q
سوف تنشأ أكبر المخاطر الاقتصادية في تلك المناطق حيث يتصور المستثمرون أن أنماط الماضي من غير المرجح أن تتغير. وسوف تشمل هذه المخاطر الركود في الصين، وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية الطويلة الأجل على مستوى العالَم، وتصاعد السياسات الاقتصادية الشعبوية التي تقوض مصداقية استقلال البنوك المركزية...
كينيث روجوف

كمبريدج ــ كما لم يقل مارك توين قِط: "ليس ما لا تعرفه هو الذي يوقعك في المتاعب. بل ما تعتقد أنك تعرفه عن يقين وهو ليس كذلك على الإطلاق". على مدار هذا العام، والعام المقبل، سوف تنشأ أكبر المخاطر الاقتصادية في تلك المناطق حيث يتصور المستثمرون أن أنماط الماضي من غير المرجح أن تتغير. وسوف تشمل هذه المخاطر الركود في الصين، وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية الطويلة الأجل على مستوى العالَم، وتصاعد السياسات الاقتصادية الشعبوية التي تقوض مصداقية استقلال البنوك المركزية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة على سندات حكومات الدول المتقدمة "الآمنة".

وربما يكون التباطؤ بدأ بقوة بالفعل في الصين. فقد هزت الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب الثقة، لكن هذا ليس سوى انحدار إلى اقتصاد كان متباطئا بالفعل بسبب انتقاله من النمو القائم على التصدير والاستثمار إلى نموذج أكثر استدامة يقوم على الاستهلاك المحلي. ويظل من غير المعلوم إلى أي مدى قد يتباطأ النمو الاقتصادي؛ ولكن نظرا للتناقض المتأصل بين نظام سياسي متزايد المركزية بقيادة الحزب والاحتياج إلى نظام اقتصادي غير مركزي يقوده المستهلك، فقد يشهد النمو الطويل الأجل انخفاضا أكبر.

من سوء الحظ أن خيار تجنب الانتقال إلى نموذج نمو يقوده المستهلك والاستمرار في تشجيع الصادرات والاستثمار العقاري ليس جذابا هو أيضا. فقد أصبحت الصين دولة مصدرة عالمية مهيمنة، ولا توجد مساحة في السوق أو أي قدر من التسامح السياسي ربما يتيح لها الحفاظ على وتيرة التوسع في الصادرات التي حققتها في السابق. وحتى تعزيز النمو من خلال الاستثمار، وخاصة في العقارات السكنية (التي تمثل حصة الأسد في ناتج البناء الصيني) ــ أصبح أكثر تحديا من أي وقت مضى.

بسبب الضغوط التي تدفع الأسعار إلى الهبوط، وخاصة خارج المدن الكبرى من الطراز الأول، يصبح من الصعب على نحو متزايد حث الأسر على استثمار حصة أكبر من ثرواتها في الإسكان. ورغم أن الصين ربما تكون في وضع أفضل كثيرا من أي اقتصاد غربي بحيث يتسنى لها تعميم الخسائر التي يتكبدها القطاع المصرفي، فإن استيعاب الانكماش الحاد في أسعار المساكن والبناء ربما يثبت كونه مؤلما للغاية.

إن أي انكماش كبير في النمو في الصين من شأنه أن يضرب بقية آسيا بقوة، جنبا إلى جنب مع الاقتصادات النامية والناشئة المصدرة للسلع الأساسية. ولن تسلم أوروبا ــ وخاصة ألمانيا ــ من الأذى. ورغم أن الولايات المتحدة أقل اعتمادا على الصين، فإن تعرض الأسواق المالية والصادرات الحساسة سياسيا لأي صدمة من شأنه أن يجعل تباطؤ الصين أشد إيلاما مما قد يتصور قادة الولايات المتحدة.

وربما يتجسد خطر خارجي أقل احتمالا لكنه أشد قسوة، إذا عكست أسعار الفائدة العالمية الحقيقية الطويلة الأجل مسارها وسجلت ارتفاعا ملحوظا بعد سنوات عديدة من الانحدار الثابت. وأنا لا أتحدث عن إحكام السياسات بشكل مفرط من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في عام 2019 فحسب. فهذا كفيل بإثارة المشاكل حقا، لكنه لن يؤثر في الأساس إلا على أسعار الفائدة الحقيقية القصيرة الأجل، وربما يمكن من حيث المبدأ عكس اتجاهه بمرور الوقت. أما الخطر الأكثر جسامة فيتلخص في صدمة أسعار الفائدة الحقيقية الطويلة الأجل للغاية، والتي أصبحت عند مستوى أدنى من أي نقطة بلغتها خلال العصر الحديث (باستثناء فترة القمع المالي بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الأسواق أقل تطورا من حالها اليوم).

في حين أن الارتفاع المستمر في أسعار الفائدة الحقيقية الطويلة الأجل حدث بعيد الاحتمال، فإنه ليس مستحيلا. وعلى الرغم من وجود تفسيرات عديدة للاتجاه المنخفض الطويل الأجل، فإن بعض العوامل قد تكون مؤقتة، ومن الصعب تحديد حجم التأثيرات المحتملة المتباينة تجريبيا.

وربما يكون أحد العوامل التي قد تدفع الأسعار العالمية إلى الارتفاع، على الجانب الحميد، حدوث طفرة في الإنتاجية، على سبيل المثال إذا بدأت الثورة الصناعية الرابعة المزعومة تؤثر على النمو بسرعة أكبر كثيرا مما هو متوقع حاليا. وربما يكون هذا مفيدا في الإجمال للاقتصاد العالمي، لكنه قد يفرض ضغوطا شديدة على المناطق والمجموعات المتأخرة. لكن الضغوط التي من شأنها أن تدفع الأسعار العالمية إلى الارتفاع قد تنبع من عامل أقل اعتدالا: اتجاه النمو الآسيوي إلى الانحدار الحاد (على سبيل المثال، بسبب تباطؤ طويل الأمد في الصين) على النحو الذي قد يؤدي إلى تحول الفوائض الخارجية التي ظلت قائمة لفترة طويلة إلى عجز.

ولكن لعل السبب الأكثر ترجيحا لارتفاع أسعار الفائدة العالمية هو انفجار الشعبوية في قسم كبير من العالَم. وبقدر ما قد يتمكن الشعبويون من قلب السياسات الاقتصادية الداعمة للسوق التي ظلت قائمة طوال العقود العديدة الأخيرة، فربما ينثرون بذور الشك في الأسواق العالمية حول مدى "أمان" ديون الدول المتقدمة في حقيقة الأمر. وقد يؤدي هذا إلى ارتفاع علاوات المخاطر وأسعار الفائدة، بل وربما يرتفع عجز الموازنة وتزداد حدة تشكك الأسواق في الحكومات وتتفاقم الأحداث إذا تباطأت الحكومات في تنفيذ تدابير التكيف.

يتفق أغلب خبراء الاقتصاد على أن أسعار الفائدة الطويلة الأجل المنخفضة اليوم تسمح للاقتصادات المتقدمة بإدامة قدر أكبر كثيرا من الديون. لكن اعتبار الدين الإضافي وجبة غداء مجانية ليس أكثر من حماقة. ذلك أن مستويات الدين المرتفعة تزيد من صعوبة استجابة الحكومات بشكل قوي للصدمات. ومن الواضح أن عدم القدرة على الاستجابة بقوة لأزمة مالية، أو وقوع هجمة سيبرانية، أو انتشار وباء، أو اندلاع حرب تجارية، من شأنه أن يزيد إلى حد كبير من خطر الركود الطويل الأمد، ويعد هذا تفسيرا مهما لتوصل الدراسات الأكاديمية الأكثر جدية إلى حقيقة مفادها أن مستويات الدين البالغة الارتفاع ترتبط بنمو أبطأ في الأمد البعيد.

إذا اعتمد صناع السياسات أكثر مما ينبغي على الديون (بدلا من فرض ضرائب أعلى على الأثرياء) من أجل ملاحقة سياسات تقدمية تعيد توزيع الدخل، فمن السهل أن نتخيل الأسواق تشكك في قدرة الدول على تحقيق النمو بالقدر الذي يسمح لها بالخروج من مستويات الديون البالغة الارتفاع. وربما تتسبب شكوك المستثمرين في دفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع إلى مستويات غير مريحة.

بطبيعة الحال، هناك العديد من المخاطر الأخرى التي تهدد النمو العالمي، بما في ذلك الفوضى السياسية المتزايدة في الولايات المتحدة، والخروج البريطاني الفوضوي من الاتحاد الأوروبي، والبنوك الإيطالية المرتبكة، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة الحِدة.

لكن هذه المخاطر الخارجية لا تجعل توقعات النمو العالمي قاتمة بالضرورة. فلا يزال السيناريو الأساسي للولايات المتحدة هو النمو القوي. وقد يكون النمو في أوروبا أعلى من الاتجاه أيضا، مع استمرار تعافيها الطويل البطيء من أزمة الديون التي اندلعت مع بداية هذا العقد. كما أثبت اقتصاد الصين خطأ المشككين لسنوات عديدة.

وعلى هذا فإن 2019 قد يكون عاما آخر من النمو العالمي القوي. ولكن من المؤسف أنه من المرجح أن يكون محطما للأعصاب أيضا.

* كينيث روجوف، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقا، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد حاليا، من مؤلفاته: هذا الوقت مختلف: ثمانية قرون من الحماقة المالية، وكتاب: لعنة النقدية، الذي صدر في أغسطس 2016.
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق