q

كما هو التداخل القائم بين القضايا الرئيسة في الحياة؛ من سياسة واقتصاد واجتماع، في معالجة الظواهر الانسانية، فان قضية الاستهلاك والاكتفاء الذاتي لن تكون بعيدة عن الوعي الاقتصادي بين شرائح المجتمع وما يفترض انتاجه من ثقافة اقتصادية تتداخل مع القدرة على الاستيعاب اجتماعياً، فالاستهلاك؛ في حد ذاته يُدرس كأحد ركائز الاقتصاد، بيد انه على صعيد الواقع يتأثر بشدة بثقافة المجتمع وتوجهاته، فاذا التزم القناعة –مثلاً- في حياته، يكون بمقدوره التحكّم بكل سهولة بميزان الاستهلاك، ومن ثمّ بحركة الانتاج و خيارات رأس المال.

ومما تعاني منه معظم البلاد الاسلامية، التلاعب المستمر في أسعار بعض السلع الاساسية لاسيما الغذائية مما يضع المواطن في السوق أمام تحدٍ صعب في الانحناء أمام ارتفاع الاسعار وإن كلفه ذلك المزيد من الضغوط على دخل الأسرة وعليه شخصياً بأن يضطر لإيجاد فرص عمل إضافية تضمن له مردود مالي ينقذه من عواصف الاسعار.

هذه الاستجابة (الجماهيرية) هي التي تكرّس الواقع السيئ في المجتمع، وفي نفس الوقت تشجع التجار واصحاب الرساميل على المزيد من التخلف الاقتصادي وتغييب التنافس الشريف والمثمر، رغم زعمهم بتحقيق بعض المكاسب المادية، بيد أن هذا لن يكون كل شيء في الامر، إنما هنالك حلول عملية لمعالجة ظاهرة التلاعب بالأسعار لن يقوى اصحاب المزارع والمصانع وغيرها على الصمود امامها.

هنا يأتي دور التعاون بين افراد المجتمع لمواجهة ما يهدد حياتهم المعيشية، فاذا قرر الغالبية العظمى من الناس الاستغناء عن سلعة غذائية طالها الارتفاع الشديد، ولو بنسبة معينة، فان ذلك يترك أثره المباشر على المعنيين، وهذا ليس من باب التمنّي او الحلم بعيداً عن الواقع، يكفي ان نلقي نظرة على تجربة المجتمع الهندي وكيفية تصدّيه للاستعمار البريطاني بمقاطعته المنسوجات البريطانية خلال مسيرته التحررية بقيادة زعيمه الخالد؛ غاندي، مما أجبر سلطات الاحتلال للإذعان لمطالب هذا الشعب الفقير وكانت إحدى المحطات نحو التحرر والتخلّص من العبودية والاستغلال.

وهذا يؤكد حقيقة وجود قوة تضاهي القوة الاقتصادية في السوق، وهي قوة الجماهير والامة ذات الكلمة الواحدة، على شرط توفر المادة الاساس لهذه القوة والتي يشير اليها سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه "التعاون والعمل"، بأن "الامة بما هي أمة ليست مصدر القوة، إنما الامة وهي متحدة ومتعاونة ومتلاحمة وعاملة، اساس القوة والقدرة"، والعكس صحيح تماماً، فان تشتت الميول في مجتمع المدينة الواحدة، او حتى الحي السكني الواحد، فضلاً عن البلد الكبير، من شأنه تحكيم قبضة التجار على السوق وتفرغهم براحة بال، للتلاعب بالاسعار كيفما اقتضت المصالح.

ومن أجل ان نعرف مصدر القوة، علينا معالجة جذور الضعف في المجتمع وهشاشته أمام حاجاته ورغباته، وبالنتيجة استجابته لمؤشر الاسعار بين الانخفاض والارتفاع دون أي اعتراض، فالمجتمع الذي يدبّ فيه الكسل والرغبة في الحياة المريحة والمرفهة مع أقل التكاليف، هو الذي يتعرض دائماً للضغوطات بسبب فقدانه التأثير على القرار الحكومي.

وفي روايات أهل البيت، عليهم السلام، لا نجد الحثّ على العمل والكدح وحسب، وإنما نقرأ التحذير من مغبة السقوط في وحل الكسل والاتكالية، ونقل عن أمير المؤمنين، عليه السلام، قوله في أبيات منسوبة اليه: "

لو كان هذا العلم يحصل بالمنُى

ما كان يبقى في البرية جاهـــــــل

اجهد ولا تكسل ولا تك غافلا

فندامة العقبى لمن يتكاســـــل

فالمجتمع الحيوي يتمكن دائماً من الأخذ بزمام المبادرة الاقتصادية في بلده، ثم التأثير على حركة السوق مهما كانت هيمنة الكبار عليه، بل يكون قادراً على صنع قوة اقتصادية من صميم واقعه من خلال اعتماد خطة "التكامل الاقتصادي" التي جاءت في كتاب الامام الشيرازي الراحل "الاقتصاد عصب الحياة"، "فالتكامل الاقتصادي يعد أهم معيار لقياس مدى تقدم أي مجتمع، فعلى سبيل المثال عندما يجد إنسان أن جاره ينتج محصولاً معيناً، فهو ينتقل الى محصول آخر لكي تتكامل المحصولات وذلك لسد جميع احتياجات المجتمع من المحاصيل ولاتبقى للمجتمع أي حاجة لم تُسد او لم يتوفر من يقوم بأعبائها، هذه الروح هي التي تقاس على أساسها قوة المجتمع وضعفه".

وهذا تحديداً ما يمكن تجربته لمكافحة ارتفاع الاسعار في المواد الغذائية، ضمن سلسلة اجراءات أخرى، فالاعتماد على سلعة معينة ومن مصادر محددة هو الذي يعزز الاحتكار ويسهل عملية التلاعب بالاسعار، بينما تعدد خيارات الانتاج ومصادره من شأنه ضمان التوازن في الاسعار وتوفير كل شيء في الاسواق، وبالنتيجة عدم إشغال الناس بمسألة تافهة وبسيطة وتغيير مسار تفكيرهم عن الأهم في قضاياه الاستراتيجية والمصيرية.

والسؤال الحاسم؛ كيف يتمكن المواطن العادي من الإسهام في إنجاح عملية اقتصادية كبيرة كهذه؟

ان من يحمل المال ويتبضّع من الاسواق، يمثل يد عاملة وعقل مفكر ومبدع وجزء من حركة كبيرة في عجلة الاقتصاد، وليس بالضرورة ان تكون هنالك طبقة منتجة من العمال او المزارعين، وطبقة أخرى مستهلكة من الموظفين وهكذا... فالنجاح الذي حققه قائد مثل غاندي في بلد متخلف ومستعمر (بفتح العين والمميم) لم يكن لولا تكاتف افراده شعبه وتكثيف جهودهم نحو هدف واحد، وإلا ربما كان يطلق النداءات والاعلانات وينظّر ويتحدث ولا من مجيب، كما يحصل في عديد البلاد الاخرى، فالمشاركة في الانتاج المحلي او الوطني وتشجيعه، بل والتضحية من أجله، هو الذي يسهم في معالجة ظاهرة ارتفاع الاسعار.

اضف تعليق