي بها الحال إلى ترسيخ "رأسمالية شعبية" تفضي إلى إدامة تركز الثروة في حين تضلل عامة الناس وتحملهم على دعم سياسات تحابي رأس المال.

إن استراتيجية التعافي التي تهدف إلى توزيع الدخل والثروة والسلطة بشكل أكثر إنصافا وعدالة يجب أن تستخدم كل الأدوات الممكنة. وقد يشكل الوقف الرأسمالي الشامل للشباب جزءا أساسيا من مثل هذه الخطة، إذا اقترن بسياسات قوية لتعزيز أسهم الملكية في مراحل الإنتاج الأخرى. لا يوجد حل خارق للعادة في النضال من أجل إيجاد مجتمع أكثر عدالة، لكن منح المواطنين القدرة على الوصول العادل إلى الفرص التي تتيحها ملكية رأس المال سيكون خطوة تحويلية كبرى.

* كمال درويش، وزير سابق للشؤون الاقتصادية في تركيا ومدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكبير زملاء معهد بروكينجز/سيباستيان شتراوس، محلل أبحاث أول ومنسق للالتزامات الاستراتيجية في معهد بروكينغز
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق