في تلك الليلة الرَّاعفة، والرياح المزمجرة، أُغلقتْ جميع أبواب المنزل، وجميع النوافذ، فهذه الرياح تحمل جرحا لا يمكن أن يداويه أحد، جلست الفتاة "رفل" وشفاهها ترتجفُ من البرد، حزينة بوجهها الشاحب، من خلف النافذة تراقب المطر والسماء، ودموعها تسابق قطرات المطر في سرعة سقوطها وتحاكيها، مؤلمة هذه الليلة، كن رحيماً أيها المطر فأوراق الاشجار مازالت متعبة من عاصفة الرياح.

حسرات رفل ظاهرة على ملامح وجهها الدائري البريء، دخلت ريماس شقيقتها الكبرى التي لم تكن تقل حزنا عنها، فجرح رفل عميق لدرجة أن الكلام لا يكفي لتواسي به شقيقتها.

قالت ريماس بحزن شديد: رفل حبيبتي ما هذا الهدوء؟، تكلمي قولي أي شيء.

رفل بهدوء يسوده الحزن: أي شيء يا أختي؟.

ريماس وعبراتها تخنق الكلمات: أي شيء.

رفل: تكلمتُ مع قطرات المطر عن حلمي، عن طفولتي.

وصلت الفكرة إلى ريماس خرجت وهي تلم جراحات قلب شقيقتها.

رفل مكملة أمنياتها للمطر... ليل وظلمة السماء وصوت قطرات المطر، تعيد ذكرياتها الماضية، فالشتاء نصفه حنين ونصفه اشتياق.. ترسم على نافذة الشباك طائرا يحمل بجناحيه زهرة.. ما أن أكملتها حتى جاءت قطرة المطر ومحت ما رسمته رفل.

وجع رفل لم يُشفَ بعد.. طلع الفجر وزقزقة العصافير وهي تحط وتطير على الأشجار، أوراق السدر متناثرة هنا وهناك، بساط أخضر، الأرض رطبة، رائحة المطر في كل مكان، الشمس تنشر ثوبها كعروس زفت إلى السماء، رفل ممددة على سريرها والفانوس مازال مُضاءً.

خرج الأبوان الى عملهما ومعهما ريماس.

افاقت رفل بابتسامة باهتة، صباح الخير أيتها العصافير، صباح الخير يا مدينتي، سبحان الله من مطر ورياح إلى شمس وضياء... تأخذ علاجها، تقرأ الصحف اليومية، ترتب البيت، تقضي وقتها لحين رجوع أسرتها. ها هي أسيرة الأحزان منذ ان ولدت تجلس كالعادة تبكي وتشكي همومها الى الله وتحدث ربها وتقول:

"يا رب قد يئست من الحياة لم أعد قادرة، لقد حطمني الزمان، وهزمتني الدموع، أصبحت أسيرة لذلك الحزن طيلة حياتي... يا رب ليس لي ملجأ إلاك... لا اجد أمانا غير عندك... يا رب أنا على يقين أن ما عندك أفضل بكثير مما انا فيه، لذلك أريد عفوك يا الله قبل أن أأتى إليك يا رب، اغفر لي وسامحني انا أعرف أنك تعلم ما انا فيه، وتعلم أكثر منى أنه لا أمل في هذه الحياة، إنها حياة بائسة وقد جلبت العار لأهلي لابد ان أنهي حياتي كي يزول ذلك الهم والحزن.

الأسرة الحزينة وقد زاد حزنهم أضعاف أضعاف، وهم يرون إبنتهم الصغيرة قد فعلت كل ما استطعت من أعمالهم، فتح الحديث والدها واخبرها أن هنالك طبيب مشهور، ما رأيك يا رفل نحاول ولعل الله يجعل العلاج على يده.

لكن صوتا هادئا وحزينا قائلة وبعدها يا أبي هل سأموت أبي؟؟؟ كانت الدموع تحاول الخروج من عينيها، لكنها لن تسمح لها بالخروج، شعر الأب بألم رفل، عن ماذا تتحدثين عن الموت ستموتين حتماً، ستموتين عندما تستسلمين لليأس؟؟

خرجتْ بهدوء تام واتجهت نحو الطاولة المستديرة، أخذت كيس الدواء ورجعت بنفس الخطوات الهادئة، بعد أن اقتربت نحو والدها بغضب مفتعل، أبي سمعت هذا الكلام كثيرا، هذا هو العلاج.. خرجت من غرفتها بينما كان الأب في حجرتها يتكلم همسا ويفكر ماذا سيفعل؟.

لم يستطيع الأب ان يفكر كثيراً تتساقط من عينيه قطرات لتستقر على يد زوجته التي مسحتها سريعا. قدر الله وما شاء فعل. صبرا يا زوجي.

وبالفعل تماسكت الزوجة وأقنعت زوجها بمشيئة الله تعالى.

رفل تجلس على كرسي من خشب وبيد مرتعشة، تحتضن اوجاعها، وتشغل عقلها مما يخبئه لها القدر يا ترى!، فجأة انفتح الباب، اسرعت رفل بمسح دموعها، ولكن للأسف لم تلحق فلقد رأتها ريماس.

اقتربت منها بسرعة وقالت بقلق: ما بكِ؟

رفل بصوتها الباكي: لا شيء..

ريماس: لا.. عينيكِ حمراء وأيضاً آثار الدموع مرسومة على خدك... أكنتِ تبكين ولماذا؟

رفل بصوت عالي: قلت لكِ لا شيء..

ريماس والصدمة مرسومة على وجهها! بسبب نبرة صوت رفل الحادة معها وردها القاسي. ابتعدت منها الى الوراء وعيناها امتلأت بالدموع.

ثم قالت رفل بصوت متقطع: انا آسفة لم اقصد ان أزعجكِ ولكني متعبة من العلاج، انظري الى جسدي ِ كيف اصبح لونه وكيف بدأ يرتجف كأنني في خريف العمر.

ريماس: لم اقصد ان اضايقك فأنت شقيقتي ولم تكمل جملتها حتى ركضت رفل الى احضانها وضمتها الى صدرها. شعرت بحنينها اتجاه رفل وخوفها من اليأس، فـبكت في حضنها كطفلة فقدت ألعابها

نظرت الأم بعيون دامعة، هي ترى احتضان رفل لشقيقتها ريماس، رددت بين أكتاف ريماس سنذهب هذه المرة أيضا للطبيب، لكني أعلم النتيجة،! كان وجهها قد خضب بدموعها الناطقة..

قالت ريماس بصوت مبحوح من البكاء بعد ان ابعدت رفل عن كتفها: كوني واثقة أنها مشيئة الله، وقدرته، إذا مرضت فهو يشفين، تذكري هذه الآية والان كفكفي دموعك، ريماس وهي تعود الى شخصيتها المرحة ما رأيك أن نصنع قالبا من الحلوى بمناسبة ولادة السيدة زينب عليها السلام، أمسكت بيدها: هيا فهي كريمة عند الله وستقضي حاجتك..

رُسمت ضحكة بريئة على شفاه بيضاء من المرض.

هدأ بال رفل قليلاً، الجميع يأكل الطعام، رفل تشارك الأسرة في الحديث، وقت الظهيرة قد حل، والأسرة بحاجة إلى قليل من النوم بعد انتهاء الدوام، أما طبق الحلوى فقد أصبح جاهزاً بعد القيلولة، تتحرك اقدام رفل ببطء، تريد ان تصل الى غرفتها، بعد قليل رن جرس الباب، فتحت الباب ريماس صارخة.. جدتي.. أسرع الأب نحو الباب، أهلا وسهلا أمي زارتنا البركة.

رفل مازالت في غرفتها نائمة.. الأسرة تسلم تقبل يد الجدة الكبيرة ذات الشعر الأبيض والنظارة السوداء، وعصا تتكئ عليها، قائلة: اهلا أحبائي.. أين رفل هل هي بخير، اريد ان أراها، الأب نعم أمي رفل بخير وهي الآن نائمة.

الجدة: الحمد لله انكم بخير وصحة وعافية.

ذهبت الجدة إلى غرفة رفل، تشعر بالراحة مع رفل وحين تراها تدخل الطمأنينة في قلبها. تبلغ من العمر 70عاما، وظهر عليها التعب وآلام السنين وهمها على اولادها. نظرت الجدة عبر نافذة رفل إلى السماء، ورفعت يدها تدعو الباري عز وجل بكلمات لا تسمع منها فقط الهمس، والدموع تذرف من عينيها وهي تشير إلى رفل. رفعت الستارة، تقدمت شوقا الى رفل، أخذتها الى حضنها الدافئ، وضعت رأسها في حجرها، جدتي ليتني استطيع ان اسعدك، ليتني استطيع ان أحمل معك الوجع،ِ ليتني استطيع أن امسح دموعكِ، ليتني اخذ العلاج بدلا منك.

تقرأ بعض الآيات القرآنية وتنفخ على جسدها الذابل، وبينما هي تدعو رفعت رفل عينيها إلى جدتها، وكأنها تطلب منها أن تعيد الدعاء، لعله يستجاب.

ريماس بصوتها العالي، جدتي اين انت؟، مسحت الجدة على شعر رفل قائلة علمت انك عملت طبق حلوى هل تذيقيني منه؟ رفل تصحو وتقف: نعم جدتي.

سُعدت كثيراً بقدوم جدتها، عانقت الجدة بشدة، وكأنها لا تريد منهم ان يختفوا او يتبخروا كما اختفى الغاليين على قلبها.. رفل اجمل ما فيها نظرتها البريئة، لديها عيون كبيرة، عسلية، وانفها صغير، وحاد، وشعرها يتدرج لون اسود كسواد الليل، واجمل ما فيها غمازتيها حين تبتسم، ابتسامة عذبة، الحديث مع الجدة ممتع للغاية، قصص من الماضي وعبر، ترويها لأحفادها، ورفل مستمعة لحديث جدتها، مع الشاي والحلوى، كانوا متشوقين لحديث جدتهم من نظراتهم المتلهفة والخجلة إلى الجدة، تقدموا وجلسوا بالقرب من الجدة الكبيرة في العمر.

عدة دقائق مرت عليهم، وهم مسترسلين بالحديث، جو عائلي مملوء بالفرح والضحك بعد ليل مظلم وحزين مر على رفل، عند الفرح والسعادة، تسرع الساعة وكأنها تقول لا شيء يدوم طويلاً، سعدت رفل كثيراً اليوم، حين حل الظلام عليهم بدأ القمر ينير الاشياء، ذهبت الجدة إلى حجرتها والبقية لأداء فريضة الصلاة، تشعر بالراحة والطمأنينة رفل.

العشاء كان في حديقة الزهور، بصحبة الجدة والبنات، رجعوا وعلامات التعب واضحة، كل ما يفعلونه هو إدخال السرور في قلب رفل وإخراجها من اليأس، وبهدوء دخلت الجدة على رفل لتجدها نائمة على سريرها، اخذت العلاج وأغلقت عينيها، خرجت الجدة من دون ان تقول شيئا.

ذهبت إلى ابنها الذى كان يقف شاردا حائرا، في شرفة غرفته وبيده اسم الطبيب، إقتربت منه بهدوء وبدأت بالحديث، ماذا سيفعل هذا الطبيب؟ فعلت ما بوسعك فعله! عجز الأطباء عن علاج هذا المرض، لا تؤلمها أكثر، دعها تعيش باقي أيامها بهدوء، مع عائلتها، والد رفل مقاطعا كلام والدته ماذا تقولين يا امي اترك ابنتي تموت أمامي... لا يا ولدي ومن قال هذا، رفل بحاجة إلى أمل ينقذها، والأطباء عادة لا يعطون أملا من هذا المرض.

فكرت في حل يجعلها تعيش آخر أيامها بصورة طبيعية، وفرح تام.

الأب ما هو؟. الجدة هو أن تتزوج رفل.

والد رفل: ماذا؟!

الجدة: نعم تتزوج، كباقي الفتيات.

والد رفل: من يتزوج فتاة مصابة بمرض السرطان، رفل مرضها لا يتعافى بالمهدئات.. انها مصابة بسرطان الدم.

الجدة: هنالك شاب أيضا مصاب بمرض السرطان وهو أحد الأقرباء ما رأيك أن نجمع بينهما؟.

والد رفل: أمي هل الكلام صعب جدا، رفل ذكية، وستفهم ذلك اننا وراء الموضوع.

الجدة: لا عليك انا سأرتب الموضوع، ما عليك هو تأجيل موعد الطبيب.

والد رفل: حسناً ما يهمني هو سعادة رفل

الجدة تفكر في طريقة تجمع رفل مع هذا الشاب، مضت أيام والجدة مشغولة، من مكان لآخر تبحث عن وسيلة توصلها لهذا الشاب، وجدت حلا أخيرا وهو حل بسيط جدا، أن تأخذ رفل إلى بيت جدته، لتسأل عن حالهم، وتتفقد اقرباءها، دخلت الجدة في بيت الشاب، غيث، وجدته بالكاد يستطيع أن يحرك جسده الذابل، وأصبح لا يأكل إلا بالأوردة، تألمت الجدة وهي ترى حال غيث، شاب في العشرين من عمره قلع المرض ازهاره، لكن عينه مضيئة بالأمل، أصرت الجدة أن تفتح الموضوع مع جدة غيث، أحيانا الجدة تصنع المستحيل من أجل احفادها، هذا ما صنعته جدة رفل.

طرحت الموضوع وخطبت غيث المريض الناحل إلى رفل الوردة البيضاء الذابلة.

فرحوا أهل غيث كثيرا، أما غيث بعدما كان نائما على سرير المرض، اخذت صحته تتحسن، ويأخذ العلاج بوقته بعدان توقف عن تناوله، علم أهل رفل بالموضوع. أما العروسة البيضاء فهي. بالمرحلة الأخيرة.. ولم يبق لها من العمر إلا ستة اشهر. هذه الوردة الجميلة كيف ستكون عروسة؟.

علمت رفل بالموضوع، أغمي عليها.. حلم طفولتها ان تكون عروس وتلبس الفستان الابيض، إذا كان الأمر كذلك، انني أصبح عروس، فأنا مستعدة لأخذ العلاج، مضت أربعة أشهر سريعة وحزينة، بالنسبة لأسرة ستفقد ابنتها الصغيرة والعروس، أما رفل فكانت كل يوم يمر يزيدها تقربا من الله تعالى، تدعو أن يمنحها سته أشهر أخرى، حتى تحقق امنيتها الأخيرة، كانت كثيرة الصلاة، حتى في العلاج تصلي على سريرها.

وحان يوم عقد قران الوردة البيضاء مع الغصن الأخضر، في حديقة المستشفى للأمراض السرطانية، وبين المرضى، وأشرقت بالأنوار وجهها، وامتلأت شفتيها بابتسامة واسعة، أمسكت أمي بيدي، "في ذلك الزحام ووسط تلك الجموع الغفيرة، الجدة واقفة تنظر إلى حلم رفل وهو يتحقق، زغاريد الفرح تعلو في مكان انعدمت فيه الحياة، غيث سعيد للغاية ورفل دموع الفرحة لا تتوقف من عينيها، زفاف رفل ليس في قاعة فاخرة، وبوفيه مفتوح، عرسها في حديقة المستشفى والطعام خاص، لا تحمل بيدها باقة ورد كأي عروس، حملت جهاز اعطاء العلاج.

غيث لا يحمل الجهاز ويصور سيلفي مع زوجته. غيث في يده الكانيولا. روح وريحان ونعمة من الرحمان. يزفان العرسان الى الجناح السابع المخصص لحالات المرضى المصابين بالسرطان. مع الصلوات والتهليل والتكبير،ها قد دخلت رفل في القفص الذهبي، دخلت عالم غيث وقضوا حياتهم الزوجية في غرفة من غرف المستشفى، تساند زوجها في وقت العلاج، وهو يمسك يدها حين يأتي دورها لأخذ الجرعة، رفل مع شريك مرضها غيث صنعا معا معجزة اسمها (حياة الأمل).

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق


التعليقات

القاص مهدي الاعرجي
العراق
بكل ماخطه حرفك
وبكل ماجمعه فكرك
دائما مميزة
ثقي بأني أستمتعت كثيرا من بين السطور2016-01-09
ام خالد
الامارات
سلمت يمنآكـ على مآحملتهـ لنآ  فصة
عآلية بذوقها..
كلمآتـ كآنت ,, وسوف تزآل بآلقلبـ ,, 
ولاتحرمينامن جديدكـ ,,,, لآعدمتي ,,, ولآهنتي 2016-01-09
سارة الانباري
تسلم الانامل الرقيقة والذوق الرفيع
الابداع والتميز...
دائما اجد في مشاركاتك فائده
ودائما ارى في مواضيعك نظره ثاقبه
هنيئا ليس لك
بل لنا بك..2016-01-09
مازن الشامي
لا اعلم ماذا اسمي هذا ابداع ام اخلاص ام ثقافه ام تحدي..للمراة العراقية ان تضع بصمتها امام اليأس .
اذهلتني ابدعاتك المتناثره في الصحف
كل التقدير والاحترام لك2016-01-09
ام فاطمه
العراق
احسنتم.فكانت دموعي رفيقة كل كلمه وقرأتها عيناي وبذلك كنتي سلطانة مشاعري بكتاباتك وليس مني الا الاعتراف بأسرك لي بقيود البلاغه والتناغم الذي يملكه قلمك ...فعلا وفقك الله حبيبتي2016-01-09
الكاتب صباح العطار
لا جديد سوى رائحة التميز
تثور من هذة الكلمات ومن خلال هذا الطرح
الجميل والمتميز ورقي الذائقه
في استقطاب ما هو جميل ومتميز دمتي موفقة استاذة مروة2016-01-10