بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تمهيد اجمالي عن مفهوم النسبية والمفاهيم المقاربة
مفردة (النسبية)
النسبية مفهوم ومصطلح، شاع استعماله في الأزمنة الأخيرة، خاصة في الحقول المعرفية والابستمولوجية، حيث سميت بـ(النسبية المعرفية)، وقد شاع استخدامه خاصة في المجالات المعرفية، وفي البحوث عن الأديان والمذاهب والقضايا الميتافيزيقية، مما يتطلب دراسته، وتبيان معالمه ودلالاته، ولأن العديد من الفلاسفة والعلماء اتخذ مفهوم (النسبية) ذريعة لتقليص بل لهدم الفاصل بين المعرفة الحقة المطابقة للواقع وغيرها، ولإذابة وتمييع الحدود بين (الدين الحق) و(الصراط المستقيم) وغيرهما، باعتبار أن (نسبية المعرفة) تعني ـ في إحدى تفسيراتها ـ أن الصراطات كلها مستقيمة، وأن الأديان كلها على حق، أو أنها وإن لم تكن كلها على حق، إلا أنها بأجمعها (ظنية) ولا علم فيها، إلى غير ذلك من النتائج التي استنتجها بعض (الهِرمينوطيقيين).
(مفردة الهرمينوطيقا)
الهِرمينوطيقا Hermeneutics، اسم مصدر، في اللاتينية القديمة، وهي منقولة عن الفعل hermeneuo “ερμηνεύω”، [ [1 في اليونانية القديمة، والذي لا يزال مستخدما في المعاصرة أيضا، وبمعنى "يفسّر"، وقد فسرت أو ترجمت إلى (فن التفسير) أو (تفسير المتون والنصوص) وإلى (علم أو فن التأويل) و(نظرية التأويل) و(نظرية التفسير) و(التأويلية) أو غير ذلك.
ولكن لا يخفى الاختلاف الكبير بين (التفسير) و(التأويل) بلحاظ مادة الكلمة، لغةً وعرفاً، وقد تطرق لذلك المفسرون والأصوليون وعلماء فقه اللغة، كما لا يخفى الفرق بين (العلم) و(الفن).
وارتأى البعض ضرورة إبقاء الكلمة كما هي وعدم ترجمتها بل تعريبها فقط إلى (الهِرمينوطيقا)، نظراً لأنها تتميز بالشمولية في دلالتها على كافة الممارسات والعمليات التأويلية من تفسير وشرح، وفهم، وتأويل، وترجمة، وتطبيق.
عمر "الهِرمينوطيقا" ونشأتها
والمستظهر أن عمر (الهِرمينوطيقا)، إجمالاً[2]، يمتد بامتداد صراع الخير والشر، ويعود إلى بدء الخليقة، حيث واجه إبليس، نبي الله آدم عليه السلام، بتفسير هِرمينوطيقي أو بتأويل لكلام الله تعالى، حيث قال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)[3].
وهناك مفردات عديدة تدور حولها مباحث النسبية وقد جرى في الكتاب تفصيل الحديث عنها ومن هذه المفردات:
مفردة (الواقع)
(الواقع) قد يراد به عالم العين، والخارج، أي عالم الثبوت، في مقابل عالم الذهن، وعالم الإثبات، وعالم الخيال والوهم، ولذا يقال هذا أمر واقعي، في مقابل (أمر خيالي أو وهمي) وقد يراد به معاني أخرى عديدة مذكورة في الكتاب.
وقد جرينا في هذا الكتاب على حسب الاصطلاح الأول
مفردة (الحقيقة)
(الحقيقة) من الممكن أن نعتبرها ـ اصطلاحاً ـ مساوية لـ(الواقع) في اصطلاحه الأول، فعلى هذا: فكل واقع حقيقة، وكل حقيقة واقع.
وقد سرنا في هذا الكتاب على تعريف (الواقع) بـ: لحاظ مطابَقيته للقضية أو للإدراك أو للمعرفة أو للمعلومة)[4] ولذلك عبرنا بـ(نسبية الحقيقة، والمعرفة، واللغة) وذلك هو الأدق، إذ التقسيم رباعي وليس ثنائياً كما جرى تفصيله في الكتاب.
مفردة (المعرفة)
لقد عرّف عدد من العلماء ومعاجم اللغة المعرفة بما يساوي (العلم)، كما اصطلح آخرون على أن للمعرفة معنى وللعلم معنى آخر، وارتأى آخرون أن العلم أعم من المعرفة، وعَكَسَ قوم فقالوا: أن المعرفة أعم من العلم نظراً لشمول المعرفة للحاصل من الوحي أو الإلهام أو الكشف والشهود، على القول به، وكذا الوجدانيات والأوليات والفطريات، من غير أن يطلق على ذلك (العلم) ـ حسب هذا الرأي ـ والتفصيل في الكتاب.
(المعرفة) في الآيات الشريفة
ولعل الذي يستظهر من الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيها مادة عرف أو مشتقاتها: أن الملاحظ في المعرفة:
أ: المصاديق والجزئيات، لا الكليات.
ب: درجة خاصة من الوضوح.
ج: المعرفة المباشرة من دون وساطة شيء.
هذا إضافة إلى أمرين آخرين ليسا بذلك الإطلاق، فراجع الكتاب.
وفي مجمع البحرين: (وجاء العلم بمعنى المعرفة، كما جاءت بمعناه؛ لاشتراكهما في كون كل منهما مسبوقاً بالجهل).[5]
لكن الظاهر أن المسبوقية بالجهل هي ظرف[6] وليست مقوماً أو قيداً أو شرطاً، ولذا يصدقان (العلم والمعرفة) حتماً حتى على غير المسبوق بالجهل كالله جل جلاله، من غير تجوز، بل هو الأحق بإطلاق العام عليه.
مفردة اللغة:
ما هي (اللغة)؟ وما هي مهمتها؟ وما هو منشأ (اللغة)؟
إن الإجابة التفصيلية والمقارنة والمحقَّقة، عن ذلك، تستدعي كتاباً مستقلاً، وسنكتفي هنا بالإشارة السريعة، بالقدر الذي يسهم في تأصيل مباحث هذا الكتاب. كما جرى في الكتاب البحث عن صلات علم اللغة بالعلوم الأخرى مثل:
الصلة مع علم الأصول
الصلة بعلم الفقه
ج- الصلة بعلم الإجتماع (علماء اللغة الاجتماعيون)
د- الصلة بعلم "الأنثروبولوجيا"، أو علم الإنسان أو الأناسة
هـ- الصلة بعلم تدريس اللغات أو العلوم التطبيقية (علماء اللغة التطبيقيون)،
مفردة النص:
كما جرى البحث بالتفصيل عن (النصوص) وانه لدى القيام بعملية التحليل العلمي الدقيق للنصوص ـ والمراد بها الأعم من النص المكتوب أو الملفوظ، أو حتى الإشارة والعلامة ـ نجد أن (النص) على أقسام:
أولاً: مرآة الواقع
ثانيا: مرآة المؤلف
ثالثا: مرآة الواقع والمؤلف
رابعا: مرآة القارئ
خامسا: مادة للدراسة
سادسا: صانع الواقع
سابعا: المنتج والمفيد
فراجع التفاصيل في الكتاب.
ولكي تتضح أكثر فأكثر، مواطن النفي والإثبات والأخذ والرد في المباحث الهِرمينوطيقية، بين المؤيد والمعارض، ولكي تفرز بوضوح مفاصل البحث، لابد من أن نشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنه لدى التحليل الدقيق لكل نص أو رمز أو علامة أو لكل عمل وفعل وحركة، فإننا نجد أنه توجد هنالك محاور وحقائق ستة:
أ: نفس النص أو الرمز أو الفعل والحركة أو الحادث والظاهرة، ومداليلها أو محتوياتها ومضامينها الثبوتية أو النفس أمرية، الأعم من المطابقية والتضمنية والإلتزامية، والأعم من دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء والإشارة وغيرها،
ب: كاتب ذلك النص أو منتجه أو صانع تلك الأحداث والأفعال
ج: الدارس لذلك النص والمتأمل فيه والمطالع له والمتبحر فيه أو المفسر له
د: الأدوات والمناهج التي يستخدمها (المفسر) في تفكيك النص وتحليله ودراسته وبالتالي (فهمه).
هـ: الجهة الأخرى (المحايدة) التي تقوم بتقييم موضوعي لتفسير أي مفسر لأي نص من النصوص واستنتاجاته، ومدى مطابقة النص للواقع.
و: الواقع العيني، وعالم الثبوت، ونفس الأمر، الذي يعد (النص) جسراً له، ومرآة، وكاشفاً عنه.
وهذا ما نرى أنه قد أغفله الهِرمينوطيقيون، عند تناولهم الحقائق الخمس الأولى أو بعضها بالدراسة!؛
معادلة الفهم والحقيقة
وقد تناول الكتاب بتفصيل البحث عن انه: لا كليّة لـ:(تغاير الأفهام) فإن أكثر الأفهام ـ وأحياناً كلها ـ قد تتفق على:
1- قاعدة عامة أو قضية كبروية.
2- أو على فهم معنى محدد من (نص) معين.
3- أو قد تتفق على (مرجعية) محددة للفهم، وسبل معيارية له[7]؛
وأن (الأفهام المتغايرة) و(النصوص المتقابلة) أحدها صحيح، ومناقضها ومضاداتها خطأ دون ريب؛ والغريب أن يعترف الهِرمينوطيقي بأن صانع (الكمبيوتر) أو أي جهاز آخر يمكنه أن يصنع (مفاتيح معيارية) للتعامل مع كافة الأجهزة، في كل الأزمنة، من قبل كافة الأشخاص ممن يحملون خلفيات فكرية مختلفة وقناعات وقبليات قد تكون متناقضة، ومع ذلك فإن (المفتاح) الثابت والموحد والمعياري هو دائماً وأبداً هو رقم (1) وصفر مثلاً، في علم الحاسوب، أو أي مفتاح وطريق موحد آخر، وكذلك الحال في الأجهزة الكهربائية، والميكانيكية وغيرها. وكذلك الحال في (شفرة مورس)، أو غيرها.
ونقول: كيف يعترف عالم الألسنيات بأن بمقدور الإنسان العادي ذلك، ولا يكون بمقدور خالق هذا الإنسان، ذلك؟
بل نقول: إن عدم إنشائه وجعله جل وعلا لـ(النصوص مطلقة) ومحكمة، ودقيقة، لا يأتيها الباطل أو الأوهام، من بين يديها أو من خلفها، وكذلك عدم إيجاده تعالى لضوابط معيارية لفهم كلامه المنزل للبشر، وعدم خلقه لمرجعية مطلقة، لدى الاختلاف، يناقض (حكمته) تعالى و(عدله) و(لطفه) و(كرمه) و(رحمته).
ردود سريعة على الهِرمينوطيقيين
يكفي لنقض كلام النسبيين من غير أن نطالبهم بالإذعان بوجود الإله، القادر الحكيم المتعال، أن لا يكونوا سوفسطائيين، ينكرون وجود كل الحقائق، ويدعون كون كل شيء خيالاً وسراباً ووهماً؛ إذ يكفي لنقض كلامهم عندئذٍ، ـ بعد بداهة أن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية ـ ان نشير للحقائق التالية:
1 ـ توجد نصوص تستبطن حقائق مطلقة
2- ضرورة الإذعان بالإنكار
3- نقرأ نصوصهم على النقيض
4- ان النسبية تستلزم نسف العقد الاجتماعي.
5- وضرب مرجعية الدستور والقانون
6- وتحطيم الأسرة
7- وإلغاء معادلة النجاح والفشل
8- وهدم الفاصل بين الفضيلة والرذيلة
9- والإطاحة بوثيقة حقوق الإنسان
نسبية (الحركة) و(الزمان)
نعم: إن أبرز ما يمكن أن يستندوا إليه لنسبية (الحقيقة)، هو (الحركة) و(الزمان) وأمثال (الطول والقصر) و(السرعة والبطؤ)، بدعوى أن (الحركة) ذاتيُّها التغير، و(الزمان) منتزع من مقدار الحركة ـ على رأي ـ وهو نسبي أو متغير بالإضافة إلى ما سبقه ويلحقه، و(الطويل) قصير بالقياس للأطول منه.. وهكذا.
والجواب: إن (الحركة) بما هي حركة، ـ سواء أكانت حركة في (الأين) أم في (الوضع) أم في (الكم) أم في (الكيف) ـ أمر واقعي، لها تحقق في الخارج، وهي (حق) سواء علمنا بها أم أنكرناها، وسواء لاحظناها في حد ذاتها أم مقيسة للغير، فإنها لا تخرج عن كونها هي هي، بالحمل الذاتي الأولي وبالحمل الشائع الصناعي، وكذلك (الزمان).
وأما (معلوماتنا) و(صورنا الذهنية) عن (الحركة والزمان) ومعارفنا عنهما، وعلومنا بالنسبة لهما، فإنها أيضاً ليست بالنسبية؛ وقد جرى بحث ذلك بالتفصيل في الكتاب فراجع.
معاني النسبية ومدارسها:
إن المعاني المحتملة أو المقصودة والنظريات والمدارس في النسبية متعددة، ذكرنا في الكتاب أهمها، كما أشرنا فيه الى عدد من الاعتراضات والنقوض والنقد وهذه عناوينها فقط
1- عدم الإحاطة بكل الحقائق
أن يراد بها أننا قد نكشف بعض (الحقائق) أو جانباً من (الحقيقة) وجزءً منها، ولكننا لا نحيط بكل أبعادها خُبراً.
2- الإصابة في بعض الجوانب
أن يراد بها أننا قد نصيب في بعض ما اكتشفناه ونخطئ في البعض الآخر، وأن عقولنا ومداركنا وحواسنا ليست بمنأى عن الخطأ، بقول مطلق، بل قد نخطئ، ونحن قاطعين بأننا على صواب!
إلا أن المعنى المعروف والمعهود في هذا العصر والمطابق لظاهر لفظ (نسبية المعرفة) هو المعنى الثالث والرابع وكذا لوازمهما ـ أو ملازماتهما ـ أي المعنى الخامس والسادس والثامن والتاسع، وكذا المعنى الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر وكذا الرابع عشر والخامس عشر، لذا سيتركز النقاش في هذا الكتاب حولها، وإن أفادت بعض الأجوبة في إزاحة الستار عن عدم الاطلاق في دعوى النسبية في المعينين الأوليين أيضاً[8].
3- الصحة في زمان دون آخر
أن يراد به، إن معرفتي للحقيقة قد تكون صحيحة في زمان وصائبة فيه، وتكون بنفسها خطأ في زمان آخر، أو في مكان آخر، أو في ظرف آخر وحالة أخرى.
4- صوابية الآراء المتعاكسة
أن يراد إن (معرفتي للحقيقة) صائبة، كما أن (معرفة من يحمل قناعة ورأياً مضاداً عن الحقيقة نفسها، وبالمواصفات والشروط نفسها) هي صائبة أيضاً.
وهذا هو الذي ذهب إليه بعض مَن ادعى (الصراطات المستقيمة)
كما أن واحداً من أهم أركان ومبادئ (الديالكتيك) هو: (وحدة النقيضين) أو (الضدين) وصحة اجتماعهما
عناوين المناقشات:
أولاً: النظريتان الأخيرتان تنقضان أنفسهما
ثانياً: (النسبية) تجربة شخصية قاصرة
وهذا الاستقراء غير معلل، ولا قياس
افتقاد الدليل على التعميم للأنبياء والأوصياء
ثالثاً[9]: المعقولات المنطقية والفلسفية تشهد عليكم
فان من البديهي وجود علوم هي كلها حقائق[10]، أو تتضمن الكثير من الحقائق، وذلك كالرياضيات والمنطق، و(المعقولات الأولى)[11] و(المعقولات الثانية المنطقية)[12] و(المعقولات الثانية الفلسفية)[13]، هي (معارف مطلقة)، فهي:
أ: صحيحة في كل مكان وفي كل زمان، وفي مختلف الظروف والحالات.
ب: وأن من لا يقبلها فهو المخطئ، وليس له نصيب من (الحقيقة) أبداً.
ج: كما أن (معاييرها) دقيقة وموضوعية ومطلقة.
د: وهي حقائق حقيقة، وليست حقيقتها مرتهنة بكونها (نافعة) أو لا، على أن أكثرها نافعة على مستوى العقل النظري، مطلقاً.
هـ: وهي (مقولات عقلية عالمية).
و: (ليست نتيجة وجهة نظرنا الخاصة فقط)، وقد حدث الخلط بين كونها (فينا) أو كونها (بنا).
ز: وليست هي (مخلوقة) لهذا الخ أو ذاك العقل أو ذياك الذهن، بل هي أسمى من أن يخلقها الذهن والعقل؛ فإن لها تقررها في أنفسها، وغاية فضيلة العقل أن (يراها) و(يكتشفها) ويكون (المرآة) لها.
ح: كما أن (اللغة) الحاملة لها هي (لغة موضوعية) وهي مرآة عاكسة، قادرة على كشف الحقيقة بدقة متناهية.
ط: وهي معرفة تخترق الباطن ولا تجمد عند حدود الظواهر.
ي: كما أن كثيراً منها لا تتوقف معرفتها على (نسبتها) لشيء آخر، ككل ما هو (في نفسه، لنفسه) سواء كان (بنفسه) أيضاً وهو الله جل وعلا[14] أم لا، كما في كافة أنواع الجواهر من دائرة (المعقولات الأولى)[15]، كـ(الإنسان) و(النبات) و(الحجر والمدر)
رابعاً[16]: أين التجليات من النسبية؟ فراجع الكتاب.
نسبية آنشتاين
ومن هاتين النقطتين وغيرهما، يظهر أن البعض قد توهم عندما خلط بين (مذهب النسبية المعرفية، الفلسفي) والذي ينكر الطبيعة العلمية الموضوعية للمعرفة، وبين النظرية الفيزيائية الشهيرة بـ(النظرية النسبية العامة والخاصة) التي تقوم على التفسير العلمي للكون؛ كما جرى توضيحه في الكتاب.
5- لا معيار موضوعي لتمييز الحق من الباطل
أن يراد أنه حيث لا يوجد معيار موضوعي، لتمييز الحق من الباطل، فإنه لا محيص لنا عن القول بأن كل (الأفهام) و(المعارف) على تعاكسها وتناقضها هي (حق) وهي (صواب).[17]
ويمكن أن تناقش هذه المدرسة من مدارس النظرية النسبية، بالآتي:
أ ـ إنه خلط بين (عالم الثبوت) و(عالم الإثبات)،
ب ـ إنه لا يعقل[18] أن لا يوجد معيار موضوعي للتمييز بين الحق والباطل؛ فإن الكون كله قد بُنيَ على وجود حقائق من جهة ووجود معايير موضوعية إلى جوارها من جهة أخرى، فكيف يفتقد خصوص (الحق والباطل) أو الصدق والكذب (المعيار الموضوعي)؟ وهذا ما يشهد به منهج (البرهان الفرضي) و(البرهان الاستنباطي) و(الاستقراء المعلل) حيث يشهد التتبع، بوجود (الموازين لكل شيء) وكلما ازددنا تتبعاً ودقة وعمقاً، ازددنا أدلة وشواهد وازددنا اقتناعاً.
ج ـ أن (المعيار الموضوعي) موجود ـ وهو الذي عبرنا عنه بـ(المرجعيات المعرفية)[19] وذلك مثل:
1: (الوحي) والأنبياء والرسل والأوصياء.
2: و(العقل) في دائرة المستقلات العقلية وما أكثرها.[20]
3: و(الفطرة) و(الوجدان).
4: وأيضاً (بناء العقلاء بما هم عقلاء)
وقد فصلنا في الكتاب الكلام عن ذلك.
د- كما توجد مجموعة من (المعايير المنهجية) لتمييز الحق من الباطل والصدق من الكذب، ومنها:
(التناول الرياضي) للنتائج التي توصلنا لنا، و(الملاحظة) و(التطبيق) و(التجربة) وغيرها مما هو مذكور في (المنطق) في أبواب (الإستقراء) و(القياس) و(التمثيل) وفي علم (المناهج) تحت عناوين مثل (المنهج الاستنباطي) و(المنهج الاستقرائي) و(المنهج الفرضي) ولواحقها.
6- اللغة، هي لغة نسبية
أن يراد إن (اللغة) الحاملة للمعاني، والمحتضنة لها، والمختزنة لها، هي (لغة نسبية)، أي غير قادرة على إراءة الحقيقة كما هي، وهي لا تصلح مرآة حاكية ـ حكاية دقيقة حقيقية عن الواقع ـ!
أو يقال: اللغة هي مزيج، من الحكاية ومن التأثّر؛ فهي مرآة للواقع، لكنها في الوقت ذاته، مرآة لمن يستخدمها (مؤلفاً أو قارئاً)، أي أنها مرآة تنعكس فيها خصوصيات من يفكر بها، أو ينطق، أو يقرأ أو يكتب، فهي مرآة مزدوجة إذن.
وهناك حزمة من الاعتراضات ترد على هذا المعنى:
إن كان الكلام في (الإمكان الذاتي) فليس بصحيح كما فصلناه في الكتاب.
وإن كان الكلام في (القدرة) فلا شك في أن (القادر) على خلق عالم التكوين المدهش، قادر على أن يخلق (عالم التدوين) بحيث يكون مرآة صافية عاكسة (لعالم التكوين)[21]، كما هو هو.
إضافة إلى أجوبة أخرى تجدها في الكتاب وتكفي هنا الإشارة إلى أن أدل دليل على إمكان الشيء وقوعه؛ إذ لا ريب في وجود ألفاظ كثيرة تعكس الحقيقة كما هي، وذلك في (المعقولات الأولى) و(المعقولات الثانية المنطقية) و(المعقولات الثانية الفلسفية).
7- (المعرفة) هي النافعة فقط
8- لا وجود لمقولات عالمية
9- لا وجود لحقيقة مطلقة
وفسرها بعضهم بـ(لا وجود لحقيقة مطلقة) فإن (معارفنا وقيمنا هي نتيجة وجهة نظرنا الخاصة فقط).[22]
10- الإدراك إضافي
وقال البعض: (إن معرفتنا لا تتناول إلا ظواهر الوجود[23]، ولا تحيط إلا بالنسب بين الأشياء... وأن العقل لا يدرك الجوهر إلا منسوباً للعرض وبالعكس فكل إدراك هو إذن مشروط ونسبي)[24]، وفي الكتاب جواب مفصل عنه.
11- كل المعارف ظنية
ان (نسبية المعرفة) يقصد بها أنها لا تورث القطع أو العلم، بل كلها ظنية.
بمعنى انه لا توجد حتى معلومة واحدة قطعية، سواء في عالم المادة أم في عالم المجردات، عالم الغيب أم الشهود، عالم الظاهر أم عالم الباطن، سواء منها ما أدركته الحواس أم القوة المتعقلة أم القوة المتخيلة، أم القوة المتوهمة، وسواء منها ما حصل بالتجربة، أم التعلم والدراسة، أم الحدس والإلهام أم الكشف والشهود.[25]
وعلى ضوء ذلك قد يستنتج البعض: أن وجود الله أو عدله ظني! بل أصل أننا موجودون، ظني؛ إذ لعلنا (نتوهم) وجودنا! بل إن أصل تقسيم (المعلومات) إلى حق وباطل، ظني أيضاً! إذن فيحق لي أن أنكر ذلك كله!!! وهذه ـ كما ترى ـ درجات مختلفة من السفسطة، ولعله قال بكل منها بعض السوفسطائية.
وقد أجاب بالكتاب عن هذا المعنى بأجوبة عديدة فراجع.
ومنها: البحث عن ان (مفاتيح العلوم) قطعية
كما تجد في الكتاب بحثاً هاماً عن الظنون المعتبرة وان بناء العقلاء، والأديان كافة، قائم على (حجيتها) وضرورة الاعتماد عليها، بل يعدون من يتجنبها أو يهملها (سفيهاً)، وذلك مثل ظن الخبراء في مجال اختصاصهم، غير المعارض بمثله، بل على رأي: حتى المعارَض بمثله[26]
ومن الواضح أن الحياة بأكملها تبتني على (الظنون المعتبرة)، ولولاها للزم الهرج والمرج، والفوضى، واختلال النظام، وللزم من تركها، الوقوع في أضدادها، وهي الأوهام والخرافات.
إلى تفاصيل أخرى تجدها في الكتاب.
كما جرى الجواب تفصيلاً بان (كمال) كل شيء بحسبه، فقد يكون كماله في قوته، كما قد يكون كما له في ضعفه، وقد يكون كماله في كونه يقينياً وقد يكون كماله في كونه ظنياً. فهذه أقسام أربعة تجد تفصيلها في الكتاب.
كما جرى البحث بالتفصيل عن ضوابط الظن وأحكامه
وهذا يعني أن القول بـ(نسبية المعرفة) وتفسيرها بـ(ظنية المعرفة)، لا يعفينا من سلسلة من القواعد والأحكام والحدود والضوابط، كما أنه لا يعني: (أنه حيث كانت المعرفة ظنية، فلنا أن نستنتج من ذلك، صحة تجاوز تلك (المعرفة) والانتقال الفوضوي إلى غيرها، أو أن نستنتج عدم حجيتها، أو أن نستنتج حجيتها وحجية ما يضادها أيضاً).
كما جرى البحث عن شروط الظان
وعن ان الحل يكمن في منهجَةِ الظنون، لا الإلغاء
كما جرى الجواب عن شبهة (احتكار الحقيقة) الذي رفعوه، إذ قالوا (ليس لأي أحد، أن يدعي احتكار الحقيقة لنفسه...) بوجوه عديدة تضمنت تحقيق معنى احتكار الحقيقة المستهجن!
وجرى البحث عن ان ظنية العلوم تقود لضرورة (المرجعية)
12ـــ لا يوجد منهج علمي موصِل لحقيقة النص
لا يوجد أي منهج علمي، أو غير علمي، يستطيع أن يضمن الوصول إلى حقيقة النص.
وجرى الجواب بالتفصيل عن المناهج التي تضمن الوصول لحقيقة النص
وهناك وجوه عديدة تشكل مجموعة من الاعتراضات على هذا الرأي:
أن هنالك مناهج علمية ـ عملية، تضمن الوصول إلى حقيقة النص، كما تضمن الوصول إلى حقيقة الواقع، وذلك كمنهج (الاستقراء)، و(التجربة)، ومنهج (السبر والتقسيم) و(الدوران والترديد) وغيرها
13- لا توجد حقائق دائمة
إن نسبية المعرفة يقصد بها أنه لا توجد لدينا (حقائق[27] دائمة) بل الحقائق كلها (مؤقتة)؛ وذلك لأن الواقع متغير، والعالم كله متغير، فلكي تكون الحقائق صادقة، لابد أن تكون متغيرة كنتيجة طبيعية لتغير المعلوم والخارج، وإلا؛ فإن (القضية) لو دامت وثبتت مع تغير المعلوم والمدلول والخارج، لكانت كاذبة، دون ريب.
وهنا نسجل مجموعة من النقوض على هذا الرأي حيث نثبت بها وجود حقائق دائمة كثيرة دون شك:
أولا: الضرورة الأزلية والذاتية والوصفية..
ثانيا: الموجهات
ثالثا: المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ
وقد جرى تفصيل ذلك كله، كما جرى الحديث عن العلوم الاعتبارية
14- مقولة (الشيء في ذاته)[28]
وهو مقولة (الشيء، في ذاته)، (أن الشيء كما يبدو لنا، يختلف عن الشيء في حد ذاته). وهذا هو ما ذهب إليه كانط، وسنتوقف عند كلامه بعض الشيء فنقول: ان المحتملات في كلامه عديدة وقد جرى في الكتاب ذكرها ومنها قد يكون المقصود: ذلك المفهوم الذي يرتضيه النسبيون الهِرمينوطيقيون أي أن (الشيء في ذاته، لا تناله عقولنا كما هو هو، بل إنه في مسيرته ليتحول إلى "معلومة" في أذهاننا، فإنه يتشكل ويتلون، بلون مسبقاتنا الفكرية وخلفياتنا النفسية).
وبعبارة أدق: لا يتطابق (الشيء كما يبدو لنا مع الشيء في ذاته).
وبعبارة أخرى: الصور الموجودة في الذهن، أو الإدراكات الذهنية، لا تعكس الواقع كما هو، بل قد تضيف عليه، أو تحذف منه، أو تشوهه، أو تكون شيئاً آخر بالمرة.
وهذه عناوين بعض المناقشات:
أولاً[29]: هذه الثنائية استقراء ناقص، ولذا نجد (كانط) بنفسه، يعترف في نهاية (التحليل الأسمى)، بـ:
(ولعل الله أعطى مخلوقاً آخر، غيرنا فهماً وعقلاً قادراً على إدراك ذوات الأشياء (حقائقها وبواطنها) كما أعطانا قدرة وجدان العوارض (أو الظواهر) ولكن عقلنا مع أنه يحكم بوجود تلك الذوات لكنه لا وجدان له بها، ولا يستطيع أن يدرك إلا الظواهر).[30]
ثانياً: الثنائية تنقض نفسها بنفسها
ثالثاً: ليس تأثير القبليات قسرياً... فراجع التفصيل في الكتاب.
كما جرى بحث رائع عن:
رابعاً[31]: الوجه الآخر: التأثير الايجابي للخلفيات
إن تأثير الخلفيات الفكرية والقبليات والأطر النفسية، ينقسم إلى نوعين: فإن تأثير (الخلفيات) قد يكون تأثيراً سلبياً ضاراً وقد يكون تأثيرها تأثيراً إيجابياً نافعاً، وما نعنيه هنا بالضبط، هو أن الخلفيات والقبليات، ليست بالضرورة كلها مما تعاند الحقيقة، أو مما تشوه الواقع، أو تبتره وتمثَّل به، أو تحيك له أنسجة إضافية كاذبة.
خامساً: هناك حقائق تتحدى التلوّن
هنالك حقائق ومعارف عصِيِّة على (التلوّن) بلون (المسبقات الفكرية) أو (التشكل) بشكل النفس المدركة، وتلك الحقائق "تأبى" التشكل أو (التأطر) بإطار ثقافي سواء كان إطاراً لشخص أم مجموعة أم أمة، ومن تلك الحقائق (المقولات الإثنى عشر التي اعترف "كانط" أنها من (الأحكام القبلية العقلية).
سادسا: تطور العلوم يتجاوز (الثنائية) تدريجياً[32]
سابعاً: بدائل العلم الاكتسابي[33]
ثامناً: مرجعيات (المعرفة)[34]
لا ريب في أن الشيء كما نفهمه أو كما يبدو لنا، قد يعكس في بعض الاحيان، صورة مغايرة عن الواقع، فلا يكشف (الإدراك) بأمانة وصدق عن واقع الشيء أو الشيء في حد ذاته وكما هو.
لكن (الخالق) جل اسمه، كما خلق (مرشِّحات) في عالم التكوين، كذلك خلق (مرشحات) في عالم المعرفة، أو إن شئت فقل: خلق (مرجعيات)[35] ـ أحدها نور العقل ـ مهمتها تصفية الشوائب، وتصحيح مسار (المعلومة)، وصقل مرآة الفكر، لكي يتطابق (الإدراك) مع (المدرَك) ولكي يكون الشيء ـ المتلون والمتلوث بالقبليات ـ كما بدا لنا أولاً، مطابقاً للشيء كما هو هو بعد مروره بمصفاة العقل، ثانياً.
وقد جرى الحديث بالتفصيل عن العديد من المرجعيات ومنها:
مرجعية الأنبياء والأوصياء
ومرجعية قواعد من المنطق
ومرجعية العلم الحضوري
تاسعاً: الحقائق الشفافة
إن (الحقائق) إنما يتعقل فيها ثنائية (الشيء في حد ذاته والشيء كما يبدو لنا) لو كانت ذات بعدين: ظاهري شكلي (يتكون من لون وحجم وشكل مما يحس بالحواس الخمس) وداخلي باطني خفي مستتر، أما الحقائق (الشفافة) فلا، ونعني بالحقائق الشفافة الحقائق التي يكون ظاهرها عين (أو كاشف عن) باطنها من غير أن تتركب من أجزاء خارجية ظاهرية أو باطنية، أو تلك البسيطة التي لا شكل أو لون أو حجم أو طعم أو ملمس لها، والتفصيل في الكتاب
15- العلم مادي متغير
إن العلم والفكر مادي، وكل مادي متغير، فالعلم متغير، فهو إذن نسبي لا مطلق) مستدلين بان الفكر والإدراك من خواص الدماغ، والدماغ مادي مركب، فكما يقع الدماغ تحت سيطرة قوانين التحول والتغير والتكامل أو الانحطاط، كذلك العلم أو الادراك أو الفكر، فلا يوجد علم ثابت، بل كل علم فهو نسبي أي متغير ومتحول.
الجواب:
أولاً: شبهة في مقابل البديهة
هذه الدعوى، شبهة في مقابل البديهة، فلا يؤخذ بها، ويكفي لإبطالها بداهة أن المعادلات الرياضية (من حساب وهندسة) لا تتغير أبداً، فإن حاصل ضرب 5 في 5 هو 25 وحاصل جمع 5 و5 هو عشرة، ومساحة المربع هي نتاج ضرب أحد أضلاعه في الآخر، وتبقى هذه النتائج هي هي، مهما تغيرت خلايا أمخاخنا أو عصبوناتها أو غيرها و...
ثانياً: العلم ليس مادياً
ثالثاً: المطابق للواقع علم، وإلا فجهل
رابعاً: شهادة القضايا التاريخية
خامساً: تغير المخ لا يستلزم قلب المعلومة
سادساً: العلم من صفات الروح
إن الظاهر أن (العلم) من صفات (الروح) والروح مجردة[36] غير خاضعة لقوانين عالم المادة، فكذلك العلم، وأما الدماغ فمهمته (الإعداد) فقط أي أنه علة معدة، أو نقول: الدماغ حلقة وصل الروح بالبدن فيما يتعلق بتدبير البدن فقط، فلا حاجة للروح، في علمها، إليه أبداً.
وقد جرى تفصيل ذلك في الكتاب
كما جرى البحث عن:
سابعاً: أنواع (التغير) تحت المجهر
إن برهان السبر والتقسيم التالي يدلنا على أن تغير الدماغ، لا يستلزم بالضرورة تغير واقع العلم ومعادلة الصواب والخطأ وأنه إذا (غيّر) فإنه (تحت السيطرة) أو قابل للإنكشاف
ثامناً: تمرير المعلومات للخلايا الجديدة
آراء هرمينوطيقية ومناقشاتها
(1) الأهواء والنوازع تؤسس مواقفنا الوجودية الراهنة
(يرى ((غادامير)) ـ على العكس ـ أن الأهواء والنوازع ـ بالمعنى الحرفي ـ هي التي تؤسس موقفنا الوجودي الراهن الذي ننطلق منه لفهم الماضي والحاضر معاً).[37]
المناقشة
ناقشنا في الكتاب هذه المسألة بالتفصيل، وسيظهر عند مراجعته أن هذه ليست قاعدة، بل هي بنحو الموجبة الجزئية، وأن الأمر هو كذلك أحياناً في الذين (اتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ)[38] لكنه ليس كذلك في أحايين كثيرة، ومما يشهد له الكثير الكثير جداً من أولئك الذين ثاروا ضد الأهواء والنوازع، وسبحوا ضد التيار، وما أكثر الذين ضحوا بالراحة والمال والنعيم والصحة والجمال، لأجل قضية مبدئية، وما أكثر الذين سحقوا أهواءهم لإسعاد أمتهم أو شعبهم أو عشيرتهم أو عائلتهم، وما أكثر (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء)[39] والذين (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).[40]
هذا إضافة إلى أن (الموقف) أمر و(الفهم) أمر آخر، وقد يتعاكسان، بل ما أكثر تغايرهما؛ إذ ما أكثر الذين يعرفون الحق ثم يرفضونه[41] (في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعقيدة والسلوك وغيرها) (ƒيَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)[42] (ƒوَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)[43]. وما أكثر من لهم موقف وجودي من شيء ومع ذلك يفهمون الماضي والحاضر والأحداث والأفكار بما يناقض موقفهم.
(2) المعرفة الدينية جهد إنساني جمعي و...
(وبفضل التفاعل الممكن بين تجربتي الخاصة، وتجربة النص، يتوصل إلى شيء ليس لي فقط، ولا لمؤلفي، ولكنه شيء مشترك بيننا).[44]
و(إذن: المعرفة الدينية جهد إنساني لفهم الشريعة، مضبوط ومنهجي وجمعي ومتحرك، ودين كل واحد هو عين فهمه للشريعة، أما الشريعة الخالصة فلا وجود لها إلا لدى الشارع عز وجل)[45].
المناقشة
ناقشنا هذا الكلام مفصلاً في كتابنا الآخر[46]، وأشرنا إلى إجابات عديدة في مطاوي هذا الكتاب[47] ونضيف هنا مناقشة بعض من المفردات الواردة في النص (جهد إنساني) و(جمعي) و(الشريعة الخالصة) و(مضبوط ومنهجي) و(كل واحد).
أ- المعرفة قد لا تكون ( جهداً انسانياً)
1: ليست المعرفة الدينية بالضرورة، جهداً انسانياً، بل قد تكون (إلهاماً إلهياً)
2: إن كثيراً من المعارف الدينية، لم تحصل للأفراد عن طريق (الجهد الإنساني لفهم الشريعة)، حتى مع قطع النظر عن (الإلهام)؛ ذلك أن الرواة الذين عاصروا الرسول والأئمة والذين تلقوا منهم الشريعة مباشرة، لم يمارسوا (جهداً إنسانياً لفهم الشريعة) بالمعنى الذي قصده[48]
3: لا شك أنه توجد أقسام من المعرفة الدينية، هي من (القبليات) ـ بتعبير كانط ـ أو (الفطريات) بتعبير المناطقة والكلاميين، كما توجد أقسام كثيرة منها هي من (المستقلات العقلية) بتعبير الأصوليين والمناطقة والكلاميين، وهي كثيرة جداً[49] وهذه كلها ليست نتاج جهد إنساني ابداً،
ب- تحديد المراد بكلمة (جمعي)
إن التعبير بـ(جمعي) تعبير غامض، فهل المراد منه أن المعرفة الدينية مما لا يصل إليها الفرد أبداً، بل يصل إليها فقط مجموع المتدينين كلهم؟ أو جماعة من المتدينين؟
وقد جرى بحث ذلك تفصيلاً في الكتاب.
ج- لدى مَن توجد (الشريعة الخالصة)؟
إن القول بـ(أما الشريعة الخالصة فلا وجود لها إلا لدى الشارع عز وجل). يعاني من الاعتراضات التالية:
أولاً: إن نفس الإذعان بوجود (شريعة خالصة) يعني أن كل فهم طابقها فهو صحيح، وكل فهم أخطأها فهو باطل، وهو بالتالي يناقض قوله (دين كل واحد هو عين فهمه للشريعة)، إذ كان الأجدر أن يقول إذا لم يطابق الفهمُ الدينَ الخالص فإنه ليس ذلك الدين بل هو مجرد توهم الدين، وهل يصنع الوهم الحقيقة؟ وهل يغني السراب من الحق شيئاً (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)[50]، (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)[51]، (طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)[52].
وقد جرى تفصيل ذلك وبيان أجوبة أخرى في الكتاب.
ثم جرى الكلام عن ما الهدف المتوخى من هذا الكلام؟ فهل يراد: إن كل الأفهام صحيحة؟ أم كلها خاطئة؟ أم أحدها صحيح وما عداها خاطئ؟ أم كل منها يحمل وجهاً من الصحة وجانباً من الخطأ؟ أم أننا لا نعلم الصحيح من الخطأ؟
قد أجبنا عن هذه الشقوق الخمسة عند التطرق لنص آخر[53] فراجع.
د- ما هو مقياس (المنهجي) و(المضبوط)؟
نقول: من الذي يحدد هذا المنهج؟ وما هو مقياس (المضبوط) ذلك أن من الواضح أن مناهج المعرفة مختلفة[54] وأن مباني تلك المناهج مختلفة أيضاً.[55]
بل نقول: إذا كانت (الشريعة الخالصة) لا توجد إلا لدى الشارع، فالمناهج المعرفية والضبط والضوابط لا توجد أيضاً إلا لديه، وكما علينا أن نأخذ الشريعة منه، علينا أن نأخذ منهج الوصول إليها، منه،
هـ - (كل واحد) تحت المجهر
إن مقولة: (دين كل واحد هو عين فهمه للشريعة) تواجه الإشكالات التالية:
أولاً: نسأل هل يقصد بـ(كل واحد) المتخصص وغير المتخصص؟
بل إن نفس التعبير بـ(الفهم): (عين فهمه للشريعة) يستبطن إذعانه بوجود واقع قد ينعكس في ذهن الإنسان فيكون فهماً، أو لا فيكون جهلاً. فراجع تفاصيل الأجوبة في الكتاب.
(3) التطابق مع باطن المؤلف
(إن ما يريده الفهم في نظر (دلثاي) هو تحقيق تطابقه مع باطن المؤلف والتوافق معه، وإعادة إنتاج العملية المبدعة التي ولدت النتاج أو الأثر الإبداعي)[56].
المناقشة
أ- لا ضرورة لـ(تحقق التطابق)
نقول بإيجاز: لا ضرورة ـ بل لا فائدة ـ لتحقيق التطابق بين النص وباطن المؤلف، في كافة النصوص، بل إن من (النصوص) ما تكون قيمتها (ذاتية)...
ب- لا فائدة لـ(إعادة إنتاج العملية المبدعة)
كما أن إعادة إنتاج العملية المبدعة، ليست مفيدة في كثير من الأحيان، بل إنها ليست بمقدوره أبداً إذ يستحيل توفير كل الشروط الموضوعية التي صقلت شخصية المؤلف
وأما النصوص الدينية، فإن هذا الكلام، لا يجد طريقة إليها أبداً، ولا مجال له بل لا مفهوم له
قصد المؤلف: قد يهم، وقد لا يهم إن (فهم)[57] المعنى الذي تجسد في ذهن المؤلف أو الكاتب أو المتكلم[58]، بكل ما يحيط به من ظلال وأبعاد، ومن ملزومات وملازمات، وبالأهداف والغايات، والعلل والأسباب الكائنة وراءه؛ لهُوَ على قسمين ونوعين؛ فإنه قد يكون (مهماً) وقد لا يكون، وقد يكون (مؤثراً) أو (مطلوباً) أو (مفيداً)، وقد لا يكون، فلا إطلاق لدعوى (ضرورة تجاوز المناهج، لتحليل عملية الفهم نفسها..) وشبهها[59]؛ وأن من أكبر أخطاء بعض علمانيي المسلمين، عدم العمل بقواعد هِرمينوطيقية علمانيي الغرب ههنا، فكانت (هِرمينوطيقيتهم) (إنتقائية) بامتياز!؛ إذ أنهم قطعوا النظر عن أن مادة البحث هي (الانجيل المحرف) وأن (الباحثين) هم أناس ذوو ظروف موضوعية خاصة؛ إذ أنهم عاشوا صراعاً مع أنماط خاصة من أدعياء العلم الإلهي وهم الكهنة والقسسة والرهبان المستبدين.
كما انهم قطعوا النظر عن ملاحظة كافة الشروط الموضوعية لهِرمينوطيقي الغرب، التي كانت تحف العلاقة بين هذا المثلث (علماء الغرب المتحررين، رجال الكنيسة المحتكرين للسلطة والمعرفة، والانجيل المحرف) ثم عمّمتم النظرية إلى ساحة أخرى تفتقر عنصراً آخر من عناصر هذا المثلث، وهي ساحة كبار العلماء المسلمين من المفسرين اللذين لم يكونوا ممن يحارب الفكر والعلم والحرية، بل كانوا من أشد وأقوى دعاة الحرية والتدبر والتفكير والسير في الآفاق والأنفس؟! وأخص بالقول علماء أهل البيت الأطهار اللذين دعوا ـ تبعاً للقرآن الكريم ـ إلى فتح باب الاجتهاد والتدبر لا في القرآن الكريم فحسب، بل في الآيات الكونية أيضاً.
(4) فهم النص أو فهم الفرد؟
(ومن هنا كان "شلاير ماخر" يرى أن فهم النص هو فهم الفرد، وليس فهم قاعدة أو قانون معين).[60]
لكن هذا النص يعاني من إشكالات عديدة:
أولاً: إن (التأويل) قد يتوقف على فهم الفرد، أما (التفسير) فلا[61]، وبكلمة أخرى: (الإرادة الجدية) قد تتوقف، أما (الإرادة الاستعمالية) فلا.[62]
ثانياً: إن النص قد تكون له، في كثير من الأحيان، شخصية استقلالية
ثالثاً: إن فهم النص لا يعني بالضرورة ـ بل قد لا يرتبط بالمرة بـ ـ فهم الفرد في حقل الكثير من العلوم، كعلوم الرياضيات، والفلك والفيزياء والكيمياء، بل علم الكلام والفلسفة في الكثير من المسائل على الأقل.
(5) منهج يكبح سوء الفهم
يعتبر شلاير ماخر (1768ـ1834) أن (الهِرمينوطيقا هي بمثابة منهج يهدف إلى كبح خطر سوء الفهم) لكن السؤال هو ما هو هذا المنهج؟ ومن وما الذي يحدده؟ وما هي ضمانات سلامته وصحته؟
وقد عرفها البعض بـ(فن إمتلاك كل الشروط الضرورية للفهم)[63]، لكن (فهم النصوص) ليس هو المحور الوحيد، بل (الواقع) هو المحور الموازي، بل الأصيل، أي أنه هو المطلوب بالذات وفهم النص هو المطلوب بالتبع، أو فقل الفهم والنص مرآة، والواقع هو المقصود والهدف في الغالب.
(6) النص تجربة الحياة كما عاشها المؤلف
(في حين أن دلثاي يؤكد على العكس تماماً: أي على أن النص تعبير عن تجربة الحياة كما عاشها المؤلف وليس عن تجربة الحياة الموضوعية).[64]
المناقشة
اولاً: إن كثيراً من النصوص، هي (محصّنة) عن أن تؤثر فيها تجربة الحياة[65].
ثانياً: قد يريد لها المؤلف أن تكون تعبيراً عن مناقض أو مضاد أو مغاير تجربة حياته.
(7) اللغة محض تجل لحقيقة العالم
(ومن هذا المنطلق أيضاً كان (هيدغر) يرفض كل أشكال التفسير النفسانية والذاتية، التي تربط اللغة بذاتية الإنسان وبتجربته الداخلية الخاصة، ويرى فيها ـ أي في اللغة ـ محض تجل لحقيقة العالم بما هو كذلك)[66].
وقد ناقش الكتاب هذه المقولة من وجوه عديدة ومنها:
إن اللغة كثيراً ما يراد لها أن تكشف عالماً آخر هو غير عالم الحقيقة، مثل عالم المتخيلات وعالم المتوهمات، بل حتى عالم المعتقدات، والتي كثيراً ما تكون غير مطابقة للواقع، وعلى ذلك جرى من عرّف (الصدق) بأنه مطابقة القول للمعتقد.
ثالثاً: إن اللغة حتى لو أريد بها أن تكون مرآة لحقيقة العالم ومحض تجل له، إلا أنها قد تخفق في ذلك أو يخفق منتجها ومبدعها في صياغتها وحياكتها بحيث تتكشف عن الواقع، لا عن ضده أو مناقضه، أو عن الواقع بشكل مشوّه أو أبتر.
(8) الكينونة الإنسانية غير مستقرة
(ولما كان العالم في تبدل مستمر كانت الكينونة الإنسانية غير مستقرة على حال).[67]
المناقشة
إن هذه النظرية مبتنية على وحدة الذات العارفة مع الحقائق الخارجية، وذلك هو ما تطرق لنقده عدد من علماء الكلام والفلسفة في بحث الوجود الذهني ومبحث مناط الصدق في القضايا.
ثم انه حتى لو فرض تغير العلم باستمرار فإن ذات الكينونة الإنسانية لا تتغير،
(9) الإسلام لا يكتمل أبداً!
و(نجد ضمن هذا المنظور أن الإسلام لا يكتمل أبداً، بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي وفي كل مرحلة تاريخية معينة)
المناقشة
إن هذه المقولة، تمت مناقشتها بالتفصيل في عدة مواضع من الكتاب[68]، ونشير هنا إلى أن هذه المقولة غير صحيحة عقلياً وشرعياً؛ أما عقلياً فلما فصلنا الحديث عنه في موضع آخر من الكتاب عند التطرق لنفي النسبيات الثلاث: نسبية الحقيقة ونسبية المعرفة ونسبية اللغة.
ونشير إلى أن واحداً فقط من تلك (التحديدات والتعريفات) هو الصحيح، والبواقي خطأ؛ إذ يستحيل أن تتعدد الحقيقة وتتناقض، فإذا كانت الحقيقة (التي تجلت في شكل نصوص إلهية منزلة على رسول الله صلى الله عليه وآله) واحدة، فإن التحديد والتعريف و(القراءة) التي تتطابق معها فقط هي الصحيحة، وأن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يمتلك الدقة والوثاقة والمرآتية للواقع والذي يوصلك لفهم الحقيقة والنص كما هو، هو السياق الذي يتمتع (بالحجية) و(المرجعية) ويصلح كقرائن مقامية لفهم مرادات النص الإلهي، وما عداها ضلال وإضلال، وقد فصلنا هذه النقطة ونظائرها في مطاوي الكتاب.
كما ان هذا يعني أيضاً إلغاء مرجعية الإسلام كدين موحد، بل وإلغاء مرجعية القرآن وعدم صحة الاحتكام إليه في معترك التناقضات الفكرية؛ إذ كل يقول إنه يقوم بتحديد الإسلام وتعريفه في السياق الذي يراه صحيحاً، بل إذا كان الإسلام يعاد تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي، فإن لكل أحد أن يقول إن لي الحق في أن أعيد تحديد وتعريف الإسلام داخل سياق منظومتي المعرفية الخاصة
هذا كله، إضافة إلى أنه يحق للباحث أن يتساءل من صاحب هذا النص إذ يقول (بل ينبغي إعادة تحديده ـ أي الإسلام ـ وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ـ ثقافي) نسأل من الذي يمتلك صلاحية إعادة تحديد الإسلام وتعريفه؟ الكلاميون أم المفسرون أم الفقهاء أم الأصوليون أم العلمانيون؟ المعارضون للحضارة الغربية أم المنبهرون بها؟ الهِرمينوطيقيون أم اللا هرمينوطيقيين؟ التقليديون أم المتحررون؟ خاصة إذا علمنا أنه يوجد داخل كل سياق ثقافي اجتماعي في الأمة عدة تيارات، ثم من يحدد أن هذا هو السياق دون ذاك؟[69]
ونتساءل من المتحررين: لماذا يكون السياق الاجتماعي ـ الثقافي كلما تحرر وانفتح أكثر فأكثر، كان هو (المحور) في عملية إعادة التعريف والتحديد للإسلام وقوانينه، لكن السياق لو سار بإتجاه (الأصولية) بأية درجة من درجاتها، أقمتم الدنيا ولم تقعدوها؟!
ثم نسأل ما هو وجه شرعية وقدسية السياق الثقافي ـ الاجتماعي، في كل مرحلة تاريخية، لتكون له المرجعية؟
(10) تقييم منهج التاريخية
إن تطبيق (الدراسة التاريخية) على القرآن يعني: أن نخرج بنتيجة أن تشريعات القرآن في كيفية الصلاة والصوم والحج، وفي الخمس والزكاة، وفي شروط النكاح والطلاق، والبيع والشراء والرهن والوقف وفي كيفية تحديد الإرث والقصاص، وغير ذلك، هذه كلها في الوسط التاريخي الذي ظهرت فيه، قد تكون صحيحة، لكنها في وسط تاريخي آخر، كما في زماننا، قد تكون خاطئة، بل بالنسبة لقيمتها الذاتية قد تكون خاطئة أيضاً، بل إن مساحة (التاريخية) لتمتد حتى في النصوص التي تتحدث عن الميتافيزيقيا والأمور الغيبية[70]، وعن الله وصفاته والمعاد وغيرها!
ويواجه هذا الكلام إشكالات عديدة جرى تفصيلها في الكتاب ومنها:
من الناحية المصداقية نجد: أن (الدراسة التاريخية) لو فرض أنها صحيحة، فإنها يمكن لها أن تحكم على نصوص البشر العاجز المحدود[71]، لكنها لا ترقى إلى النصوص والتشريعات الصادرة من الإله المحيط بالماضي والحاضر والمستقبل، وبخصائص البشر الثابتة والمتغيرة، وبكافة ما يصلحه ويفسده.
وبعبارة أخرى: ما هو مادي وتاريخي يخضع لتقلبات المادة وتحولات التاريخ، أما ما ليس بمادي أو تاريخي، فإنه محصّن أمام تيارات التاريخ وتقلباته، إنه فوق التاريخ، كما أن العلوم الرياضية فوق التاريخ، تماماً.
ثانياً: من الناحية الكبروية[72] نجد: أن مما لا شك أن كثيراً من (النصوص) و(القواعد) و(التشريعات) و(الأفكار) تحمل قيمة ذاتية، وتسمو على الزمان والمكان، ولا تخضع لعوامل التغيير، أي أنها فوق (التاريخية).
وذلك ككافة النصوص الاخلاقية المفتاحية، وكافة التشريعات الناشئة عن (المستقلات العقلية)[73] وككثير من النصوص والقواعد الكلامية، وكالكثير من الأصول والأحكام والقواعد المنطقية.[74]
وقد جرى تفصيل الكلام عن (التاريخية) تحت العنوان التالي ("التاريخية" هي إحدى الصور الأربع فقط)
(11) الانفعالات معيار الحقيقة
(إنه "هوسيرل" يذهب إلى أن موضوع المعرفة لا يوجد خارج وعي الذات المركز عليه، أن الموضوع يكتشف ويخلق نتيجة الحدس الذي يتركز عليه، والانفعالات الشخصية لفرد هي معايير الحقيقة).[75]
المناقشة
لقد فصلنا في موضع آخر أن الحقيقة هي هي، وأن عالم الإثبات لو لم يتطابق مع عالم الثبوت كان خاطئاً، وأن الوجود الذهني مرآة للحقائق فإن عَكَسَتْها كما هي كانت صائبة وذات قيمة وإلا كانت خاطئة عديمة القيمة.
ثم إن معيار الحقيقة، لو كان هو الإنفعالات الشخصية، لكانت الحقيقة مناقضة لنفسها، لو تبدلت الانفعالات النفسية لذلك الفرد، بل لكانت الحقائق المتعاكسة صواباً وخطأ في وقت واحد؛
(12) النسبية وقوانين التطور الاجتماعي
(عرفت (المعرفة: [76]Cognition) بـ: (عملية إنعكاس الواقع وعرضه في الفكر الإنساني، وهي مشروطة بقوانين التطور الاجتماعي وترتبط إرتباطاً لا ينفصم بالممارسة).
و(الإنسان لا يستطيع أن يعرف شيئاً عن الواقع بدون الاحساسات).[77]
و(وعندما تؤكد الممارسة الإنتاجية الاجتماعية تطابق الأفكار والمعرفة والنظريات، مع الواقع، حينئذٍ فقط يمكن أن يقال: إن تلك الأفكار وتلك المعرفة وتلك النظريات صحيحة)[78]
المناقشة
يلاحظ عليه:
1- إن (المعرفة) غير مشروطة بقوانين التطور الاجتماعي، بل أن هنالك أقساماً من المعرفة غير مرتهنة به كما فصلناه في الكتاب.
2- إن (المعرفة) قد تكون هي (الصانعة) لقوانين التطور الاجتماعي[79]، لا المنفعلة عنها أو المشروطة بها، بل إن أنماط المعرفة المختلفة، بل والمتناقضة، التي تتحكم في وجود الذوات العارفة، هي التي تصنع أنماطاً مختلفة، بل ومتناقضة[80]، من قوانين التطور الاجتماعي[81].
3- إن قوانين التطور الاجتماعي، هي في حد ذاتها مختلف فيها، فكيف تكون المعرفة التي هي عملية إنعكاس الواقع، مشروطة بها؟ بل إن التجربة والتاريخ وانهيار الشيوعية العالمية وبالذات في روسيا ومنظومتها من دول أوروبا الشرقية، أثبتت بطلان قوانين التطور الاجتماعي حسب الفهم الإشتراكي والشيوعي.
وقد جرى تفصيل هذه النقاط وغيرها في الكتاب ومنها:
إن بعض أنواع المعرفة فقط هو الذي يرتبط بالممارسة، أي تلك الأنواع المادية الحسية من المعارف فقط، بل حتى المعارف المادية الحسية، فإنها ليست بأجمعها مرتبطة بالممارسة، بل قد تستكشف بالوجدان والشهود أو بالتعقل والتفكر أو حتى بالعلم الحضوري (ككافة المحسوسات بالحواس الباطنة) كالحب والبغض والحزن والفرح فإن الحزن والفرح والحب والبغض مثلاً لا ترتبط بالضرورة (بالممارسة)، بل أحياناً تنجم عن (التصور) المجرد فحسب.
وإذا كان (عندما تؤكد الممارسة...) صحيحاً فهذا يعني أن كافة الأفكار والمعارف والنظريات الإشتراكية والشيوعية، ليست صحيحة[82] قبل أن توجد (الممارسة الإنتاجية الاجتماعية) وقبل أن تتطابق وتؤكد تلك الممارسة الإنتاجية الاجتماعية، تلك الأفكار والمعارف.
وإن كون (الممارسة نفسها عملية متطورة...) لا يعني أنها نسبية، كما لا يعني (نسبية الحقيقة) وعدم وجود (الحق الثابت) وقد فصلنا النقطة الأولى[83] في فصل آخر[84]،
(13) المعرفة نتاج العمل الاجتماعي
(المعرفة: [85]knowledge)، نتاج للعمل الاجتماعي والتفكير اللذين يمارسهما الناس، وتكرار مثالي في شكل لغة للعلاقات الموضوعية المحكومة بالقانون في العالم الموضوعي الذي تعتريه التغييرات... وفي نظرية المعرفة المادية السابقة على الماركسية كانت المعرفة تفهم على النقيض من ذلك على أنها نتاج للجهد الإدراكي للفرد، نتاج للخبرة الفردية) واعترض عليه بـ(أن الإنسان يبدأ عملية الإدراك ممتلكاً جهازاً جاهزاً من المفاهيم والمقولات التي طورها المجتمع).[86]
يلاحظ عليه[87]:
أولاً- لا يعقل أن يكون (العلم) والمعرفة نتاج (العمل) لأنهما من مقولتين مختلفتين تماماً[88]، بل حتى لو فرض القول بأنهما من مقولة واحدة[89] لا يصح ذلك، ولذا نجد (العمل الاجتماعي) قد لا ينتج فكراً ومعرفة، كما هو الحال في غالب الناس (مزارعين وعمالاً وغيرهم) أو قد نجد (العمل الاجتماعي) الواحد، ينتج ـ إذا استعرنا تعبيرهم ـ معارف متناقضة أو مختلفة، غاية الأمر أن (العمل الاجتماعي)، قد يكون من (العلل المعدة) للوصول إلى أفكار ومعارف، ثم هي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة.
ثانياً- إن المعرفة ـ على فرض إمكان كونها نتاج العمل ـ فإنها كما قد تكون نتاجاً للعمل الاجتماعي، كذلك قد تكون نتاجاً للعمل الفردي أو للجهد الإدراكي للفرد، كما سبق،
وفي الكتاب تفاصيل أكثر وأجوبة أخرى فراجع.
(14) القرآن الكريم نص إنساني نسبي!
(إن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوماً، يفقد صفة الثبات، إنه يتحرك وتتعدد دلالته، إن الثبات من صفات المطلق المقدس، أما الإنساني فهو نسبي متغير، والقرآن نص مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهوماً، بالنسبي والمتغير، أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص إنساني "يتأنسن" ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية لا ندري عنها شيئاً إلا ما ذكره النص عنها؛
المناقشة
ولابد من التوقف قليلاً عند هذه النصوص لنسجل عليها الملاحظات التالية:
أولاً: ليس كل إنساني، نسبياً
إن الكلام بمجمله مبني على (المصادرات) ـ بالمصطلح المنطقي ـ أي على سلسلة من (الدعاوى) غير البَيّنة في نفسها ولا المبيّنة، أي أنها قضايا اعتبرها الكاتب "مسلمات" ولم يقم عليها دليلاً، ومنها (أما الإنساني فهو نسبي ومتغير) و(النص منذ لحظة نزوله الأولي أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي، تحول من كونه نصاً إلهياً وصار نصاً إنسانياً).
ونقول: إن الدليل القطعي قام على إبطال كبراه الكلية (أما الإنساني فهو نسبي ومتغير)؛ إذ من البديهي أن السالبة الجزئية[90] نقيض الموجبة الكلية، ومن الواضح أن هنالك الكثير من (الإنسانيات) التي ليست هي نسبية ولا متغيرة، ويمكن مبدئياً توزيعها على مجاميع أربعة، وقد جرى تفصيلها في الكتاب.
ثانياً: قاعدته تنقض نفسها!
ثالثاً: الجسم الإنساني متغير لا الروح الإنسانية
رابعاً: القرآن نص إلهي لا يتأنسن
كيف (يتحول القرآن إلى نص إنساني "يتأنسن") مع أن المفروض أن المسلم يعتقد أن (القرآن) نزل (كنصٍ) من السماء، أي أن الله تعالى خلق هذه النصوص بذاتها ونقلها جبرائيل (أمين الوحي) بحرفيتها للنبي المصطفى صلى الله عليه وآله.
ويبدو من هذا التعبير ومن تعبير الكاتب، "مع قراءة النبي له" أن الكتاب افترض أن القرآن نزل كـ(طاقة) مثلاً على النبي ثم حوله النبي إلى مادة نصيّة، أو أنه نزل كمعاني مجردة ثم صاغها النبي في قالب الألفاظ، أو أنه نزل كروح أو محتوى ثم ألبسه النبي شكلاً لفظياً، أو كمادة هيولائية، ثم منحها الرسول (صورة متجسدة)!!
والغريب أننا نجده (يفتي) في المسألة، كأنها حقيقة ثابتة؛ إذ يقول (إن حالة النص الخام المقدس حاله ميتافيزيقية)، نقول: أين ثبت لك أن النص نص خام؟ أليست هذه مصادرة ودعوى بلا دليل؟ من أين لك أن النص خام؟ إن هذا هو أول الكلام، بل إنه يرد على نفسه بنفسه إذ يقول: (حالة ميتافيزيقية لا ندري عنها شيئاً) نقول: إذا كانت حالة ميتافيزيقية لا تدري عنها شيئاً، فكيف حكمت عليها بأنها (خام) وأنه (منذ لحظة نزوله الأولي أي مع قراءة النبي له لحظة نزوله، تحوّل من كونه نصاً إلهياً وصار نصاً إنسانياً)؟
خامساً: التعبير بـ(قراءة النبي للوحي) مغالطة
سادساً: خلط عالمي الثبوت والإثبات
سابعاً: لا أسوار عازلة بين حقائق الدين والعلم
إننا نرى أن من الخطأ المنهجي، تصنيف النصوص إلى دينية وعلمية[91]، ووضع أسوارٍ عازلة حولها، كما فصلناه في الكتاب.
ثامناً: لم يتحول القرآن الكريم من التنزيل إلى التأويل
تاسعاً: ليس كل مفهوم متغيراً
ولا يصح (لكن من حيث يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوماً، يفقد صفة الثبات)
عاشراً:[92] فارق النصوص البشرية عن النص الإلهي
حادي عشر: برهان السبر والتقسيم
ثاني عشر: منهجيات مرجعية
إن (الدلالات) حتى لو تعددت، لكن توجد منهجيات، منطقية، وعقلية، وعلمية، لتحديد الصحيح منها من المخطئ، كما توجد منهجية لتحديد الدلالات الأولية والثانوية، والدلالات المقصودة وغير المقصودة ـ وقد فصلنا هذه النقطة في موضع آخر.
الخاتمة
القرآن الكريم والرسل والأوصياء
وبراهين العلم المحيط والمعرفة المطلقة
جرى في خاتمة الفصل الرابع تفصيل الحديث عن القران الكريم وحملته، وعن الرسل والاوصياء، معرفياً، وعن علومهم ومعارفهم، وهل هي نسبية ام مطلقة؟ وهل هي محدودة ام شاملة؟ وعن الادلة والبراهين على ذلك، وعن قضايا عديدة ذات صلة:
وأما الأدلة العقلية، فإننا سنشير ههنا إشارة فقط لعناوين الأدلة العقلية:
البرهان الإستنباطي
ويمكن الاستناد إليه بأنحاء عديدة، تطلب من علم الكلام والعقائد والفلسفة.
وقاعدة إمكان الأشرف
وقاعدة اللطف
بتقريراتها المتعددة.[93]
و(الاستقراء المعلل) ويمكن تصويره بأنحاء، ومن تلك الأنحاء:
البرهان الفرضي
والعلم العنائي
معادلة (العلم الإلهي العنائي بخلقه):
والمعرفة العقلية المباشرة والحدس
بصائر وحقائق عن القرآن الكريم وحَمَلَتِه
ثم إن (الوحي الإلهي) و(القرآن الكريم) و(نصوص الرسل والأوصياء) تختلف اختلافاً جذرياً عن سائر النصوص، فلا يمكن أن تتسرب إليها (النسبية) أبداً. وذلك هو ما فصلناه في الكتاب.
مناقشات مع كانط في نظريته المعرفية
هل الرياضيات من صناعة الذهن البشري؟
إن كانط أخطأ في توهمه (أن موضوعات الرياضيات كالمثلث والمربع والأعداد، هي من صناعة الذهن البشري ولذا تصدق كافة الأحكام بشأنها صدقاً يقينياً) وتفصيل الكلام يطلب من مبحث (مناط الصدق في القضايا) و(مبحث الوجود الذهني) وغيرهما، فراجع الكتاب في نقدنا لكلامه ولما وصل إليه من استنتاج كقوله:
خالقية العقل مقياس الصحة!
(فلأن الدائرة مخلوقة للعقل، فلا ريب أن كل ما يحكم به العقل حولها فهو صحيح) وقد علل بذلك صحة كافة القضايا الرياضية وقد جرى في الكتاب إيضاح وجه بطلان كلامه.
ولا يصح: (لا يمكن الوصول لحقائق الأشياء بمحض الفرض العقلي، مادامت غير مخلوقة للعقل)؛ إذ (الانكشاف) لا يتوقف على (الخلق)؛ ولذا ترى (المرآة) كاشفة عن الأجسام وليست خالقة لها، كما أن البصر يكشف عن الأشياء، وليس خالقاً لها،
هل (المباني العلمية) هي المرجع الوحيد؟
كما لا يصح قوله (ولكن من جهة أخرى في التعقل، لا يمكننا الاطمئنان بدون الاستناد إلى مبانٍ علمية) كقضية عامة مطلقة.
وذلك لأن (الأوليات) و(الفطريات) ليست كذلك، فإنها هي مفاتيح العلوم وتعقلها وما ينشأ منها مباشرة لا يتوقف على أي مبنى يكشفه العلم (بالمعنى المعهود) ثم إنها هي القطعية مائة بالمائة وأما المباني العلمية فأكثرها ظنية، نعم المتواترات والمجربات والمشاهدات، هي كذلك، وقد فصلناه في محله، كما أن (المستقلات العقلية) هي أيضاً مما يحصل بها القطع ولا تتوقف على (العلم) بل هي الصانعة للعلم.[94]
ولا يصح ما ذكره من أن موضوعات الفلسفة الأولى ـ حتى المجردات منها ـ لا يمكن تجربتها؟ إنه لم يقم دليلاً على ذلك، بل إنه إدعاء مجرد عن البرهنة.[95]
بين كانط وكوبرنيك
ولا يصح قياس كانط لما قام به بما قام به كوبرنيك، إذ اعتبر النتائج المعرفية التي وصل إليها هي انقلاب كانقلاب كوبرنيك، فنقول:
أولاً: إن صحة نظرية ما، مثل نظرية كوبرنيك، لا تعني أبداً صحة نظريات أخرى، لمجرد أنها تشترك في أنها تقوم بعملية قلب وتغيير للمعادلات، إن ذلك مما لا ينبغي صدوره من عامة الناس؛ فكيف بعلمائهم؟ بل:
نحن أبناء الدليل.....أينما مال نميل
ومن الشواهد أيضاً: وضوح بطلان قول من يقول: وصفاتي للعلاج هي الأصل، وليس العلاج الحقيقي الخارجي، وعلى المرض وعلى المريض أن (يدور) حول علاجي فيشفى بوصفتي، لا العكس!!
ثانياً: إن (الافتراض) لا يغيِّر من (الواقع) شيئاً؛ إذ يبقى الافتراض افتراضاً مهما صنع المرء؛ وهل يغير افتراض المفلس، أنه أغنى الأغنياء، أو الجاهل أنه أعلم العلماء، من الواقع شيئاً؟[96] أو هل يغير (افتراض) الحاكم المستبد، أنه (ديمقراطي) أو الحاكم الظالم، أنه (عادل)، من الحقيقة أمراً؟
ثالثاً: إن قياسه بكوبرنيك، غير واقعي، لأن كوبرنيك (اكتشف العكس)، وأقام عليه الأدلة والبراهين، أما هو فـ(افترض العكس).
رابعاً وخامساً: إن أدلته، لا تتطابق مع مدعياته، بل تناقضها وتنقضها، كما أن مقدماته لا تنتهي للنتائج التي توصل إليها أبداً،
وقد جرى تفصيل ذلك في الكتاب إضافة إلى أجوبة أخرى عديدة فراجع.
هل كانط سوفسطائي؟
استدرك كانط في آخر كتابه فقال: (إنني لست سوفسطائياً ولا أقول بأصالة التصور، ولا أنفي الموجودات ولا الحقائق)[97].
لكن هل ينفعه هذا الإستدراك والإقرار بأنه لا ينكر أصل وجود الحقائق، أم إنه يوقعه في وحل (التناقض)؟ والجواب في الكتاب.
كانط وقانون العلية والإمكان
وقد اتضحت أيضاً مكامن الخلل في قوله (قانون العلية من صنع عقولنا)، فإن (العلية) من المعقولات الثانية الفلسفية، التي الاتصاف بها في الخارج والعروض في الذهن، والتي هي موجودة بوجود منشأ انتزاعها.
بل إنه يناقض نفسه بذلك، بل إذا كان (قانون العلية) من صنع عقولنا، فلنا أن نعتبر المعلول علة والعلة معلولاً وأن نعتبر وجود (النار) معلولاً لضوئها، وضوؤها ونورها علةً لها؛ كما سيكون لنا أن نعتبر الثلج علة الحرارة والإحراق، والنار علة البرودة والتجمد.
اللهم إلا أن يريد من (قانون العلية) خصوص الحتمية في صدور هذا المعلول من علته (كصدور الإحراق من النار) وللبحث تفصيل تجده في الكتاب.
كانط والذوات الثلاثة
ويتحدث "كانط" عن الذوات الثلاثة (أي النفس، والعالم، والله) والتي تفرعت عنها العلوم الثلاثة:
"Psychologie، وهو علم النفس، وCosmologie، وهو علم الكون أو الكونيات، وTheologie، وهو علم اللاهوت".
ويقول: (إن هذه الذوات: لا يمكن أن تدرك بالعقل النظري، كما لا يمكن إثباتها؛ لأن العقل محدود بالتجربيات التي هي ظواهر فيخرجها تحت القاعدة والنظام ويجعلها معلومة)[98]، وباختصار: إنه ينكر (إمكان التصور) كما ينكر إمكان البرهنة وصولاً لـ(التصديق) وقد أجبنا عنه في الكتاب.
كما جرى في الكتاب نقد نظرية (المقولات الأربع) فراجع
التعاقب أو العلية؟
ثم إن قوله: (ولو لاحظنا التعاقب الدائمي لأمرين حدث عندنا تصور العلية) كلام سطحي غير علمي ولا دقيق؛ لأن (العلية) أمر أعمق من ملاحظة (التعاقب)؛ فإن التعاقب، أمر ظاهري سطحي، والعلية أمر عمقي جوهري، والتوالي والمعية، مما نراه[99]، أما العلية فلا ترى، بل ينتزعها الذهن.
ثم إن (التعاقب) أعم من العلية وليس دليلاً دائماً على العلِّية؛... فراجع
واما قوله: (وإذا لوحظ شيء في كل الأوقات، فهو الوجوب) فهو كلام ساذج لأنه يشكل خلطاً بين (الدوام) و(الوجوب) فراجع الكتاب.
الفرق بين الطبيعيات وموضوع الفلسفة الأولى
إن خلاصة تفريق كانط بين (الطبيعيات) وبين (موضوع الفلسفة الأولى)، هو أن في (الطبيعيات) تصل إلى الذهن (مواد العلم) عبر الحواس (ومواده في رأيه هي ظواهره وآثاره لا ذاته)، ثم العقل يركبها مع موضوعاته (من كمية وكيفية ونسبة وجهة) وهذه بدورها يقينية، فتنتج يقيناً أيضاً.[100]
أما (موضوع الفلسفة الأولى) فإن شيئاً منها لا يصل إلى الذهن عبر الحواس، فكيف نتيقن بها ونحكم عليها؟ أي (العلم لا يصل لحقائق الذوات؛ لأن الذهن لا ينال ما هو فوق الحس، والعقل لا منفذ له لنيل العلم إلا الحواس).[101]
نقد النص السابق
وهذا النص يعاني من إشكالات عديدة:
الوجه الأول:
إن برهانه الذي أقامه للوصول إلى (يقينية الطبيعيات) غير تام، فإنه استنتج يقينية العلوم الطبيعية من ضم مقدمتين هما:
1- مواد العلم الطبيعي يقينية.
2- أن الكمية والكيفية والنسبة والجهة التي يركب الذهن منها مواد العلم، هي أيضاً يقينية لكونها ذهنية (قد خلقها العقل).
لكن مكمن الخلل والنقص ههنا هو:
أولاً: إن هاتين المقدمتين حتى لو فرض صحتهما، لا تنتجان يقيناً؛ وذلك لأنه لابد من ضم مقدمة ثالثة، قد غفل عنها كانط، وبدون هذه المقدمة لا تنتج المقدمتان إلا احتمالاً، فراجع الكتاب.
ثانياً: إن (مواد العلم) لا تصل بالضرورة إلى الذهن صحيحة وسليمة دائماً بل كثيراً ما تصل إلى الذهن مشوهة أو ناقصة أو خاطئة تماماً، ولذا نجد كثرة الأخطاء في العلوم الطبيعية، ولذا فإن العلوم الطبيعية على عكس ما ذكره كانط، ليست يقينية، وقد فصّلنا هذه النقطة في مكان آخر. وتفصيل ذلك مع أجوبة أخرى تجدها في ثنايا الكتاب.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق