q
إن منطق القوة في فرض الإقناع والانصياع –بمختلف الاشكال والمبررات- ربما يحقق بعض الشيء لاصحابه في السلطة، بيد أنه لن يلبث أن يتحول الى ورم ذهني واجتماعي ينفجر في أي لحظة على شكل تصرفات وأعمال انتقامية عندما يكتشف الانسان هول الخدعة والتضليل المتلبّس بها طيلة سنوات من حياته...

"إختلاف أمتي رحمة"

رسول الله، صلى الله عليه وآله

عندما تحترم رأي إنسان أمامك ستجني الودّ، أولاً؛ ثم التفاهم معك، فأنت أعطيته قبل أن تأخذ منه، وهذا بحدّ ذاته تفهّم لما جُبل عليه الانسان، ففي داخله رغبة جامحة لإثبات الذات، وأن يرى أفكاره وآماله متجسدة على الأرض أمامه؛ سواءً بفعل منه، او بمساعدة من الآخرين.

وبما أننا أمام مستويات متفاوتة من التفكير والذكاء، فمن المؤكد سنكون أمام تنوع رائع في التفكير يصنع خيارات وبدائل من شأنها المساعدة في حلّ الكثير من المشاكل، بل ويكون هذا الاختلاف (التنوّع) مصدر خير ورحمة عندما تتعدد الآراء حول مختلف القضايا في مسيرة التطور والتنمية، فمادام الهدف واحد كالفنار على الساحل، فان اختلاف وتعدد الوسائل للوصول يصبح أمراً طبيعياً.

الحوار لتعميق الإيمان

من أبرز أدوات الاختلاف؛ الحوار، الذي يفجّر ينابيع الافكار، ويسهّل عملية الاقتناع والإيمان، ولعل هذا المطلب لا يقتصر على بني البشر، فقد كانت الافكار تجول في خواطر الملائكة عندما أراد الله –تعالى- خلق آدم، وقبلها أراد –عزّوجل- تقديم درس بليغ للبشرية على دور الحوار في تحقيق الإيمان، والقرآن الكريم يسرد لنا قصة الحوار هذا بين رب السموات والارضين وملائكته المخلوقين، فأعلمهم -وهو الغنيّ عن العالمين- عن قراره بخلق آدم، بل وكشف لهم عن المادة التي سيخلق منها البشر، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ}، وفي سورة اخرى تسهب الآيات في تفصيل الحوار عندما صار الحديث عن خلافة الله في الأرض، فجاء الرد من الملائكة بشكل استفهامي: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}، ويؤكد العلماء أن استفهام الملائكة لم يكن اعتراضاً بتاتاً، إذ ليس بوسعهم ذلك، إنما كان لاكتساب المعرفة و الإيمان بحكمة الله في الخلق، وهو ما حصل فعلاً بعد اكتمال خلق آدم، وظهوره أمام الملائكة بشراً سويا، فأدوعه الله ما لا تعلمه الملائكة، وفي الآية التالية من سورة البقرة جاءت الاجابة على استفهامهم: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

التضليل ثقافة جاهلية

ما يخشاه الحاكم المستبد على منهج الطاعة العمياء لديه؛ انفتاح الجماهير على الرؤى والآراء المختلفة التي من شأنها إنارة الطريق الى الحقائق، ولعل منشأ خشيته من شيء اسمه "معارضة" هو تجرؤ الناس على السؤال والحوار والخروج بنتائج تكشف حقيقة زيفه وخداعه، هذا من جانب، ومن جانب آخر بإمكان الحوار البناء في أجواء سياسية واجتماعية طبيعية كالذي نعيشه في العراق من "تصحيح التصورات الخاطئة، لان ابتعاد الافراد والمجتمعات بعضها عن الآخر يؤدي الى تصورات خاطئة في كثير من الاحيان، حيث يحدث سوء الفهم، وهو بدوره يؤدي الى الحكم الخاطئ". (محاضرات ثقافية- السيد جعفر الشيرازي).

وحتى لا نصل الى نتيجة باهرة كهذه يحرص المستبدون وطلاب السلطة بكل ثمن للإيحاء بعدم جدوائية الاختلاف في وجهات النظر، بل وأضرارها على فكر وثقافة الناس لانها مثلاً: "تشتت الاذهان وتشوش على الافكار وتسلب حالة الاستقرار النفسي، بخلاف الرؤية والفكرة الواحدة التي تريح الناس الى أمد بعيد"!

هذه المنهجية القمعية تعود بجذورها الى الجاهلية التي حاربها الاسلام منذ بزوغ فجره على يد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، فكانوا يرون في آيات القرآن الكريم ما يثير في النفوس حب الاطلاع والتعلّم، ثم التسامي والتكامل، وقبل هذا؛ يزيل الفوارق السطحية بين بني البشر، ويجمعهم بأعراقهم وقومياتهم ولغاتهم حول محورية القيم والمبادئ، وهذا أمرٌ جديد لم يعهدوه من قبل في الجزيرة العربية، بل ولم يعهده الناس في العالم أجمع، لذا كان أهل مكة ومن حولها، لمجرد سماعهم آيات القرآن، يعلنوا اسلامهم وتخليهم عن عبادة الأوثان، وهذا ما لم يرق لأقطاب الجاهلية والشرك، فجاء القرار بمنع الاستماع الى من يتلو آيات القرآن الكريم، وحتى هم انفسهم، كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا يتأثروا بكلمات وحقائق القرآن.

إن منطق القوة في فرض الإقناع والانصياع –بمختلف الاشكال والمبررات- ربما يحقق بعض الشيء لاصحابه في السلطة، بيد أنه لن يلبث أن يتحول الى ورم ذهني واجتماعي ينفجر في أي لحظة على شكل تصرفات وأعمال انتقامية عندما يكتشف الانسان هول الخدعة والتضليل المتلبّس بها طيلة سنوات من حياته.

اضف تعليق


التعليقات

حمزة البصري
المغرب
يستحق القراءة2023-04-11