فالقوَّة الناعمة الخفية تؤثر على السياسة تأثيراً كبيراً وتصل في بعض الأحيان إلى إحكام السيطرة بشكل كامل فيصبح الماسك بزمام الأمور كالدمية، وخيوطه بين أصابع المستعمر من دون أن ترى شخص المحرك الحقيقي، فهو يتحكم بخامات سياسية من خلف ستار المسرح، ويمكن أن تؤثر القوة الناعمة على السياسة الوطنية...

طبيعة الإنسان تنماز عن غيرها من المخلوقات بالاجتماعية وطلبها لبلوغ الأرقى، وقد تجذّرت هذه الطبيعة فيه منذ الأزل حتى صار التفضيل للأرقى، وهذه الطبيعة أودعها الله في النفس الإنسانية دفعاً للخمول وتحفيزاً له على العمل، وحضَّه على الارتقاء، وقد شملت هذه الصفة جميع بني البشر، حيث فضَّل الله تعالى أنبياءه بعضهم على بعض فجعل منهم رسلاً وجعل منهم أولي عزم ومنهم مَن كلمه تكليماً ومنهم مَن جعله روحه ومنهم مَن اتخذه خليلاً ومنهم مَن جعله حبيبه (صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين) وقد كانت اساليبهم هي الاكثر نجاحاً وهو التعامل بالحسنى. 

ونشأت بعد ذلك الدراسات والبحوث التي اهتمت بنظريات التقدم وظهرت المناهج الخاصّة في ذلك، فجاء مصطلح (القوَّة الناعمة) وهو مصطلح حديث يتحدث عن أساليب الجذب بطريقة هادئة بعيدة عن القوَّة المفرطة والجذب العنيف والخشونة والاستبداد، وأصبح سلاح القوَّة الناعمة يُشهر باتجاهين: 

1- الاتجاه الإيجابي: هو اتجاه يعمل على نشر الفضيلة؛ إذ استعمله الإنسان مع بني جنسه بطريقة الترغيب لإنقاذ المجتمع من براثن الوقوع في الرذيلة؛ كدعوة الأنبياء لأممهم أو دعوة المرسلين لأهل القرى، أو استمالة أصحاب النظريات الطيِّبة للناسَ ليقبلوا بنظرياتهم عبر الحوار والحكمة والدعوة والموعظة الحسنة.

2-الاتجاه السلبي: وهو اتجاه يعمل على نشر الرذيلة: أُستغلت نظرية القوَّة الناعمة كسلاح بارد لتنفيذ مآربٍ خبيثة للإطاحة بالآخر أو السيطرة عليه عبر نصب المصائد أو تنفيذ الكمائن المُحكمة للوقوع بالآخر وتنفيذ الحِيَلِ التي يرنو إليها صاحب المكيدة، وكذلك استُعمِلت لتلبية حاجات الماكر الشخصية بطريقة النصب والاحتيال، حيثُ يُمنّون الناس َبالمال الوفير أو عقار أو سفر وما إلى ذلك؛ فيستقطبونهم للاستحواذ على أموالهم أو تشويه عاداتهم وتقاليدهم.

 واستدعى -هذا الاتجاه- التحذيرَ من مخاطر نشر الرذيلة في الأوساط المجتمعية مما يؤدي إلى تفشي المصائد الغازية التي تدعو إلى سلخ المجتمع من دينه ومعتقده ومن كيانه الاجتماعي، فالتحذير ينطلق من:

الثقافات الغازية 

 يمكن أن تؤدي القوة الناعمة إلى غزو الثقافات الأخرى وتدميرها، مما يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية للشعوب، وهو عملية تهدف إلى تغيير الثقافة الوطنية لشعب ما واستبدالها بثقافة أخرى، غالبًا ما تكون ثقافة دولة أقوى أو أكثر تأثيرًا. يمكن أن يتم الغزو الثقافي عبر وسائل مختلفة، مثل: الإعلام؛ حيث يُستخدم لنشر الثقافة الغازية وترويجها، مما يؤدي إلى تغيير القيم والأخلاق في المجتمع. وكذلك التعليم: ويتم بوساطته نشر الثقافة الغازية وترويجها للحصول على سوق لتسويق بضاعتهم، بالإضافة إلى الاقتصاد: الذي يُستخدم لنشر تلك الثقافة، وهذا يحتاج إلى مادة إعلامية للتسويق؛ وقد أخذت التكنولوجيا هذا الدور للاستحواذ على العقول والإمكانات.

المؤثرات الخارجية 

 يمكن أن تؤثر القوة الناعمة باستدعاء القيم او العادات الغربية للتأثير على القيم والأخلاق في المجتمع، مما يؤدي إلى تغييرات غير مرغوبة في السلوك الاجتماعي، وكثيراً ما تنعكس هذه السلوكيات على مخرجات الفرد فيؤثر سلباً على المحيط الذي يعيش فيه، وينتج ذلك بسبب تشويه العادات المُثلى، وكذلك توهين القدوة وإعلاء شأن التفاهة، بالإضافة إلى تسويق المفسدة على حساب المكارم وهذا ما يجعل عِلْيَةُ القوم يُفضلون الانعزال على التصدي.

القوَّة الناعمة إحدى وسائل الثقافة الاستعمارية 

 الثقافة الاستعمارية: هي عملية ممنهجة تهدف إلى تشويه أو تغيير الثقافات في مجتمع ما؛ لإحلال ثقافة الاستعمار التي جاء بوساطة القوَّة الناعمة، ويمكن أن تُستخدم القوة الناعمة كأداة للاستعمار الثقافي فيفرض سيطرته على الثقافة المجتمعية ليفل عراها ويُشتت أواصرها، حيث تفرض الثقافة الغازية نفسها على الثقافات الأخرى إذا رأت أنَّ هناك هشاشة مجتمعية أو هناك من يستقبل هذا التصدير اللا مسؤول فيكون مستورداً لها.

من سبل القوَّة الناعمة توهين الروح الوطنية 

 تعمل القوَّة الناعمة الغازية على توهين الهوية الوطنية عند الأفراد عبر بث الأنانية والنرجسية وإعلاء كعب الرموز الهابطة وتقديمهم كمرتكزات رئيسة لزعزعة الثقة في نفس الفرد، ويمكن أن تؤدي القوة الناعمة إلى فقدان الهوية الوطنية والثقافية للشعوب، مما يؤدي إلى ضعف الانتماء الوطني.

اللغة ومدى تأثير القوَّة الناعمة عليها

تُعد اللغة هوية الشعوب التي "يُعبر بها كل قوم عن أغراضهم"(ابن جني،1993: 1/53)، وهي الوسيلة التي يتخذها الناس أو يستعينون بها للتواصل فيما بينهم عبر الألفاظ والجمل والعبارات الاصطلاحية والتوقيفية والطبيعية، فأصبحت اللغة إحدى وسائل القوَّة الناعمة وبها تنفث سموم غاياتها بتلاقح المصطلحات الأجنبية داخل اللغة الأم، مما يجعل الهامش فيها متناً والمتن ينزوي إلى الهامش، وتؤثر القوة الناعمة على اللغة الوطنية، إذ تؤدي إلى انتشار اللغات الأجنبية وتقليل استخدام اللغة الوطنية، وتَعُدُّ هجينَ اللغة من الثقافة التي تُقاس بها علميَّة الفرد في المجتمع المستهدَف، والقوَّة الناعمة استعانت باللغة للوصول إلى غايتها من جهة؛ وهجَّنت اللغة ذاتها وفي ذاتها من جهة أخرى، فصارت المصطلحات المستوردة تحل محل المصطلحات الرئيسة وكأنَّها هي هي وهذه من المخاطر التي تواجهها لغات العالم.

القوة الناعمة وتأثيرها على الاقتصاد

 يُعدُّ الاقتصاد عصب الحياة لكلِّ دولة والتأثير عليه يُرغم الدولة على الإذعان وقبول الحلول المتاحة بأقل خسارة لامتصاص نقمة الشعب، فتلجأ إلى تقديم الحلول الناجعة وإن كانت عابرة للحدود، وهذا ما نجده في نظرية الصدمة الذي جاء بها الطبيب النفسي (ملتون)، إذ طبَّقها على مرضاه النفسيين بتوجيه صعقات كهربائية لهم بين الحين والآخر حتى أذعنوا له في تنفيذ أوامره، وبعد ذلك استعملتها دول الاستكبار العالمي في تطبيقها على الشعوب لإدخال شركاتهم التجارية فيها لكي يُمسكوا بعصب الحياة والتحكم بأقوات الناس برضا الدولة وتحت حمايتها، ويمكن أن تؤثر القوة الناعمة على الاقتصاد الوطني، ويؤدي ذلك إلى تدهور الصناعات الوطنية وزيادة الاعتماد على المنتجات الأجنبية.

