قبل أسابيع، اطلق المبعوث الاميركي للبنان وسوريا، توم براك تصريحات أثارت مشاعر الكثيرين، لما انطوت عليه من استعلائية وهو يصف شعوب منطقتنا، حيث قال: "لا وجود لشيء اسمه الشرق الأوسط، وأنه مجرد قبائل وقرى" وأكمل قوله بما معناه، إن البريطانيين والفرنسيين هم من صنعوا هذه الدول ووضعوا الحدود بينها واقاموها...

قبل أسابيع، اطلق المبعوث الاميركي للبنان وسوريا، توم براك تصريحات أثارت مشاعر الكثيرين، لما انطوت عليه من استعلائية وهو يصف شعوب منطقتنا، حيث قال: "لا وجود لشيء اسمه الشرق الأوسط، وأنه مجرد قبائل وقرى" وأكمل قوله بما معناه، إن البريطانيين والفرنسيين هم من صنعوا هذه الدول ووضعوا الحدود بينها واقاموها .. الخ.

من الصعب تجاوز حقيقة ما قاله الرجل، ومن يقرأ التاريخ الحديث ويطّلع على واقعنا الحياتي فيه بشكل عام سيجد مصداقاً صارخاً لذلك، وان شعوبنا كانت في تلك الحقبة التاريخية القريبة، غارقة في الجهل والتخلف والضياع.

فعلى الرغم من أنَ الحملة الكولونيالية التي عكست التنافس الحاد بين الدول الأوروبية القوية وقتذاك، لاسيما بريطانيا وفرنسا، وهدفت إلى السيطرة على ثروات منطقتنا، لاسيما الطاقة التي كانت عنوان حضارة القرن العشرين، إلاّ أن ما حصل لنا من احتلال بريطاني فرنسي يراه كثيرون ممن يقرؤون التاريخ بعين فلسفية، بمثابة ثورة شاملة، بالمعنى العلمي للثورة وليس الانفعالي، أي أحدث تغييراً جوهرياً في مختلف نواحي الحياة، فالحملة التي انتهت باحتلال منطقتنا.

ايقظت الكامن الحضاري في شعوبها ووضعتها على اعتاب الحداثة السياسية التي كانت لا تعرفها في ظل الامبراطورية العثمانية التي تجاوزها الزمن وباتت تعرّف أوروبياً بالرجل المريض، ولعل أبرز قادتها الكبار ومنهم القائد التاريخي اتاتورك، اعترفوا ضمناً بذلك وتوجهوا بـ(تركيا) الحديثة إلى اوروبا للالتحاق بالعالم الحديث وتجاوز أسباب النكسة التي حلّت بامبراطوريتهم وانهت قروناً من سيطرتها على الكثير من الدول او التي باتت دولاً، بفضل مخرجات الحملة الكولونيالية تلك. 

اذن من الصعب القفز على هذه الحقيقة التي يجب أن تقرأ من الأعلى، أي في سياق الحراك البشري وتبادل الادوار عبر التاريخ، لكن في العموم ظلت نزعة الهيمنة طاغية، كونها تعكس جوانيات الانسان وطموحه الغريزي في السيطرة والاستحواذ، أو قل هكذا كانت التجربة الإنسانية، بما رافقها من حروب وصراعات ومآس، وسيلة لصنع الحضارات المتعاقبة وأسباب التلاقي البشري أيضاً والذي صار ينضج على مراحل وصولاً إلى الحكومة العالمية المتمثلة اليوم بهيأة الأمم المتحدة، وإن مازالت هذه تتعثر بتركة ماضي الصراعات والرغبة في هيمنة الأقوياء على الضعفاء ولو بأشكال أكثر مقبولية عما كانت عليه سابقاً!. 

 اذن، لماذا استفزت تصريحات براك الكثيرين وما مبررات الاستفزاز إذا كان الرجل قد نقل حقيقة مازالت بأحداثها القريبة ماثلة أمامنا؟

نحن نرى أنَ تجاهل قراءة التاريخ بشكل دقيق وكامل يوقع المتحدث فيه بمثل هذه الطروحات التي تجتزئ منه ما يريده هو ويختزله برؤيته، وهو ما وقع به براك وعبّر عنه، لان الذي يقرأ تاريخ أوروبا نفسها سيجد أنها مرّت بمراحل قاسية من الجهل والتخلف والحروب البينية والفقر وغيرها.

بينما زامن واقع أوروبا هذا دول مهمة كانت قائمة في (الشرق الأوسط) توفرت لها وقتذاك أسباب القوة من ثقافة وعلوم وقراءة فلسفية للحياة، ما أفاد أوروبا وغيرها منه لاحقاً وإلى وقت قريب نسبياً لا يتجاوز الألف عام وأقل، فشعوب هذه الدول لم تكن مجرد قبائل وقرى عبر تاريخها كله، كما هو حال بعض قبائل أفريقيا وأميركا اللاتينية التي مازال بعضها الى اليوم خارج التاريخ، ولم تصنع تاريخاً مميزاً عبر جميع مراحل حياتها.

فمن ينكر الحضارات الشرقية العظيمة القديمة في العراق ومصر والصين والهند غيرها، وما كانت عليه منطقتنا خلال الفترة العباسية مقارنة بغيرها، وتحديداً اوروبا واميركا وقتذاك؟ وان ما حصل لنا هو كبوة تسببت بها ظروف معروفة جعلتنا قروناً نعيش في تيه حضاري وضياع شبه كامل، وتحديداً بعد انهيار أو ضعف الدولة العباسية وغرق شعوبنا في صراعات دموية مرعبة، اوصلتنا الى لحظة تاريخية كانت فيها الحملة الكولونيالية بمثابة المنقذ، ولعل من الشجاعة الاعتراف بذلك. 

وعليه نرى ان الذي قاله براك ليس خطأ لكنه يعكس منطقاً استعلائياً غيّب حقيقة كبيرة، يقف عندها المفكرون والمنشغلون في قراءة تاريخ الحراك البشري ويرون أنه حتى في الأخطاء الكبيرة التي تسببت في إيذاء الكثير من الشعوب لبعضها، هناك فضائل استفادت منها الشعوب المهضومة بعد أن جعلتها دروساً وتجارب.

وعليه نرى انه ليس من العيب أن نعترف بفضل الحملة الكولونيالية وإن جاءت فائدتنا منها ناتجاً عرضياً، وليس عيباً أن نعترف بأننا كنا ولوقت قريب عبارة عن قبائل وقرى تائهة في براري تبين أنها تكتنز أسباب الحضارة والتقدم، ونقصد الثروات الطبيعية الهائلة التي لم نعرف قيمتها حينذاك ولم نستطع تفعيلها والإفادة منها قبل الحملة الكولونيالية، وان جاء هذا في مرحلة من التلاقي البشري، نتحسس من أن نعترف بها لكبرياء فينا، مثلما لم يعترف براك وغيره بما كانت عليه أوروبا وأميركا نفسها في مراحل سابقة .. لغرور فيهم!.

اضف تعليق