تُصنف الدول الغنية بالموارد النفطية على انها دول ريعية تعمل على استخراج الموارد من باطن الارض ومن ثمة تحصل على العائد الريعي دون بذل جهود لأفراد المجتمع، ويتمتع ذات الافراد بالعوائد النفطية، والعراق حالة واقعية لتصنيفه ضمن هذه البلدان، ففي هذه الدول ومنها العراق نلاحظ ان مسارات الانفاق الحكومي تتصاعد مع ارتفاع الايرادات النفطية نتيجة ارتفاع اسعاره في السوق العالمية.

وبما ان وزارة المالية هي المسيطرة على ايرادات الدولة، فهي ايضاً المحرك الاساسي للنشاط الاقتصادي في العراق، اذ تعتبر المٓورد الرئيسي لعناصر الطلب الكلي:

١- الاستهلاك.

٢-الاستثمار.

٣-الانفاق الحكومي.

٤- صافي التجارة الخارجية (الصادرات -الاستيرادات).

ان الناتج المحلي الاجمالي ونموه يعتمد على نمو وقدرة البلد على كمية الاموال الموجهة نحو الاستثمارات، والاخيرة تعتبر احد اهم عوامل التراكم الرأسمالي الذي يدفع عجلة النمو والتنمية الاقتصادية الى الامام، ففي حالة الاقتصاد العراقي فإن نسبة الاستثمارات الموجهة في الموازنة العامة في الغالب لم تتجاوز الـ17% منGDP، اما نسبة النفقات التشغيلية فقد تجاوزت الـ 37% من GDP، ونلاحظ ايضاً ان نسبة الانفاق الجاري الى مجموع الانفاق العام قد تخطت الـ90%، بينما نلاحظ ان نسبة الاستثماري الى اجمالي الانفاق لم تتجاوز في احسن الاحوال 25%!

والسياسة النقدية بعد 2003 تعتبر رهينة للسياسة المالية بدرجة كبيرة، ففي خصائص الاقتصاد النفطي فإن الموجودات الاجنبية تعتبر عماد الاساس النقدي، لأن الحكومة تعتمد في انفاقها على الايرادات النفطية وهي ايرادات من العملة الاجنبية يتم مبادلتها بعملة وطنية مع البنك المركزي وبالتالي سيزداد الاصدار النقدي تبعاً لذلك، فهذه الحالة تسمى الهيمنة النفطية-المالية اي انها هيمنة مزدوجة من خصائص الاقتصاد النفطي، فالعلاقة عكسية مابين الهيمنة المالية ومابين استقلالية البنك المركزي، فكلما ارتفعت الهيمنة المالية كلما انخفضت درجة استقلالية المركزي!!

ويلاحظ ذلك جلياً من خلال العلاقة بين معدل الانفاق وزيادة مبيعات المركزي ففي عام 2012 كان الانفاق العام نحو 105 ترليون دينار (الحصة الاكبر منه انفاق جاري) وكانت مبيعات المركزي من العملة الاجنبية تصل الى 48 مليار دولار ( معظم واردت الاحتياطي من فرق سعر بيع وزارة المالية الى المركزي)، وفي عام 2013 ارتفع الانفاق العام نحو 113 ترليون دينار، وفي العام ذاته نلاحظ ارتفاع مبيعات المركزي الى 53 مليار دولار بعد ان كان 48 مليار! هذا وفضلاً عن تفاقم حجم دين المالية العامة للبنك المركزي نتيجة عجز الموازنة وتمويل نفقات اخرى، ادى الى انخفاض قدرة البنك المركزي على تحقيق اسعار مستقر نتيجة المناسيب العالية لسيولة المالية العامة.

رغم ان البنك المركزي مُنح الاستقلالية بقانون رقم 56 عام 2004 ونص قانونه على عدة اهداف منها استقرار الاسعار وخفض مستويات التضخم... الا ان السياسة المالية لها ادوار وظيفية وسياسية واجتماعية مؤثرة على عمل واهداف البنك المركزي، فالمالية العامة بعد 2003 في العراق كانت متوجهة نحو نزعة استهلاكية، بعيداً عن توجهات السياسة النقدية، وفي اغلب الاحيان نزعة انتخابية مع كل انتخابات ترتفع النفقات الجارية، وتنخفض من الموازنة النفقات الاستثمارية، وكذلك ترتفع الاستيرادات وتنخفض الصادرات، وهذه العوامل مجتمعة تعمل على ان تكون السياسة النقدية خاضعة لضغوطات المالية العامة لتحقيق اهداف المركزي وفي مقدمتها الاستقرار النقدي.

ان ارتفاع النفقات الجارية وانخفاض الاستثمارية، وارتفاع الاستيراد، وانخفاض الصادرات، كل هذه السياسات تمهد لعدم الاستقرار وارتفاع موجات التضخم، وارتفاع البطالة ولاسيما منها المقنعة، مما يؤدي الى تأثيرات سلبية اقتصادية واجتماعية وسياسية على المجتمع، وبالرغم من ان البنك المركزي العراقي يعمل وفق نظام سعر الصرف المعوم المدار والذي يسمح بفرق نسبي او مرونة نسبية بين سعري البنك والموازي، الا ان الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا تسمح بمستويات عالية من التضخم (نتيجة تضخم الانفاق)، لأن قانونه هدف الى الاستقرار لذلك يضطر البنك المركزي وعبر اداة عمليات السوق المفتوحة ( نافذة مزاد العملة) ان يزيد من مبيعاته من الدولار وذلك ليساوي مابين الكمية المطلوبة والمعروضة من الدولار في السوق الموازي ولو تساوي نسبي، وذلك ليقترب من هدف الاستقرار، وهذا طبعاً له اثار سلبية على صندوق الدولة السيادي وهو الاحتياطيات من العملات الاجنبية، لأنه يستنزفها دون وجود استثمارات محلية تعمل على تشغيل المصانع لتعمل بدورها على زيادة الانتاج وتقليل الاستيراد!

ان جزء كبيرا من قرارات المالية العامة يعمل على وفق متبنيات حزبية، ومع كل دورة انتخابية نجد ارتفاع في الانفاق غير المنتج، والذي يذهب كله نحو الاستيرادات الاستهلاكية غير المنتجة، وان بعض الاقتصاديين حذروا من مغبة المرض الهولندي الذي اصاب الاقتصاد العراقي، وجعل هيكله احادي الجانب، ويؤكدون في المقابل ان انخفاض اسعار النفط بعد عام 2014 له دور كبير في تنشيط العقلية الحاكمة الريعية، للتوجه نحو موارد اخرى غير الموارد الناضبة.

* احمد هذال، باحث اقتصادي
[email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق