يشكل الوعي مع الابعاد الاربعة الطول والعرض والارتفاع والزمن، بعدا خامسا يعطي قيمة ثمينة لحياة الإنسان. فالوعي هو الذي يعطي للوقت قيمة، بمعنى أن الواعي ينظر إلى الزمن نظرة تختلف عن الذي لا يمتلك وعيا، حيث الوجود المعنوي يتكامل مع الوجود المادي في منظومة واحدة. فينطلق إلى الأمام لاستثمار عمره...
(وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
سورة العصر.
هذا الكون والوجود المادي الذي يجسده يقوم على ثلاثة أبعاد، الطول، العرض، الارتفاع، وهذا الكون هو في حركة دائمة، وحركته هي التي تصنع الزمن، لذلك يسمى الزمكان(1)، وهو مصطلح مجازي، وهو يعني الاختلاط بين الزمان والمكان، فلا يمكن أن نتصور وجود الكون أو الأشياء المادية بلا بعد زمني، فالزمن هو البعد الرابع في وجود الكون، لذلك لا يمكن اعتبار الزمان والمكان شيئين منفصلين، لذلك يبقى الزمان والمكان موجودان معا ما دام الكون يتحرك، ووجوده المادي يقوم على هذه الحركة بحيث ينتفي اذا توقف عن الحركة.
ومن هنا فإن كل شيء في الكون يتحرك على الدوام نحو المستقبل، وبذلك يتغير المكان بتغير الزمان من لحظة إلى أخرى.
فعلى سبيل المثال كان الناس في السابق الذين يسافرون إلى أماكن بعيدة، مثل الصين، في بعض الأحيان تستغرق رحلتهم عشر سنوات، فالأب مثلا سافر وكان عنده أولادا صغارا، فطالت سفرته عشر سنوات، فالطفل كبر وأصبح مراهقا، فالأب الذي ذهب للصين وعاد منها والطفل زاد عمره عشر سنوات، فأصبح شابّا أو مراهقا أو أكثر من ذلك.
ولكن في العصر الحالي، إذا سافر الأب إلى الصين، وعاد بعد أسبوع، فسوف يجد ابنه كما هو، لم يتغير فيه شيء، فالزمن له تأثير كبير في تغيير الإنسان ماديا ومعنويا، فهذا هو تأثير العامل الزماني في الوجود المكاني، ولكننا بطبيعتنا جامدين راكدين لا نشعر بالحركة المستمرة في الحياة، فكل لحظة وكل آن هي حركة، وهو انقضاء لزمن وانتهاء للحظة.
نحن كراكب السفينة يشعر كأنه متوقّف في مكانه، ولكنها في الحقيقة تواصل حركتها، فالحياة كذلك تتحرك وان توقفنا نحن عن الحركة.
الوعي بالسير نحو المستقبل
والآية القرآنية: (والعصر إن الإنسان لفي خسر) تعبر عن خسارة الإنسان لحظات عمره بمرور الزمن وسيره نحو المستقبل، لذلك لابد أن يعي ويعرف بأن هذا الزمن له دور في تشكيل وجوده بالحياة حتى يستطيع أن يتعامل مع الزمن بصورة سليمة، الآن هناك الكثير من الناس راكدون جامدون، لا يشعر أحدهم بالزمن، فبعضهم حتى بعد مرور 30 سنة يبقى نفسه لا يتغيّر، دون أن يلاحظ أن عامل الزمن حركي وليس جامدا راكدا، بينما نلاحظ إنسانا آخر يتحرك ويبحث ويعمل ويُنجز ويحاول ان يتسابق مع الزمن الذي يدرك أنه يخسره.
لذلك السؤال يطرح نفسه عن هذه القضية، كيف نستثمر الزمن في حياتنا ونجعله أساسيا في تقدم حياتنا؟
فهل هناك أسباب معينة جعلت الشخص الاول الذي بقي دون أن يتغير حتى بعد مرور 30 سنة من عمره؟، في حين ان الشخص الثاني مجتهد ادرك مفهوم الزمن فحاول أن يسبقه؟، وهل هناك ظروف خاصة تسببت في هذا الاختلاف بين الشخصين؟ وهنا نذكر بعض هذه الأسباب:
أولا- الرأسمال الحقيقي في الحياة هو العمر
هناك من يرى ويؤكد ان المال هو الرأسمال الأساسي للنجاح والازدهار، لكن رأس المال الحقيقي للإنسان هو عمر الإنسان، فالإنسان هو الذي يصنع المال، وليس المال هو الذي يصنع الإنسان، لذلك فإن أهم منعطف ذهني هو أن يعرف الإنسان أن عمره هو رأسماله الحقيقي في الحياة وان عمره أثمن من المال، فيثمّن هذا العمر واللحظة التي مرت عليه، ويتحسر على ما فاته من لحظاته التي لم يستثمرها مع مرور الزمن، ولايتحسر على ما خسره من مال، بل يتحسر على ما خسره من زمنه.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(كُنَّ عَلَى عُمُرِكَ أَشَحَ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ وَدينارِكَ)(2).
فمن طبيعة الإنسان انه يكون شحيحا على الدرهم والدينار، ولكن الرسول الاكرم يدعو الإنسان أن يكون حريصا على عمره أكثر من أمواله، لأن العمر ينقضي ولا يعود، بينما إذا خسر الإنسان الدرهم أو الدينار، فإنه يستطيع استرجاعه ويمكن تعويضه، بينما العمر لا يمكن تعويضه.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ)(3).
الجمود والركود الذي يحصل عند البعض هو نتيجة لحب البقاء في منطقة الراحة او خوف الخروج منها(4)، وبالتالي الاعتياد على الخمول والكسول، فيبقى ينتظر أن تأتيه الفرصة دون ان يسعى ويجتهد للحصول عليها، فالفرص لاتأتي بل يُذهب اليها، لذلك فهو يخسر رأسمال عمره حاليا، وعندما يخسر عمره لا يمكنه تعويض ذلك.
لماذا يقدم الناس الرزق على العمر؟
معظم الناس يقدمون الرزق على العمر، لذا نلاحظ بعض الناس يعيش حياته كلها، يشتغل ويعمل طول عمره حتى يجمع المال من اجل تأمين مستقبله، إلى أن يصل إلى مرحلة معينة من عمره 60 أو 70 عاما، ولم يستفد من عمره، ويشعر بأن عمره قد ضاع سدى.
هذا يعني أن كل إنسان لابد أن يستفيد من عمره، ولا يعني عدم السعي الى الرزق، بل لابد ان يكون هذا السعي في اطار الاستثمار الأمثل للعمر، من خلال التشخيص السليم لأهدافه، والتخطيط الممنهج لمراحل عمره، وإيجاد التراكم التطوري المتصاعد في الابعاد المتنوعة لشخصيته حتى لا يخرج من الحياة نادما ومتحسرا على ما فاته.
الشباب والشكر بالعمل
ومن هنا على الشباب ان يدركوا هذه المعادلة والاستفادة من التجارب التي مر بها الآخرون، فهناك شباب يأتون إلى الدنيا، يجد أمامه كل المستلزمات والأموال متوفرة له، فلا يفكر أن يعمل، من اجل بناء عمره، فيضيّع حياته بالملذات، والمتع والملهّيات، فلايقدر قيمة النعم التي حوله بالشكر باستثمار عمره والعمل على تطوير شخصيته، وقد قال تعالى:
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم7.
فالشكر يتحقق عمليا بالعمل، يعتمد على نفسه وتتطور شخصيته، حيث جهده وعمله وليس أمواله هو الذي يشكل الاستثمار السليم لعمره، والفرق بين الناجح والفاشل، أن الاول بدأ من الرقم 1 وليس من الرقم 100، الا اذا استفاد من تجارب الآخرين بذكاء، وتعلم منها الدروس والحكمة، ولكنه في كل الأحوال يحتاج الى الخطوة رقم واحد حتى يصنع الخبرة في داخله، ويراكمها بالتفكير والتثقيف الذاتي، فالعمل هو الذي يبني العمر والمال مجرد وسيلة، والذكي الحكيم يعرف كيف يستثمر هذا المال ويستغله بالصورة الأحسن والأفضل بالعمل لبناء عمره.
ثانيا- الوعي هو البعد الخامس
أن يكون كل فرد واعيا بقيمة كل لحظة من حياته، ويجب أن لا يضيع لحظة من عمره، وذلك عبر استثماره بالوعي والذي يمكن تسميته بـ (البعد الخامس)، حيث يشكل الوعي مع الابعاد الاربعة الطول والعرض والارتفاع والزمن، بعدا خامسا يعطي قيمة ثمينة لحياة الإنسان.
فالوعي هو الذي يعطي للوقت قيمة، بمعنى أن الإنسان الواعي ينظر إلى الزمن نظرة تختلف عن الإنسان الذي لا يمتلك وعيا، حيث الوجود المعنوي يتكامل مع الوجود المادي ويتحدان معا، فيشكلان منظومة واحدة.
فالإنسان عندما يكون واعيا وفاهما لأهمية لحظات حياته، ينطلق إلى الأمام لاستثمار عمره، فالعلماء الصالحون عندما تقرأ حياتهم، مثل العلامة الحلي والشهيد الثاني والشيخ مرتضى الانصاري، عندما كانوا يسافرون يؤلّفون الكتب ولا يتوقفون عن استثمار الزمن. وأغلب هؤلاء العلماء كتبوا مؤلفاتهم في السفر، حيث السفر لم يكن من أجل السفر بحد ذاته، وإنما من أجل الاستزادة بزاد العلم، فالعلم ينمو من خلال التفاعل مع الزمن، وهناك من يسافر من أجل اللهو فقط، وتضييع وقته في مجالس لا فائدة منها، فالوقت الذي أمضاه في هذه الانشغالات التافهة ضاع من عمره، وفيما بعد ذلك سوف يندم كثيرا. والآية القرآنية تشير الى ذلك:
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) الكهف28.
الغفلة هي ضد اليقظة والانتباه والوعي، فقد يكون الإنسان غافلا، يعيش في عالمه الخاص الذي هو عبارة عن أوهام وأحلام وأمنيات يعيش معها في خياله، وهذا الإنسان يعيش في عالم الغفلة لأنه يتبّع أهواءه، يريد أن يلهو ويلتذّ ويعيش يومه بدون هدف، فهو يقتل يومه بلاشيء، ويقضي على فراغه بتضييع الوقت. وعن الإمام علي (عليه السلام):
(ألا مستيقظ من غفلته قبل نفاد مدته؟!)، (ألا منتبه من رقدته قبل حين منيته؟!)(5).
وكلمة فرطا، تعني تضييع الشيء، كالمسبحة التي إذا انقطع خيطها تبعثرت خرزاتها وضاعت في جميع الجهات، فتتناثر هنا وهناك، ويصعب على الإنسان أن يجمعها مرة أخرى، وهكذا، الذي بدد لحظات عمره الثمين.
حاضنات إيجابية
بعض الشباب يتساءل وهو يعاني من الفراغ، كيف يمكن ان يقضي وقته، وكيف نوفر له الفرص الممكنة في استثمار أوقات الفراغ لتطوير أنفسهم، واستغلال العمر بصورة صحيحة.
والسؤال صحيح وفي موقعه، فالشباب يحتاج إلى توجيه وإرشاد، وكذلك ايجاد حاضنات إيجابية لاستثمار الوقت وتطوير الذات بالفكر والثقافة، وكل ما يلامس الجوانب المعنوية، بالإضافة الى توفير الأجواء الايجابية لإشباع اللذة الجسدية والنفسية اشباعا صحيا، مثلا الرياضة هي لذة جسدية ونفسية تعود بمردود إيجابي خصوصا على الشباب، لذا نحن نحتاج إلى أن نوفر الحاضنات الإيجابية، وعلينا أن نشجع الشباب أن يذهبوا نحوها، من أجل استثمار واستغلال أعمارهم بأفضل السبل، بحيث لا ينطبق عليهم (وكان أمره فرطا).
ما هي أسباب تضييع الإنسان للوقت؟
من يتحمل ضياع هذا الوقت الثمين، هل هو الإنسان نفسه، أو قد تكون الظروف العائلية والاجتماعية، خصوصا في بيئة تفتقد ابسط الخدمات التي تجعله قادرا على استثمار وقته بشكل صحي، وعدم تضييعه بالملهيّات والمشوشات التافهة والعبثية!.
بالدرجة الاولى إن الإنسان هو المسؤول عن نفسه، في كل الأحول، ويجب عليه أن لا يرمي اللوم على الآخرين، ولكن الآخرين مسؤولون أيضا، فلا يجب أن يتخلوا عن مسؤولياتهم، ولكن المسؤولية الأكبر تقع على الإنسان نفسه، فإذا لم يكن حريصا على نفسه، فكيف سيكون الآخر حريصا عليه؟
لذلك لابد على الإنسان أن يكون مهتمًّا بنفسه، ويحزن عليها وعلى ما يفقده بالتضييع العبثي، وعليه أن لا ينتظر من الآخرين أن يقودونه بل لابد أن يتخذ قرارا مع نفسه، ويذهب نحو تغيير ذاته ونفسه، واستثمار عمره ووقته.
لذلك هناك حاجة ملحة إلى موجّهين ومرشدين للشباب، وعلى الشاب تمكين نفسه من النصيحة حتى يتعلم كيف يختار أولوياته في الحياة، ويستثمر ازمانه باجتهاد والتزام.
اما الشاب الذي يعتبر ان النصيحة مجرد ترف نظري، حيث ان الصعوبات والظروف القاسية وعدم توفر الإمكانات اللازمة تمنعه من العمل والنمو والتطور، فإننا نذكره بالسابقين من العظماء والعلماء، الذين حققوا إنجازات كبيرة في العلم والمعرفة والمجتمع مع أن إمكاناتهم كانت معدومة، مقارنة بعالم اليوم، فقد استثمروا حياتهم في العمل فأوصلوا العالم اليوم الى هذا التقدم الهائل.
فمنهم من اخترع الكهرباء، وآخر اخترع التلفون، وثالث اخترع الإنترنيت، وآخرون صنعوا الأدوية لمعالجة الكثير من الأمراض، حيث أصرّوا على العمل وأنجزوا تلك الخدمات الكبيرة التي تستفيد منها البشرية.
لذلك فإن كل إنسان هو مسؤول عن نفسه، كما انه مسؤول عن تبديد وتضييع لحظات عمره في الفراغ العبثي.
التبديد بتضييع الاولويات
الكثير من الناس قد يكون مهتما في استثمار لحظات عمره، ولكنه في كل الأحوال يشاهد ضياعها بعد مرور الوقت، والسبب في ذلك ان استثمار الزمن ليس كميا فحسب بل أساسه هو الكيفية، والكيفية تتحقق من خلال ما يسمى فقه الأولويات، وهو معرفة اختيار الأمور الأكثر فائدة ونفعا وربحا على المدى الطويل، والتي من خلال تحديدها يتم استباق الزمن واستيعابه بالنتائج المجدية.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(من اشتغل بغير المهم ضيّع الأهم)(6).
فهناك ثلاثة أشياء وهي، غير مهم، مهم، وأهم، والإنسان الذكي هو الذي يختار الأهم، الذي يأتي من خلال الرؤية الموضوعية التي يصل اليها بالوعي والفهم، ومن خلال التخلي عن الرغبة، فالتفكير الرغبوي يحجب التفكير المنطقي ويؤطره بالذاتية بعيدا عن الموضوعية، لذلك يخسر أصحاب الرغبة طموحاتهم، عندما تهيمن عليهم ذاتياتهم التي تغرر بهم فتبدد ازمانهم في الأوهام.
وعدم الخسران اشارت اليه الآية القرآنية عندما وضعت شروط الموضوعية وهي: (الايمان، العمل الصالح، التواصي، الحق، الصبر)، وهي شروط تبتعد عن الذاتية الرغبوية الخاسرة نحو الموضوعية الواقعية الرابحة.
الاولويات تحقق البركات
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام):
(من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في نقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(7).
والمغبون: هو الذي يخدع نفسه عندما يختار المهم على الأهم فيخسر صفقة رابحة.
والملعون: هو الذي يخسر عندما يبدد الأولويات في غير المهم فلايشعر برحمة الله ونعمه، ولايتذوق طعم الحياة، فهو ميت لانه في نقصان واضمحلال مستمر، ويعرف ذلك عندما لايضيف ما يزيده نفعا لعمره وزمنه.
والمبارك: الذي يعرف كيف يختار الأهم من الأولويات، فيزداد نموا وتقدما، أي تكون حياته مباركة ومثمرة ومستزادة. والبركة تعني النمو، التقدم، التطور الانتفاع.
وعن الامام علي (عليه السلام):
(بركة العمر في حسن العمل)(8).
فمن يعمل صالحا أي يختار الأولى تكون حياته مباركة ورابحة، ومن يعمل غير صالح او لايعمل يكون ملعونا خاسرا حيث بدد عمره في الاعمال غير المهمة.
وحسن العمل تعني العمل الأفضل والاصلح الذي يخضع لسلم الأولويات، فمثلا الذي يدرس في الجامعة لابد أن يحضر بشكل يومي للدروس حتى يستطيع ان ينجح فاذا انشغل بغير المهم مثل مشاهدة مباراة كرة قدم تجعل يسهر الى ما بعد منتصف الليل، فانه قد يضيع الحضور الى دروسه او يحضر ولكن ليس في قمة حضوره الذهني فلا يستوعب الدروس، وقد تضيع سنة من عمره لأنه فضل مشاهدة المباراة، التي تقدم له مجرد متعة وقتية ولن تضيف له رصيدا في نموه وتطوره، ولكنه بتضييع الأهم بدد زمنه فخسر البركة.
ويخسر البركة بسبب الملهّيات، لأن الملهيات تشوّش عليه وتسجنه في اغلال الركود والخمول والكسل، فالكسل والخمول مع استمراره يصبح مشكلة تجعله يستمر في التكاثر السلبي فيصنع طاقة سلبية تجعله قاتما في داخله، ليس له اندفاع نحو العمل الذي يولد فيه الطاقة الإيجابية، فالخمول يؤدي إلى المزيد من التجمّد والتصلب والتحجّر عند الإنسان.
لذلك لابد أن يتجنب الإنسان الركون الى هذه الحالة التي تؤدي به إلى المزيد من الإحباط واليأس، فالكآبة التي قد تحدث في بعض الأحيان عند الإنسان هو تطور سلبي سببه الخمول الذي يجعله يشعر بانه مستلب الارادة، وهو في حقيقة الامر ليس نتيجة للظروف المحيطة به، وإنما نتيجة لجموده واستسلامه لهذه الظروف.
لذلك فإن الشباب الذي يرضخ الى الظروف ولا يتغلب عليها، لانه يغيب عنه الوعي بالأولويات فتصبح حياته عبثية، وقد تصل الى ان تكون عدمية، فالفشل المتواصل يولد خسائر نفسية.
توليد الطاقة الإيجابية بالإيمان
والحل للتخلص من الشعور بالخسران والفشل نجده في الآية القرآنية:
(وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) سورة العصر.
الإيمان هو الحل، فالإنسان الذي يكون في دائرة الإيمان يخرج من دائرة الإحباط والعدمية لأنه يشعر بوجود غاية في حياته، الإيمان يولد طاقة إيجابية في حياة الإنسان، فيصنع النفس المطمئنة، ليسترشد بالحقيقية الصالحة.
والإيمان هو أن يكون الإنسان مؤمنا بالله سبحانه وتعالى وبالآخرة، المؤمن ليكون صاحب مبدأ في الحياة، وعنده غاية سامية، فيحركه الإيمان نحو ويعطيه تفكيرا إيجابيا وطاقة دينامية، لكي يسعى للبحث عن حياته السعيدة، فيعمل على أن لا يضيّع عمره بلا هدف، لذلك فإن الناس الذين لا إيمان عندهم، نجدهم سريعو العطب، كالسلعة المقلدة والمزيفة.
لأن النفس بدون الايمان تكون هشّة وغير متماسكة ولاتستطيع الوقوف على ارض صلبة، فالإيمان كما في الآية القرآنية يمنح الإنسان قوة بما يشبه في عمله الوقود الذي يوضع في السيارة وتسير من خلاله، فالإيمان يعطي قوة للإنسان في حركته الإيجابية.
لذلك بعض الشباب أو بعض الناس نراهم معطَّلين وعاطلين نتيجة لفقدانهم الإيمان، والابتعاد عن الله سبحانه وتعالى، ووقوعه في الذنوب، وهذه هي الطامة الكبرى، فيقول لنفسه ما هو المانع من أن ألهو في هذه الدنيا وإن كانت ذنوبا فإن الله سوف يغفر لي فيما بعد، لكنه لا يعلم بأن هذه الذنوب سوف تتراكم وتبدأ تأكل نفسه من الداخل.
يُقال إن الذنب يدخل في القلب، ويشكل حفرة سوداء فيه، والذنب الثاني كذلك، وهكذا تتراكم الحفر السوداء حتى تملأ قلبه فيصبح أسود، فتكون:
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)البقرة74.
لذلك لابد للإنسان أن يتراجع عن الذنوب، ويعود إلى إيمانه، ويردم تلك الحفر السوداء، وذلك بترسيخ الإيمان في نفسه، والورع عن محارم الله، والالتزام بالأحكام الشرعية والعبادات، هذا من جانب الإيمان الذي هو المبدأ.
الاستثمار بالإيمان والعمل الصالح
ومن جانب آخر فإن (والعمل الصالح) هو السلوك الذي يقود لتجسيد هذا الايمان في الواقع الخارجي.
هناك قاعدة عقلية مفادها أن (المعلول يحتاج الى العلة حدوثًا وبقاءً)، فوجود الشيء كما يحتاج الى حدوثه يحتاج الى بقائه، فالشيء لا يمكن أن يكون موجودا إذا لم تكن له بداية وكذلك له استمرارية، فالإيمان هو المبدأ الذي يحرك الإنسان، والاستمرار في هذا المبدأ يتم من خلال العمل الصالح، فلا يكفي الايمان لوحده لتحقيق الاستثمار في العمر وعدم خسرانه بل لابد ان يكون مردفا بالعمل الصالح، كما ان العمل الصالح يحتاج الى الايمان حتى يكون للعمل غاية فيصبح صالحا، فالإيمان زائد العمل الصالح يساوي استثمار العمر وعدم ضياعه، ولكن كيف يكون العمل عملا صالحا بحسب قاعدة الأولويات؟
الأولويات بين التقدم العمودي والتوسع الافقي
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) فاطر/10.
كلمة يرفعه تعني أنه في مقابل التمدد الأفقي هناك ارتقاء عمودي، هنا تعني يرفعه، فالعمل الذي ينجزه الإنسان ربما يتمدد أفقيا ويتوسع، ولكن عند الله سبحانه تعالى العمل الصالح هو الذي يرتفع عموديا وهو ما قد يتجسد عمليا في افضل نماذجه بالكلمة الطيبة، لذلك فإن العمل الصالح الذي يرتقي بالإنسان عموديا هو الذي يحدد لنا مفهوم الإنجاز في الحياة، وليس كل عمل، مثلا هناك فرق بين من يبني مدينة ألعاب أو مطعم، وآخر يبني مدرسة حقيقية للتعلم، حيث الكلمة الطيبة ترتقي ببناء الانسان، وهنا يتبين مفهوم الأولويات بشكل واضح، حيث يكون الاستثمار في المدرسة الصالحة -التي لايكون أهدافها تجارية- أولى من الاستثمار في مطعم أو أي عمل تجاري محض، نعم بعض الاعمال التجارية قد ينطبق عليها مفهوم العمل الصالح إن أطرت بغايات سامية واهداف نبيلة وخدمات لقضاء الحوائج.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(إن أوقاتك أجزاء عمرك فلا تنفذ لك وقتاً إلاّ فيما ينجيك)(9).
والنفاذ هو التعمق في اختيار الأولويات، وأولى الأولويات واهمها هو ان ينقذ الانسان نفسه من الخسران المبين، ويربح أوقات عمره بإنفاقه بالعمل الصالح ليكون ناجيا.
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) الكهف103/104.
الخلاصة
ومن هنا يمكن ان نقدم خلاصات حول كيفية الربح باستثمار ازماننا، وكبح عملية تبديد وخسارة تلك اللحظات الثمينة من حيواتنا:
الانغماس في التفاصيل
أولا: إن أهم مسببات ضياع العمر هو الانغماس في التفاصيل الصغيرة، أشياء أو جزئيات لا تتجزأ فنجزئها وننشغل بها لتضيع العمر، مثلا يذهب شخص ما ويضيع يومه كله لكي يشتري له حاجة بسيطة، فيذهب إلى السوق ويقتل يوما كاملا وهو يبحث عن هذا الشيء أو ذاك، فهذا لا يعجبه وذلك لا يرغب به، فقد كشفت دراسة أن النساء عامة يقضين في المتوسط ثلاثة أعوام من أعمارهن في عمليات التسوق.(10)
وهكذا يقضي على أيامه في هذه التفاصيل الصغيرة التي تؤدي ضياع الاعمار، وهذا يعود إلى غياب فقه الأولويات وفقدان الادراك بأهمية الزمن كبعد عميق في حياتنا.
تجنَّب الصراعات والنزاعات
ثانيا: من أهم عناصر استنزاف عمر الإنسان وضياع عمره وتبديده (وكان أمره فرطا)، هي الصراعات والنزاعات مع الآخرين، وهي في نفس الوقت صراعات داخلية لأنها تستنزف نفس الإنسان، فيدخل في معارك لاتنتهي مع الصديق، الزوجة، الأخ، أبوه، أمه، عائلته، جيرانه، مجتمعه، تنتهي الى استنزاف ذاته وتبديد زمنه الثمين
لأن الإنسان الذي يعيش الصراعات تكون نفسه قلقة غير مستقرة، تختزن الكراهية في قلبه، وتصنع الحقد، وتتآكل بالألم، فقد يقضي الليل كله يفكر في هذه المشكلة أو تلك، لذلك فإن الإنسان الذي يريد أن يعيش مرتاحا ويستثمر حياته بشكل جيد، عليه ان لا يشغل نفسه في النزاعات، بل يستطيع في لحظة واحدة أن يتصالح مع الشخص أو الطرف الآخر ويتنازل قليلا والآخر يبادله بنفس التنازل فتنتهي المشكلة ويطمئن قلبه فيرتاح زمنه.
ولكن لابد للإنسان أن يبدأ من نفسه ويسامح في داخله ويتجاوز الأخطاء، لكي يستفيد من حياته، يوجد بعض الناس يمضي عليه 50 أو 60 أو 70 أو 80 سنة يخوض معركة مع أخيه، وهكذا يضيع عمره كله في هذه القضية، فتمر ستون سنة ولم يرَ أخاه، أو قد تمر ثلاثون سنة وهو لم يرَ ابنه ويبقى على هذه الحالة إلى أن يموت، ولو كان متسامحا، لاستطاع أن يعيش مع زوجته، أو ابنه حياة هانئة سعيدة، فالتسامح يستوعب التكاليف الباهظة للصراعات، ومن ثم يستطيع أن يعيش عمره هانئا مستلذا بها.
محاسبة النفس والاعتراف بالخطأ
ثالثا: محاسبة النفس والاعتراف بالخطأ، فالذي لا يحاسب نفسه ولا يعترف بالخطأ، يعيش تكرار أخطاءه، ويجتر تجاربه السيئة، يبدد عمره ويهدر سنين حياته، بينما لو أنه اعترف بخطئه وكان شفافا مع نفسه وواضحا مع افكاره ومتواضعا مع ذاته، فلا يرمي باللوم على الآخرين، فإن الاعتراف سوف يجعله يتقدم بنفسه خطوة إلى الأمام في استثمار عمره، فيسبق زمنه، بل سيربح زمنا إضافيا فوق زمنه السابق.
الاعمار قبل الاموال
رابعا: أن يعرف في أعماق ذاته إن قيمة اعماره وأوقاته ولحظات حياته، هي أثمن من أمواله، فلاتبهره الأموال على حساب الازمان، ولاتستلبه الأشياء على حساب المعاني.
الاتعاظ بالأولويات
خامسا: الاتِّعاظ، العبرة، والحذر من أن أموال الإنسان تبقى في الدنيا عندما يموت ويرحل عنها، وينتهي قطار العمر، فأمواله تبقى في الدنيا وهو يذهب إلى قبره، ويتركها إلى الأجيال اللاحقة وانتهى عمره دون أن يفهم منه شيئا، ولم يتعظ من أخطائه، بل أن يدرك بأن أعماله هي التي تذهب معه، فيأخذ أعماله معه ويترك أمواله في الدنيا لغيره. فهنا أعماله هي الأهم، ولابد أن يجعل أمواله في خدمة أعماله الصالحة.
وعليه أن يستثمر عمره في بناء الصالحات مثل المشاريع الخيرية من مثل المدارس والمساجد والحسينيات والمكتبات أو حتى ماء السبيل أو أي عمل صالح يخدم فيه مجتمعه، فيتخلد عمره وتذكره الناس بالرحمة، الذين ينتفعون من أعماله الصالحة.
ولكن كلما ترتقي أعماله إلى مستوى أعلى يصبح للعمل الصالح قيمة أكبر وأعظم، الذي يستثمر في العلم والتعليم والتثقيف والإرشاد والتوعية، أهم من الذي يستثمر في الماديات، لأن العلم ينقذ الإنسان مدى العمر، والطعام يُشبعه يوما واحدا، لذلك قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، وهذه هي أهمية ادراك الأولويات والمهم والأهم، حيث يفهم قيمة العمل الصالح.
وأخيرا، لابد ان نجعل هذه الآية القرآنية (والعصر إن الإنسان لفي خسر) لافتة نقرأها صباحا ونتأمل بها مساء، كعظة وعبرة، لكي نكون رابحين وناجين والعبور بسلام من الدنيا إلى الآخرة، لأن الربح الحقيقي من المستحيل الحصول عليه في الدنيا، بل الربح الأعظم ان يفوز بالجنة، فمهما ربح في الدنيا، تبقى الجنة هي الربح الأكبر والأعظم والغاية الأسمى. ويربح الجنة عندما يدرك قيمة عمره وثمن ازمانه وكنوز لحظاته وعظمة أنفاسه، كما قال الإمام علي (عليه السلام):
(إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا)(11).
اضف تعليق