q
العزلة الاجتماعية فرصة غير مسبوقة للتأمل الذاتي. نظراً لكون حياتنا تتطلب منا الانتقال من موعد لآخر، أصبح من السهل الهروب من أنفسنا. على سبيل المثال، قد يكون الشروع في رحلة داخلية تجربة تعليمية رائعة. يعني ذلك اكتشاف ما نمثله ومعرفة نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا وقيمنا...
بقلم: مانفريد كيتس دي فريس

ماذا لو استغلينا أزمة فيروس كوفيد19، لنستعيد أواصر التواصل مع أنفسنا والآخرين؟

في عالمنا الشديد الترابط، هل من الممكن الهروب من الوباء؟ ذلك كان أول سؤال تبادر إلى ذهني عندما لجأت إلى منزلي بأحد المناطق النائية الريفية جنوب فرنسا. وأثناء النظر لأشجار الزيتون تذكرت قصتين قرأتهما منذ عدة سنوات.

تعيد القصة الأولى رواية حكاية قديمة تجري ببلاد ما بين النهرين واسمها "موعد في سامراء". الحكاية تقول أن أحد التجار في بغداد أرسل صبيه إلى السوق لشراء بعض الحاجيات، فعاد الصبي مذعورا وقد تغير لونه. قال لسيده أنه شاهد في السوق إمرأة غامضة حدس أنها "ملاك الموت" وأنها بنظرة استشعر فيها التهديد.

قال الصبي للتاجر أن عليه أن يفر بعيدا، وطلب منه أن يستعير أحد خيوله ليسرع إلى سامراء، وهي بلدة تبعد مئة كيلومتر ليكون في مأمن من سيدة الموت، وهاذا ما حصل.

في تلك الليلة، وصل الصبي إلى سامراء، ومات ليلتها...

لاحقا، رأى التاجر سيدة الموت، فسألها، لماذا نظرت إليه نظرة التهديد تلك إذا كان سيموت بكل الأحوال. قالت سيدة الموت: لم تكن نظرة تهديد بل كانت نظرة استغراب. فلقد فوجئت أني وجدته في بغداد، فموعدي معه كان في سامراء في تلك الليلة!

أما القصة الثانية فهي قصة قصيرة كتبها إدغار آلان بو، وتروي القصة محاولات الأمير بروسبيرو تجنب وباء خطير يعرف باسم الموت الأحمر عن طريق الاختباء في أحد الأديرة المحصنة وإغلاق الباب خلفه. ثم يقيم الأمير حفلة تنكرية مع عدة نبلاء آخرين. وفي خضم الاحتفالات تأتي شخصية غامضة متنكرة بزي ضحية الموت الأحمر وتشق طريقها نحو كل الغرف. بعد مواجهة هذا الغريب الذي يتبين فيما بعد أن لا شيء داخل الزي، يطلق الأمير صرخة ويموت. ويموت الضيوف بدورهم واحدا تلو الأخر أيضا. كان الغريب الغامض، بالطبع، الموت الأحمر.

المغزى من كلا القصتين أنه لا يوجد بشر، سواء خادم أو أمير بإمكانه الهروب من الموت. تبادرت هاتان القصتان لذهني عندما أبلغني عامل البناء في حديقتي أن زميله تم تشخيصه بفيروس كورونا. وكانت تلك محاولتي للهروب بعيداً.

الأثر النفسي للتباعد الاجتماعي

على الرغم من أننا لا نستطيع الهروب من الموت لكن بإمكاننا بذل جهدنا لتأخيره. لذلك السبب تقوم العديد من الحكومات بتقييد حركة الأشخاص. كما يريدون من الجميع عزل أنفسهم واعتماد التباعد الاجتماعي. تعد تلك الإجراءات خطوات معقولة لتقليل انتشار العدوى وتخفيف الضغوطات على النظام الصحي المثقل بالفعل. ولكن من وجهة نظر أخرى ترى الأمور من الجانب نفسي، كيف ستؤثر هذه التدابير على الناس؟

من ناحية العمل، فإن "الإقامة الجبرية" لا تعد بالضرورة مشكلة وقد تكون في الواقع أمراً مرحبًا به. على سبيل المثال، يمكن للأشخاص الذين يعملون في المكاتب مواصلة عملهم كما قبل لحد كبير، والفرق الرئيسي يكون بتوفير مشكلة وتكاليف التنقل. بالنسبة للآخرين، فإن الوضع أكثر من ذلك.

يجب أن نأخذ بعن الاعتبار أن الإنسان العاقل هو بدايةً وقبل كل شيء حيوان اجتماعي. أظهرت عدة أبحاث أن الأشخاص الناشطين اجتماعياً يكون مستوى الصحة النفسية والبدنية لديهم عالياً. فنحن كبشر لدينا رغبة قوية في الانخراط اجتماعياً مع الآخرين. مع حظر جميع التجمعات الاجتماعية، من المؤكد أننا سنرى الوجه القبيح للوحدة. وسيتأثر بعض الأشخاص بالعزلة لحد كبير.

ما يفاقم الوضع حقيقة أنه وخلال وقت الأزمات، يميل الأشخاص إلى مشاركة الخبرات وإظهار التضامن ومساعدة بعضهم البعض. من دون شك حان وقت ذلك خلال الأزمة الحالية، فخطر جائحة كورونا يهدد حياة الأشخاص وطرق عيشهم. بمثل هذه الأزمات أكثر ما نحتاجه هو الدعم الاجتماعي. فالعمل الجماعي قد يحمينا من التأثير السلبي لهذه الأحداث على صحتنا العقلية.

لذلك مطلوب منا -على الرغم من أنه ضروري للغاية لاحتواء الأزمة- عكس ما نقوم به نحن البشر عادةً. فعدم القدرة على اللجوء للآخرين بحثاً عن العزاء والراحة، يزيد من مستوى التوتر والقلق الناجمين بالفعل عن الأزمة.

يخلق التوتر والقلق لدى بعض الأشخاص قدراً كبيراً من الارتياب، وهو رد فعل منطقي للشعور بالتهديد من هذا العدو الخفي الذي يحيط بنا. لسوء الحظ، يضاعف جنون الارتياب من التأثير البعيد، ويضع الوقود على النار.

التواصل ليس فقط مع الآخرين بل مع أنفسنا أيضاً

لدى العديد منا أصدقاء مقربين يقومون عادة بتقليل حدة تعاملنا مع الضغوط المحتملة. وقد يساعدونا على التأقلم، على الرغم من أنه في بعض المواقف، قد يزيد الوقت الممتد الذي نقضيه في بيتنا من التوتر. مع ذلك، توفر لنا جائحة كورونا فرصة مثالية لإعادة العلاقات وتعزيزها داخل الأسرة.

يحاول الكثير منا البقاء على تواصل عبر المكالمات والرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني والوسائل الافتراضية الأخرى. تساهم هذه الطرق البديلة للبقاء على تواصل بإعطاء شعور بالاتحاد. وقد تكون ضرورية بشكل خاص للأشخاص الذين يعيشون بمفردهم. ففي ظل الموارد القليلة التي يمكن الاعتماد عليها، قد يعاني الأفراد من ضغوطات خطيرة.

من جانب إيجابي، قد تكون العزلة الاجتماعية فرصة غير مسبوقة للتأمل الذاتي. نظراً لكون حياتنا تتطلب منا الانتقال من موعد لآخر، أصبح من السهل الهروب من أنفسنا. على سبيل المثال، قد يكون الشروع في رحلة داخلية -كلما أمكن ذلك- تجربة تعليمية رائعة. يعني ذلك اكتشاف ما نمثله ومعرفة نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا وقيمنا ومعتقداتنا ورغباتنا. بإمكاننا خلال هذه الرحلة الروحية أن نحاول التعرف على الأمور التي تجعلنا نشعر بالسعادة وأن نقوم بها أكثر. كما يجب علينا معرفة الأمور التي تتسبب في تعاستنا والتقليل منها.

كأحد الأمثلة على الانعكاس الشخصي، سنورد ما قاله حاكم نيويورك أندرو كومو الذي تحدث عن ابنته التي كانت في الحجر الصحي لمدة أسبوعين:

"لأكون صادقاً، حظيت بأفضل محادثة معها على الإطلاق. تحدثنا عن الأشياء التي لم يكن لدينا الوقت للحديث عنها من قبل، أو التي لم يكن لدينا الشجاعة أو القوة للحديث عنها بالماضي – المشاعر التي اختبرتها، وعن الأخطاء التي ارتكبتها على طول الطريق والتي كنت أرغب بالتعبير عن أسفي عنها والتحدث معها حولها".

كما تحتاج اليرقة إلى التحول داخل شرنقتها قبل انبثاقها شكل فراشة، بالمثل تكون لرحلة التأمل الذاتي آثر كبير. وعلى الأرجح نحتاج لتلك القدرة على التغيير، فالعالم لن يكون على حاله بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا. كما قال الطبيب النفسي الشهير فيكتور فرانكل مرة: "عندما لا نستطيع تغيير الظروف، نتحدى لتغيير أنفسنا".

* مانفريد كيتس دي فريس، أستاذ متميز في تطوير مهارات القيادة والتغيير المؤسسي
https://knowledge-arabia.insead.edu

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق