ينبغي أن يُربى الجيل الجديد على أن الخطأ في التنفيذ أهون من الجمود في التفكير، فالأمم لا تتقدم بالأفكار الجميلة فقط، بل بالتطبيق الفعال لتلك الأفكار، فالعالم لم يعرف الكهرباء لأن إديسون حلم بها، بل لأنه أصر على تنفيذ فكرته رغم مئات التجارب الفاشلة...

كم من فكرة عظيمة وُلدت في عقول مبدعين ثم ماتت بصمت قبل أن ترى النور؟ وكم من مشروع وطني أو خيري أو ثقافي ظل حبيس دفاتر الاجتماعات أو ملفات الحاسوب، لأن أصحابه اكتفوا بالحلم ولم يتقدموا خطوة نحو التنفيذ؟ 

في الحقيقة لا تُقاس قيمة الفكرة بفرادتها أو جمالها، بل بقدرتها على أن تتحول إلى واقع ملموس يُحدث فرقا في حياة الناس.

وبنظرة مختصرة يمكن القول ان الفكرة هي الشرارة الأولى، لكن الشرارة وحدها لا تُشعل نارا ما لم تجد وقودا وعزيمة.

فالتنفيذ هو ما يميز بين الحالم والمُنجز، وبين من يملكون الرؤية ومن يملكون الإرادة، وقد كثرت في السنوات الأخيرة المبادرات التي بدأت بحماس وانتهت بصمت، لأن أصحابها لم يتجاوزوا مرحلة الكلام إلى مرحلة الفعل.

خذ مثلا مشاريع خدمية طُرحت في أكثر من محافظة عراقية لتحسين واقع النقل الداخلي عبر حافلات ذكية تعمل بالطاقة النظيفة، وغيرها طُرحت لتفعيل النقل الجماعي، جميعها كانت أفكار ناضجة ومدروسة، وتلقت دعما إعلاميا، لكنها لم تُنفذ بسبب تضارب المصالح الإدارية وغياب المتابعة.

ومع ان بعض المحافظات عملت بهذه الأفكار وجلبت عددا غير قليل من باصات النقل الجماعي، لكن الفكرة لم تقترب من النجاح ولم تحظى باهتمام حكومي يساعد على تقبلها او اشاعتها في الأوساط الشعبية، لذلك بقيت شوارع المدن مزدحمة بالحافلات القديمة العائدة الى الاهالي وسيارات الأجرة العشوائية، فيما بقيت الفكرة نفسها حبيسة ملفات المكاتب في الكثير من المحافظات.

وهنالك مثال آخر وهو مشروع المدينة الرقمية، الذي طُرح منذ أكثر من عقد لتحويل الخدمات البلدية إلى أنظمة إلكترونية تختصر الوقت وتحد من الفساد الإداري، لكن وعلى الرغم من جاهزية التصاميم والدراسات، لم ينتقل المشروع إلى أرض الواقع، لأن التنفيذ اصطدم بعقبات بيروقراطية وضعف التنسيق بين الجهات المعنية.

فخسر المواطن فرصة الحصول على خدمات عصرية كان من الممكن أن تغير وجه الحياة المدنية.

ويبقى الحال كهذه، طالما لم تعمل الجهات المعنية على توفير بيئة حاضنة لمثل هذه الأفكار التي من شأنها تغيير حياة الافراد نحو الأفضل، عبر إسهامها في خلق بيئة معيشية مغايرة للواقع المأساوي.

ولا ينفك المسؤول في الوقت الحالي عن طرح العديد من الأفكار الواقعية وغير الواقعية، لكن اغلبها يبقى مجرد فكرة، لا تقدم أي خطوة نحو مرحلة التنفيذ، وعليه يكون كلامه بخصوصها مجرد وهم او تنميق مزيف.

الركون إلى الأفكار دون تحريكها أشبه بامتلاك بذر ثمين دون أن يزرع، فالفكرة لا تنمو إلا إذا وُضعت في تربة الجهد والعمل، ولا يكفي تفاخر كثيرون بأنهم أصحاب أفكار خلاقة، لكن القليل فقط هم من يمتلكون الشجاعة لتحويلها إلى مشروع، لأن التنفيذ يتطلب مواجهة الصعوبات والمخاطر، بينما الاكتفاء بالتفكير يوفر راحة الوهم.

ولكي نخرج من دائرة الأفكار المعلقة، لا بد من ثقافة مؤسسية تُشجع على التجربة والعمل لا على التنظير، وعلى المؤسسات الحكومية والخاصة أن تُتيح بيئات مرنة لتنفيذ المشاريع الصغيرة، وأن تحتضن المبادرات الشبابية بدل أن تُثقلها بالروتين. 

وماذا بعد؟

ينبغي أن يُربى الجيل الجديد على أن الخطأ في التنفيذ أهون من الجمود في التفكير، فالأمم لا تتقدم بالأفكار الجميلة فقط، بل بالتطبيق الفعال لتلك الأفكار، فالعالم لم يعرف الكهرباء لأن إديسون حلم بها، بل لأنه أصر على تنفيذ فكرته رغم مئات التجارب الفاشلة، كذلك المجتمعات الحديثة لم تُبنَ بخطط محفوظة في الأدراج، بل بعقول أطلقت العنان لأفكارها في الميدان.

يمكن القول إن الأفكار هي البداية، لكنها ليست النهاية، فالقيمة الحقيقية لأي فكرة تكمن في قدرتها على أن تُغير الواقع، لا أن تظل عنوانا جميلا على الرفوف، فالأمم التي تؤمن بالتنفيذ لا تُراكم الأحلام، بل تصنع المستقبل.

اضف تعليق