التأثير على السياسة

 كل بقاع الأرض وأصقاعها تُدار بوساطة السياسة، فهي الوشيجة المتأصّلة بين الشعب ومُريداته، وعملت القوَّة الناعمة على السيطرة الكاملة لرؤوس السياسة العالميَّة، وحرَّكت أجنداتها لحماية مصالحها الشخصية من دون الالتفات إلى التعامل الإنساني، إذ تُضرب النظرية الإنسانية عرض الجدار إذا ما تعارضت مع المصالح الخاصَّة، حتى قال قائلهم: " لا تُحدِّثوني عن حقوق الإنسان إذا شعرنا بخطر على مصالحنا"، وهذه الفكرة تقف بالضد من النظرية الإسلامية التي تقول: " فلا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أُكُلَهم فالناسُ صنفان إمَّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"(الإمام علي عليه السلام:2009م:230).

فالقوَّة الناعمة الخفية تؤثر على السياسة تأثيراً كبيراً وتصل في بعض الأحيان إلى إحكام السيطرة بشكل كامل فيصبح الماسك بزمام الأمور كالدمية، وخيوطه بين أصابع المستعمر من دون أن ترى شخص المحرك الحقيقي، فهو يتحكم بخامات سياسية من خلف ستار المسرح، ويمكن أن تؤثر القوة الناعمة على السياسة الوطنية، مما يؤدي إلى تغييرات غير مرغوبة في السياسات الحكومية التي تتعارض ومصلحة الناس.

الطرق المقترحة في مواجهة مخاطر القوة الناعمة

 بعد أن بيَّنا المخاطر المشخَّصة لهذه النظرية التي تتخذها الثقافات الغازية كأداة لتمرير مآربها ووصولها إلى غاياتها التي تنشدها أو تتطلع إليها، فمن الممكن أن نقترح بعض السُبل لمواجهتها:

1. ترويج ودعم الثقافة الوطنية: لأنَّ الثقافة الوطنية متجذرة في الفرد إلَّا أنها تضعف بسبب المؤثرات الخارجية والتغذية المستوردة؛ لذا تحتاج إلى ترويجها للتذكير، ودعمها للتعزيز، فيجب تعزيز الثقافة الوطنية وتطويرها لتصبح أكثر جاذبية للشعوب الأخرى والحفاظ على المنتج الثقافي الوطني.

2. الحفاظ الهوية الوطنية: يمتلك الفرد هويَّة وطنية وفي جبلَّته يحنُّ إلى وطنه ويدافع عنه بدمه وماله ولا يتوانى بتقديم الغالي والنفيس إذا ما داهم أرضه عدو، وبسبب المؤثرات الخارجية وتغريب المجتمع الوطني في بلدانهم بسبب السياسات الفردية أو القمعية؛ تضعف الروح الوطنية عند الأفراد، فتحتاج هذه الهوية إلى حماية من التأثيرات الخارجية.

3. تطوير التعليم: المجتمع الجاهل معرَّضاً على الدوام للوقوع في شباك المؤثرات الخارجية، فسياسة القطيع لا تنفع مع المجتمع المتعلم وإنما تسيطر على المجتمع الجاهل، فالحفاظ على المجتمع من تأثير القوة الناعمة يحتاج إلى تطوير التعليم ومواكبة التطور وبه تُعرف مآرب العدو للعمل على اتِّقائها، فيجب تطوير التعليم وتحسين جودته لتصبح الشعوب أكثر وعياً بالتحديات الثقافية.

4. تعزيز ودعم السلطة الرابعة: في العصر التكنلوجي صارت المؤثرات المرئية والمسموعة أكثر تأثيراً من غيرها، فيجب تعزيز الإعلام الوطني وتطويره لتصبح الشعوب أكثر وعياً بالتحديات الثقافية، حيث إنَّ الإعلام أصبح من الأسلحة الفتَّاكة التي من الممكن أن تُسقط دولاً عظمى، فيحتاج الإعلام إلى تعزيز ودعم وتطوير وإعادة تنظيم وتحديث دائم.

5. تشجيع الحوار الثقافي والوطني: لا تستطيع القوَّة الناعمة فرض سيطرتها على شعوب تنماز باللحمة الوطنية وبالحوار الوطني، فهي تتخذ من بث الفرقة بين المجتمعات بطريقة أو بأخرى لقطع أسبابها ومن ثمَّة السيطرة عليها، وما احتُلَّت أرضٌ أهلها متماسكين، فنظريَّة (فرَّق تسد) هي المحبرة والقلم لإملاءات القوَّة الناعمة، فيجب تشجيع الحوار الثقافي بين الشعوب لتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل على أنَّ الدين للفرد والوطن للجميع.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق