13- لا توجد حقائق دائمة
المعنى الثالث عشر من معاني النسبية: إن نسبية المعرفة يقصد بها أنه لا توجد لدينا (حقائق(1) دائمة) بل الحقائق كلها (مؤقتة)؛ وذلك لأن الواقع متغير، والعالم كله متغير، فلكي تكون الحقائق صادقة، لابد أن تكون متغيرة كنتيجة طبيعية لتغير المعلوم والخارج، وإلا؛ فإن (القضية) لو دامت وثبتت مع تغير المعلوم والمدلول والخارج، لكانت كاذبة، دون ريب.
وهنا نسجل مجموعة من النقوض على هذا الرأي حيث نثبت بها وجود حقائق دائمة كثيرة دون شك:
أولا: الضرورة الأزلية والذاتية والوصفية
إن قسماً كبيراً من (الواقعيات) هي واقعيات دائمة ثابتة في وجودها الخارجي أو النفس الأمري أو في ظرف تقررها أو ظرف فرضها، ولذلك فإنها (حقائق دائمة) بمعنى أن القضية أو الإدراك المطابق لها، صادق أبداً.
وقد فصلنا ذلك في موضع آخر، وهذه مجاميع من نماذج (الواقعيات) أو (الحقائق الدائمة):
1: القضايا التي يجب فيها ثبوت المحمول لذات الموضوع بالضرورة، على وجه يمتنع سلبه عنه بالنظر لذاته، من دون قيد وشرط حتى الوجود(2)، وذلك منحصر في واجب الوجود جل اسمه ـ وقد عنينا بالمحمول ههنا وجوده جل اسمه وصفاته الذاتية كالعلم والقدرة، كما سيأتي ـ على أن في التعبير مسامحة، لأن الواجب لا ماهية له ليحمل عليها الوجود، إلا أن (الحمل) بلحاظ (القضية) إذ تقول: (الله موجود) أو (واجب الوجود).
2: كافة القضايا التي يستحيل فيها ثبوت المحمول لذات الموضوع، مما عبر عنه بالمستحيل ذاتاً(3)، وذلك كشريك الباري وكوصف الاجتماع أو الارتفاع بالنسبة للنقيضين، وكالدور والتسلسل، وكون الجزء أكبر من الكل و...(4)
3: القضايا الممكنة بالذات، فإنها ممكنة بالضرورة، ويستحيل تخلف الإمكان عنها فهي من حيث وصفها بالإمكان، دائمة، وتمتد مساحة ذلك لتشمل كافة الممكنات.
4و5: كافة القضايا التي يصدق عليها إما الممتنع وقوعاً أو الواجب وقوعاً، مما يعبر عنه بـ(الضرورة الذاتية)(5) أو (الامتناع الذاتي)، فالإمتناع الوقوعي، كسلب الشيء عن نفسه(6)، ووصف الإنسان بما هو إنسان بالحجرية، وسلب الزوجية عن الأربعة، أو إثبات الفردية لها، فإن سلب الذات والذاتي، عن الذات، ممتنع وكذا العكس، وهو إثبات الذات والذاتيات، للذات كقولك (كل إنسان حيوان بالضرورة) فإنها ضرورية؛ إذ ثبوت الشيء لنفسه ضروري، وسلبه عن نفسه ممتنع، لأن مآله إلى رفع النقيضين.
والمراد بالذاتي ههنا: الأعم من ذاتي باب الكليات (إيساغوجي) وذاتي باب البرهان.
وبعبارة أخرى: لا يعقل أن يكون الشيء، بالحمل الذاتي الأولى، إلا هو، وذلك مقترن مع الحمل الشايع الصناعي.
6: كما أن الوجوب أو الإمتناع قد يكون لأمر خارج عن الموضوع، مما يسمى بالضرورة الوصفية أو الامتناع الوصفي كـ(كل كاتب متحرك الأصابع بالضرورة مادام كاتباً) وكسلب التفكير عن النائم؛ لأنه فاقد للوعي والإدراك، لا لذاته، وكسلب حركة الأصابع، عن الكاتب، مادام كاتباً.
ثانيا: الموجهات
إذا نقلنا الكلام الى (الموجهات) نجد الأنواع التالية من الحقائق والقضايا الدائمة الصدق:
1: (الضرورية المطلقة) وهي: ما دلت على ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع، أو سلب المحمول عن ذات الموضوع، مادام ذات الموضوع موجوداً، أي في ظرف وجود الذات، لا بشرطها؛ لتختلف عن المشروطة العامة.
كقولك (الإنسان حيوان(7) بالضرورة) (البقر ليس متكلماً(8) بالضرورة) (الماء مركب من الأوكسيجين والهيدروجين بالضرورة) (مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين بالضرورة) وهكذا وقد تطابق في المقام: (الحملان) الذاتي الأولي، والشائع الصناعي، سلباً وإيجاباً.
2: (المشروطة العامة)، وهي نفس السابقة، لكن (بشرط) بقاء عنوان الموضوع ثابتاً لذاته، كقولك: (الماشي متحرك بالضرورة مادام ماشياً)، أي مادام على هذه الصفة، ولكن بدون هذه الصفة فإن ذات الماشي (وهو الحيوان) لا يجب له التحرك، بل يجوز له التحرك.
3: (الدائمة المطلقة) وهي ما دلت على (دوام) ثبوت المحمول لذات الموضوع، أو سلبه عنه، مادام الموضوع بذاته موجوداً، سواء كان (ضرورياً) له أم لا، وذلك مثل (الإلكترون في الذرة، يدور حول النواة والبروتون دائماً) و(كل فلك متحرك دائماً)، (كل حبشي أسود) وذلك في كل ما ثبت دوام إتصاف الموضوع بالمحمول.
كما نجد أنواعاً أخرى من (الموجَّهات) بقسميها: البسيطة، والمركبة، ولا حاجة هنا للخوض في ذلك إذ قد فصله علماء المنطق(9) وفيما ذكرناه، الكفاية.
وهذه كلها، (حقائق) دائمة، كما هي (واقعيات) دائمة.
ثالثا: المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ
ولننتقل إلى مستوى آخر أعمق من البحث فنقول استناداً الى المبحث الأصولي الشهير في (المشتق):
إن الأمر كذلك(10) حتى في القضايا الزمنية المتغيرة، كشروق الشمس وغروبها، ونجاح تجربة وفشل أخرى، وذهاب زيد وإيابه، وولادة شخص أو وفاته، وصعود حضارة أو إنحطاطها؛ فإن كافة القضايا، بلحاظ (ظرف التلبس)(11) تعدُّ من الحقائق الدائمة؛ فإن (المشتق) حقيقة في (المتلبس بالمبدأ، بلحاظ حال التلبس) سواءاً كان الزمن ماضياً أم حاضراً أم لاحقاً مستقبلاً.
ويكفي للتمثيل لذلك: كافة القضايا التاريخية، كقولك النبي (صلى الله عليه وآله) بعث في مكة، ثم هاجر للمدينة، ثم استشهد عام 11 للهجرة.
إن هذه القضايا كلها صادقة، وستبقى أبداً صادقة مهما تغير الزمن، وليس المهم الآن خصوص المثال؛ إذ لنا إفحام الطرف بأي مثال تاريخي يؤمن به، كولادة طفله في سنة كذا، وأرض كذا، أو تخرجه من الجامعة، أو تأسيس دولة حديثة، أو سقوط دولة بمعركة، أو بإنقلاب عسكري أو غير ذلك، أو كشروق الشمس وغروبها يوم 1/1/1111 مثلاً، أو الخسوف والكسوف في الوقت الذي حدثا فيه.
إن هذه القضايا، تبقى صادقة أبداً مهما تغير الزمن، مادام اللحاظ لحاظ حال التلبس، أي في نفس حالة وقوع الحدث، ومهما تقادم الزمن، فإنها تبقى هي هي.
نعم القضية تتغير فقط لو نسبت (الحادثة) لا إلى ظرف حدوثها، بل إلى عامل آخر متغير. كقولك في (يوم الأحد): سيخرج زيد غداً للجامعة، ثم قولك في (يوم الإثنين) زيد خارج الآن، ثم قولك في (يوم الثلاثاء): خرج زيد أمس للجامعة.
والملاحظ هنا: تعانق القضايا الثابتة مع القضايا المتغيرة، وإنه لا توجد قضية متغيرة ألا وهي مستبطنة لقضية دائمة، إذ أننا نجد في كل قضية:
1: وجود قضية دائمة أبدية هي: (خروج زيد يوم الإثنين) فغنها قضية دائمة تصدق في كل الأزمان، وتبقى صادقة مهما تقلبت الظروف وتغيرت الأزمان.
2: ووجود قضية متغيرة، وذلك فيما لو لاحظت خروج زيد منسوباً إليك أنت، بما أنك قد انتقلت من زمن لآخر، فتقول: (خرج)، (خارج)، (سيخرج).
وللتعبير عن القضية الثابتة نتجنب استخدام الأفعال(12)، بل نستخدم الأسماء فقط، فنقول في مثال بعثة النبي صلى الله عليه وآله: (إن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله هي يوم 27 رجب، وهجرته للمدينة في وقت لاحق لذلك وشهادته في العام 11 للهجرة)، كما نقول: (خروج زيد يوم الإثنين عام 1001 أمر مسلَّم)، وستبقى الجملة هي هي سواء استخدمت قبل وقوع الحدث أم معه أم بعده.
لكننا للتعبير عن القضية المتغيرة، نستخدم الأفعال من ماضٍ ومضارع، والأدوات.(13)
ومن هنا نستكشف أن نسبة خروج زيد إلى (المجرد) و(اللا زماني) هي ثابتة أبداً، فلا يصدق بالقياس إليه: خرج، أو سيخرج زيد؛ بل كل هذه حاضر، عنده وهو محيط بها بأجمعها.
وذلك مما يطلب من مظانه في علم الكلام والفلسفة.
العلوم الاعتبارية
وبذلك يتضح أيضاً أن مطابقة القضايا الصادقة لمدلولاتها وعاكسيتها للواقعيات النفس الأمرية، أو مرآتية الأدوات للواقعيات، هي دائمة خالدة بلحاظ حال التلبس، سواء في ذلك (العلوم الحقيقية) أم (العلوم الاعتبارية) و(القوانين الاجتماعية)، وسواء في ذلك القضايا اليقينية أم الاحتمالية.
توضيح ذلك:
إن (العلوم الاعتبارية) المراد بها العلوم المبنية على (اعتبار من بيده الاعتبار) كعلم الأصول وعلم النحو والصرف(14)، بلحاظ ظرف التلبس، هي دائمة مطلقة، وكذلك القوانين الاجتماعية(15) والأعراف والتقاليد، وكذا القواعد الأخلاقية (بناء على دعوى أنها مجعولة وليست ذات تأصل، وهو باطل على التحقيق)(16) فإنها كلها بلحاظ (حال التلبس) دائمة.
أما في (الأخلاق) فقد يتوهم أن حسن الصدق مؤقت، لأنه مؤطر بإطار (مادام ليس مضراً) لكن الواقع هو أن كلتا القضيتين تبقيان دائمتين (الصدق النافع، حسن، دائماً وأبداً) و(الصدق الضار، قبيح دائماً وأبداً) وكلما تغير الواقع الخارجي، بأن صار الكذب النافع بالأمس، ضاراً اليوم، لتغير الظروف والشروط، تغيرت القضية المؤطرة بالأفعال وأدوات الزمن، ولم تتغير القضية المجردة عن الأفعال كما سبق.
وأما في (الأصول) فكذلك فإن المعتبر قد يعتبر (حجية خبر الواحد) في ظرف إنفتاح باب العلم وقد يعتبره حجة في ظرف الانسداد، وقد لا يعتبره حجة مطلقاً، وقد يعتبره حجة في ظرف دون آخر، وقد يعتبر ثم يسلب أو العكس، لكن تبقى القضية دائمة بلحاظ حال التلبس.
وكذلك الحال في الأعراف والتقاليد، فإن تغيرها، يغير فقط القضايا والجمل الفعلية، لا الجمل الإسمية، وبتعبير أدق لا يغير ما كان بلحاظ حال التلبس، ويغير غير ذلك.(17)
وعلى أية حال فإنه مهما تغير الواقع الخارجي للحقيقة الواحدة، بأن كان معدوماً مثلاً فوجد، أو للحقيقة المركبة، بأن كان جاهلاً فصار عالماً، أو لم يكن حجة فجعل حجة، فإن (الإدراك) لتلك الحقيقة، لو كان صائباً، فإنه سيبقى صائباً أبداً مع الحفاظ على كافة الشروط الموضوعية للتطابق، أي مع الحفاظ على لحاظ حال التلبس، ولو كان خطأ، فإنه سيبقى خطأ أبداً.
وبعبارة أخرى: (تغيُّر) المتعلَّق والمنكشَف والثبوت والواقع المرئي، إنما هو في زمن لاحق، لكنه يبقى هو هو في زمنه، إذ التغيّر (طارئ) وليس (سارياً)(18) فإن الماضي لا ينقلب عما وقع عليه، فالحقيقة (أو الإدراك الكاشف عن الواقع كما هو عليه في الزمن الخاص وبالشروط الخاصة) تبقى بلحاظ كاشفيتها عن (الواقع كما هو عليه...) دائمة خالدة.
وقد ظهر بذلك أن الصور أربعة: إذ توجد في عالم الثبوت والخارج صورتان، وتوجد في عالم الذهن والإدراك صورتان تطابقان تينك الصورتين، أبداً ودائماً:
الصورة الأولى: الشيء بما هو هو في ظرفه الخاص بشروطه الخاصة.
الصورة الثانية: الشيء بلحاظ تغير زمنه، أو تغير بعض شروطه.
الصورة الثالثة: إدراك الصورة الأولى، وهو مثلها(19)، ثابت من حيث الصدق والكذب.
الصورة الرابعة: إدراك الصورة الثانية، وهو مثلها، متغير فلو (جَمُدَ) فمع الصدق، يتحول للكذب، وكذا العكس.
ويتضح ذلك بالمثال الآتي: تقول (ذهب علي إلى الجامعة يوم الاثنين في الساعة 7 صباحاً)، فإن هذا الواقع وهذه القضية تبقى هي هي أبداً، أي تبقى دائماً (واقعية) وأنه (ذهب في السابعة صباحاً للجامعة)، إذ الماضي لا ينقلب عما وقع عليه في ظرفه، أبداً، وكذلك الإدراك لهذا المتعلق بحذافيره وشروطه.
وأما (المتغير) فهو ما وقع بعد هذا الظرف، إذ أنه (رجع من الجامعة في الثانية ظهراً) فـ(ذهب) تغيرت إلى (رجع) لكن بعد تغيير عامل الزمن (من 7 صباحاً إلى ظهراً)، وأما مع ثبات عامل الزمن فإن كلاً من (ذهب في الـ7) و(رجع في الـ2 ظهراً) تبقيان أبداً في متن الواقع كذلك، كما تبقيان أبداً في (الصورة الإدراكية الملتقطة عنهما) كذلك قضيتين حقيقيتين.
كما أن القضيتين الكاذبتين (وهما ذهب في الساعة 2) و(رجع في الساعة 7) تبقيان أبداً كاذبتين.
وبذلك كله ظهر أن (تراجع) بعض الفلاسفة المتأخرين، وتسليمهم (مؤقتية "الحقيقة" أي الإدراك عن الواقع) إذا كان مصبها (العلوم الاعتبارية) والقوانين الاجتماعية والأخلاق، وحصرهم دوامها بـ(العلوم الحقيقية)(20)، غير صحيح؛ إذ اتضح أن نفس ما يقال هنالك، يقال ههنا.
اضف تعليق