بتزامن مع سياسات الاحتلال الاستيطانية والتوسعية وبتزامن مع محاولات تكريس الانقسام وفرض أجندة سياسية غير وطنية أو عابرة للوطنية، تجري محاولات حثيثة وممنهجة لتشويه وتغييب دور المؤسسات التاريخية والشرعية والوطنية : منظمة التحرير الفلسطينية وأحزابها، وتدمير حركة فتح مؤسِسة المشروع الوطني وحاميته وموضع رهان الشعب الفلسطيني، والتشكيك بجدوى مقاومة الاحتلال حتى وإن كانت سلمية، وتقزيم دور الحكومة ومكانتها في صناعة القرار الوطني داخليا ودوليا بحيث يصبح دورها خدماتي فقط، وتجاوز والتحايل على القانون الأساسي والمجلس التشريعي. محاولات ليس فقط لتدمير وتشويه هذه المؤسسات بل والانقلاب على مجمل التاريخ الوطني وتشويهه، وهو نفس الهدف الذي تشتغل عليه إسرائيل.

لأن إسرائيل تدرك أنه لا يمكنها الانتصار على الشعب الفلسطيني عسكريا، فإنها تعمل على تحطيمه وتدميره من داخله بضرب مقومات استمراريته كشعب طوال أكثر من أربعة آلاف سنة، واستمراره صامدا في وجه المشروع الصهيوني طوال مائة سنة، وهذا لن يتأتى في نظرها إلا من خلال كي وعي الشعب بتشكيكه بعدالة قضيته وبتاريخه النضالي وبثقافته الوطنية، وحتى تحقق مبتغاها تحتاج لأدوات داخلية تساعدها على القيام بهذه المهمة، ومن هنا وبتنسيق أمريكي إسرائيلي تجري عملية صناعة قيادة فلسطينية جديدة بصمت.

مَن يستطع تدمير دول ومجتمعات عربية وصناعة جيوش وجماعات وقيادات جديدة تحت عنوان الربيع العربي لن تعوزه الحيلة لتدمير حلم الدولة الفلسطينية المأمولة وخلق فوضى وصناعة قيادات فلسطينية جديدة.

ليست هذا شهادة أو إيحاء بأن أحزاب وفصائل منظمة التحرير تقوم بعملها على ما يرام، أو أنه في حال استمرارها على حالها ستكون قادرة على إنجاز المشروع الوطني، كما لا نزعم أن مسيرتها النضالية كانت مبرأة من الأخطاء، ونعلم أن أقل من نصف الشعب ينتمون للأحزاب والحركات السياسية بكل أيديولوجياتها...، ولكن إن كان لا بد من تغيير أو تجاوز هذه المؤسسات فالتغيير يجب أن يكون وطنيا، وأن تكون البدائل أكثر وطنية وطهرية وتمسكا بالثوابت والحقوق والثقافة والهوية الوطنية، وليس كما يجري صناعته من قيادات ونخب ذات سقف سياسي هابط ودون مصداقية أو التزام وطني.

وهكذا نلاحظ أنه مقابل التهميش المقصود والممنهج للمؤسسات الوطنية الشرعية والتاريخية والدستورية، واستمرار التصدع داخل حركة فتح وتعميقه بفعل فاعل، تبرز جماعات مصالح ومراكز قوى وأصحاب أجندة غير وطنية، يزحفون نحو مراكز القرار، ويتحركون بحرية داخل الوطن وخارجه، حيث تفتح إسرائيل وعواصم أجنبية أمامها الحدود والمعابر بشكل علني أو بالخفاء، وتتدفق عليها الأموال دون حسيب أو رقيب، وهذه الجماعات متفلتة من أية ارتباطات وطنية.

القوى الجديدة تتكون من شخصيات متساقطة من الأحزاب الوطنية، ومن أفراد من مؤسسات مسماة (المجتمع المدني)، ومن رجال مال يدخلون الحقل السياسي ليغطوا على نشاطهم المالي المشبوه وليعظموا من أرباحهم، ومن أصحاب أجندة دينية لا تعترف بالوطنية أو بالمشروع الوطني. وبعض مكونات هذه الفئة ينسقون عملهم مع ممثليات وأجهزة مخابرات إقليمية وعربية وأجنبية. بعض عناصر هذه النخبة الجديدة متغلغلة في بطانة الرئيس وفي المقاطعة، هؤلاء الذين تسللوا إلى المواقع الأولى، بعضهم من داخل حركة فتح وآخرون من خارجها بل من خارج المدرسة الوطنية أو من المنبوذين منهما.

هذه الجماعات، التي تتطلع لأن تصبح النخبة الجديدة للمجتمع، تعمل على مصادرة القرار الوطني من المؤسسات الشرعية والتاريخية والدستورية، من منظمة التحرير وفصائلها ومن حركة فتح على وجه الخصوص وتعمل على تشويه التاريخ النضالي للشعب ولفصائله وأحزابه التاريخية، وتتلاعب بمصير قضيتنا الوطنية دون حسيب أو رقيب.

بصماتها واضحة في إثارة الفتنة وتعميق الانقسام، وهي مسؤولة عن التخبط في التعامل مع ملف المصالحة الوطنية ومع ملف إعمار غزة، ومع مشاكل فتح الداخلية، ومسؤولة عن المماطلة في إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، وفي غياب استراتيجية للتعامل مع الشرعية الدولية، وفي رفض أي شكل من مقاومة الاحتلال حتى وإن كانت سلمية، هذه النخبة تحتقر الشعب وتاريخه النضالي، وتستهتر بإمكانياته وكأن بينها وبين الشعب وتاريخه وحقوقه الوطنية ثأر.

ما يعنيا هنا الفئة الثانية التي تستغل قربها من الرئيس لتَزعُم أنها تتكلم باسم الرئيس وتمثل سياسته ونهجه. هذه الجماعة باتت تشكل سلطة فوق كل السلطات، سلطة لا تحترم أية سلطة أو شرعية، لا تاريخية ولا وطنية ولا فكرية ولا حتى السلطة الوطنية. بعض عناصر هذه البطانة يتصرفون وكأن لديهم تفويض من الرئيس بما يعملون، وأن سياساتهم تنفيذ وتطبيق لسياسة الرئيس ورغباته، فالرئيس كما يروجون لا يريد ولا يثق بمنظمة التحرير ولا بحركة فتح ولا بأي حراك شعبي، والرئيس هو الذي يرى أن هذه المؤسسات والكيانات عبء عليه وعلى نهجه الواقعي والعقلاني...!.

هذه البطانة تبقي الرئيس محاصرا بها بحيث لا يرى شعبه إلا من خلالها، تُقرب للرئيس من هو مقرب منها ومن ترضى عنه، وتُبعد عن الرئيس وتُكرِهَه بمن لا ترضى عنه وتكرَهَه، وهو ما يخلق تباعدا وفجوة من انعدام الثقة بين الرئيس وشعبه تتزايد مع مرور الأيام. هذه البطانة تصنع أمجادا لنفسها على حساب مكانة الرئيس نفسه، بل يؤدي سلوكها وخطابها إلى تزايد عدد خصوم الرئيس.

النخبة الجديدة بفئتيها تقدم نفسها كمنقذ للحالة الوطنية حيث تزعم أنها تقوم بما تعجز عن القيام به المؤسسات والسلطات الرسمية!. الأمر الذي يثير تخوفات من أن هذه الجماعة، التي تُحقِر كل المؤسسات وكل الحالة الوطنية، تقوم بانقلاب هادئ على الرئيس وعلى المؤسسات والأحزاب الشرعية والتاريخية والوطنية، لتكون بديلا عن الجميع، ولتُشكل حالة قطيعة مع إرث حركة التحرر الوطني الفلسطيني ومجمل التاريخ النضالي الفلسطيني، وهو انقلاب أكثر خطورة من انقلاب حركة حماس.

هذه البطانة أو النخبة الجديدة، التي لا تستمد قوتها من ذاتها أو من مواقفها الوطنية، بل من ارتباطاتها الخارجية، ستقود الحالة السياسية في المرحلة القادمة حيث ستتولى إدارة روابط القرى فيما سيتبقى من الضفة الغربية، وستشكل إدارة مشتركة لقطاع غزة، بعد أن تُمعن في تمزيق وتفتيت وحدة المجتمع وتتفيه وتحقير قيمه الوطنية، وبعد أن تمعن تدميرا وخرابا بحركة فتح، وبعد أن يتم إزالة الرئيس أبو مازن كما تريد وتسعى إسرائيل.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق