المعركة حول مدن الحرية تتعلق بما هو أكثر من مجرد تقسيم المناطق، أو الضرائب، أو استخدام الأراضي. إنها تدور حول مستقبل الحوكمة السياسية ذاتها. والاختيار صارخ، وهو اختيار لا نملك تَـرَف تجاهله. مسار يؤدي إلى أرخبيلات مخصخصة من الامتيازات المحسّنة من أجل تحقيق الكفاءة والتي تُـفرَض بالاستعانة بالخوارزميات والمراقبة...
بقلم: روبرت موغا، كارلو راتي

ريو دي جانيرو ــ قليلة هي أفكار السياسات التي قد تبلغ من الراديكالية ــ أو التغليف الـمُـضَلِّل ــ الدرجة التي بلغتها "مدن الحرية". تتمثل الفكرة، التي تناصرها النخبة التكنولوجية الليبرتارية (التحررية) في وادي السيليكون، والتي احتضنها مؤخرا سياسيون يمينيون، من أمثال دونالد ترمب، في إنشاء جيوب من الإبداع غير المنظم مُـمَـكَّنة رقميا وخاضعة لخطة رئيسية شاملة.

تبدو الفكرة واعدة. يريد دُعاة مدن الحرية اختصار الروتين البيروقراطي، وإنعاش الإبداع، وحل أزمة الإسكان في أميركا. ولكن في الممارسة العملية، تجازف مثل هذه المشاريع بالتحول إلى معاقل للأثرياء ــ إقطاعيات إدارية يشكل التفاوت بين الناس جزءا مدمجا في أساسها. في حين يتحدث المروجون بلغة الحرية، فإن نموذجهم يعهد بالحوكمة لمجالس إدارة الشركات بدلا من صندوق الاقتراع.

مع ذلك، لا ينبغي لنا استبعاد الفكرة الأساسية المتمثلة في استخدام مستوطنات مبنية لغرض بعينه كمنصات للتجريب. على مدار التاريخ، كانت المدن تعمل كبوتقة للإصلاح السياسي والاقتصادي. فمن أثينا في عهد بريكليوس إلى برشلونة في العصر الحديث، تولت المجتمعات الحضرية ريادة الإبداع في الحوكمة، والتخطيط، والمشاركة. لا يكمن التحدي في بناء مدن جديدة، بل في ضمان خدمة هذه المدن للديمقراطية، وليس تقويضها.

لم يأت اقتراح ترمب عام 2023 بتدشين عشر من مدن الحرية على الأراضي الفيدرالية من فراغ. الواقع أن هذا المفهوم له جذور فكرية تمتد إلى نموذج "المدينة القائمة بذاتها" الذي ابتكره الاقتصادي بول رومر الحائز على جائزة نوبل، والمصُمم في الأصل كرافعة للتجديد الاقتصادي في البلدان النامية. في وقت لاحق، أعاد أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية تفسير الفكرة، متصورين مدنا ناشئة يديرها القطاع الخاص بمعزل عن الإشراف والرقابة. يروج مستثمرون من أمثال سام ألتمان، ومارك أندريسن، وبريان أرمسترونج، وبيتر ثيل لمثل هذه الجيوب كمواقع اختبار للذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيا المالية؛ وقد اقترحت مراكز أبحاث مثل المعهد الأميركي لأبحاث السياسة العامة بناء عشرات المدن الجديدة على الأراضي الفيدرالية؛ ويدفع تحالف مدن الحرية الـمُـنشأ حديثا في اتجاه بناء "أكبر عدد تستطيع السوق استيعابه".

والتجارب من هذا النوع جارية بالفعل. في هندوراس، كان مشروع "بروسبيرا"، الذي لم يدم طويلا، مدعوما من مستثمرين أميركيين، وقد عمل لفترة وجيزة في ظل تنظيم من ابتكاره قبل أن يستسلم لردود الفعل الديمقراطية العنيفة والتقاضي. وفي كاليفورنيا، أطلق أندريسن وشركاؤه مشروع "كاليفورنيا للأبد"، وهي خطة لمستوطنة تستوعب 400 ألف شخص في مقاطعة سولانو مصممة لتجاوز قيود تقسيم المناطق. أما حركة الاستيطان البحري بقيادة ثيل فتذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تتصوّر إقامة "دول مدينة" مستقلة في المياه الدولية. وفي عام 2025، كشف مستثمرون عن خطط لإنشاء جيب عالي التقنية في جرينلاند. وجرى التسويق لهذا الجيب على أنه مركز للذكاء الاصطناعي، والطاقة المتقدمة، والهندسة الجيولوجية، وكانت الفكرة موضع انتقاد باعتبارها شكلا من أشكال الاستعمار الجديد الذي يهدد النظم البيئية المحمية وأراضي السكان الأصليين.

في جوهرها، لا تدور هذه المشاريع حول تحسين المدن بقدر ما تتعلق بإعادة تصور السيادة. يتصور المستثمر الملاك بالاجي سرينيفاسان "الدول الشبكية" التي تُدار عن طريق تكنولوجيا سلاسل الكتل بواسطة مجتمعات على الإنترنت تحشد مصادر الأراضي جماعيا. ويروّج المدون اليميني المتطرف كورتيس يارفين لما أسماه "الـمَـلَـكيات الشركاتية" والتي يديرها رؤساء تنفيذيون غير منتخبين. ما يوحد رؤاهم ليس الشغف بالتخطيط الحضري، بل العداء تجاه الديمقراطية. وبموجب رؤاهم، تتحول المواطنة إلى اشتراك، والحوكمة إلى خدمة، والحقوق إلى فكرة ثانوية.

يوفر النقد الرزين لانعدام الكفاءة الحكومية الغطاء السياسي لهذه المشاريع. يتناول المدافعون عن مدن الحرية بالنقد الشديد قواعد تقسيم المناطق، والتأخير في منح التراخيص، والرقابة، مستغلين أشكال الإحباط الواسع الانتشار إزاء الإسكان والبنية الأساسية. فهم يرون في حقوق العمال، والحماية البيئية، والمشاركة المدنية أوجه قصور يجب "تحسينها على الوجه الأمثل". والنتيجة هي الإقلال من أثينا والإكثار من أمازون: مدن فعّالة، ومركزية، ومدفوعة بالربح، وتفتقر إلى أي مساءلة ديمقراطية.

ولا يخلو التاريخ من تحذيرات. ربما قَـدَّمَـت عواصم مخططة من أعلى إلى أسفل، مثل برازيليا وشانديجار، هندسة معمارية مبهرة، لكنها كافحت لخلق مجتمعات مرنة وشاملة. وقد أظهرت المدن الشركات في القرن العشرين كيف تزيد سيطرة الشركات على الإسكان والخدمات من ترسيخ التفاوت وتتسبب في تآكل الحقوق. في غياب الضمانات، تجازف مدن الحرية بتكرار هذه الأخطاء تحت بريق رقمي جديد.

لكن المدن كانت محركات للتجديد الديمقراطي، ومن الممكن أن تعود إلى سابق عهدها. فقد أضفت أثينا طابعا مؤسسيا على المشاركة المدنية عن طريق المجالس (boule) والمحاكم (dikasteria) التي يديرها المواطنون. ورغم أن هذه المؤسسات كانت معيبة وفقا للمعايير الحديثة، فإنها كانت ثورية في التعامل مع الحكم كمسعى جماعي.

في وقت لاحق، في القرن التاسع عشر، ساعدت مدن تشارلز فورييه (phalanstères) في إلهام التجارب في الإسكان التعاوني. وفي القرن العشرين، قدمت فريتاون كريستيانيا في كوبنهاجن، وأركوسانتي في أريزونا نموذجا للحكم الذاتي البديل والاستدامة. وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، كانت مدينة برشلونة رائدة في مجال المنصات الرقمية التشاركية، ووسعت فيينا وزيورخ نطاق الإسكان التعاوني، وطورت هلسنكي وتايبيه المشاعات التكنولوجية المدنية. تُظهر هذه الأمثلة المنقوصة، وإن كانت مفيدة، أن إعادة الابتكار الحضري من الممكن أن تعمل على توسيع انتشار الديمقراطية وليس تقليصها.

ينبغي للتقدميين أن يستعيدوا الحوار الدائر حول مدن الحرية، لا أن يتنازلوا عنه لصالح المستبدين التكنولوجيين. الواقع أن المدن الجديدة من الممكن أن تعمل كبيئات اختبار معزولة للإبداع الديمقراطي. ومن الممكن أن تُـدار بواسطة مجالس تشاركية بدلا من الكيانات الشركاتية. من الممكن أن يُنظر إلى الإسكان كحق وليس استثمار. ومن الممكن أن تسود السيادة الرقمية على الاستعمار الرقمي. والأدوات موجودة: ففي مختلف أنحاء العالم يجري بالفعل اختبار الحوكمة التعاونية، والتصميم المتكيف مع المناخ، والخدمات الأساسية الشاملة، والسلع الرقمية العامة.

إن المعركة حول مدن الحرية تتعلق بما هو أكثر من مجرد تقسيم المناطق، أو الضرائب، أو استخدام الأراضي. إنها تدور حول مستقبل الحوكمة السياسية ذاتها. والاختيار صارخ، وهو اختيار لا نملك تَـرَف تجاهله. مسار يؤدي إلى أرخبيلات مخصخصة من الامتيازات المحسّنة من أجل تحقيق الكفاءة والتي تُـفرَض بالاستعانة بالخوارزميات والمراقبة. أما المسار الآخر فيقودنا إلى منصات مدنية قادرة على تجديد الديمقراطية وتسخير التكنولوجيا لدفع الإدماج الاجتماعي والاقتصادي.

* روبرت موغا، المؤسس المشارك لمعهد إيجارابي ومجموعة SecDev، عضو في مجلس مستقبل مدن الغد التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، ومستشار لتقرير المخاطر العالمية.

كارلو راتي، أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة بوليتكنيك ميلانو، هو المؤسس المشارك لمكتب التصميم والابتكار الدولي CRA-Carlo Ratti Associati. وهو مدير بينالي البندقية للهندسة المعمارية لعام ٢٠٢٥.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق