إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده

قراءة في الحديث النبوي الشريف

الشكر ليس مجرد كلمات تقال، بل هو عمل يفعل، وهذا العمل هو ما يورث محبة الله للعبد، فالله يحب أن يرى عبده شاكرا، لأن الشكر علامة على الإيمان الصادق والاعتراف الكامل بالمنعم، وعندما تتحول النعم إلى جسور للخير، فإنها لا تزيد فقط في حياة صاحبها، بل تعود بالنفع...

في ديننا الحنيف، تعد النعم منحة إلهية تستوجب الشكر لا الجحود، والاعتراف لا الإنكار، لكن هذا الشكر لا يقتصر على مجرد قول (الحمد لله) باللسان، بل يتجاوز ذلك إلى أفعال وسلوكيات تعكس الامتنان الحقيقي للمنعم، لقد قرن الله تعالى زيادة النعم بالشكر، فقال سبحانه في كتابه الكريم: (لئن شكرتم لأزيدنكم)(1)، هذه الآية العظيمة تؤكد أن الشكر ليس مجرد فضيلة، بل هو شرط أساسي للبركة والزيادة في كل خير.

ومن هنا يأتي الحديث النبوي الشريف: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)(2)، ليقدم لنا قاعدة إيمانية وسلوكية عظيمة، تؤكد أن الشكر الحقيقي هو ما يظهر في حياتنا اليومية، ويتحول إلى سلوكيات إيجابية تعكس كرم الله وفضله، فالحديث ليس دعوة للتفاخر بالمال أو الممتلكات، بل هو توجيه نبوي للإنسان بأن يكون مظهرا لنعم الله عليه، بحيث يرى الناس في حياته وعمله وتصرفاته أثر فضل الله ورحمته، فيكون قدوة حسنة ودليلا على أن النعم إذا شكرت فإنها تدوم وتنمو، إن هذا الحديث يفتح أمامنا آفاقا واسعة لفهم عميق لمعنى الشكر، ويجعل منه عملا حيا ملموسا، لا مجرد كلمات جوفاء.

النعم الإلهية في حياة الإنسان

إن الحديث الشريف الذي يتحدث عن (أثر النعمة) يدعونا إلى التأمل في طبيعة هذه النعم نفسها، فالعطاء الإلهي ليس مقتصرا على جانب واحد من حياتنا، بل هو فياض وشامل، يمتد ليشمل كل ما نعيش به ونتفاعل معه، إن النعم التي يمنحها الله لعباده أوسع وأعمق مما نتصور، ومنها:

نعمة الإيمان

في مقدمة هذه النعم تأتي نعمة الإيمان، إنها الهداية التي من الله بها على البشر، والتي لا يمكن أن يوازيها أي شيء آخر، فالإيمان هو أساس السعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة، وهو النعمة التي تفتح أبواب كل النعم الأخرى، وقد ذكر الله ذلك في كتابه العزيز: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين)(3)، فالإيمان ليس إنجازا بشريا يفتخر به، بل هو هبة إلهية عظيمة ومنحة سماوية لا يمكن للإنسان أن يحصل عليها بجهده دون توفيق من الله سبحانه وتعالى.

نعمة الصحة والفراغ

وإلى جانب نعمة الإيمان، هناك نعم لا تحصى قد يغفل عنها الكثيرون، وفي مقدمتها نعمة الصحة والفراغ، وقد حذر النبي (صلى الله عليه وآله) من التهاون في شكرها، فقال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ)(4)، فكثير من الناس لا يدركون قيمتهما الحقيقية إلا بعد فوات الأوان.

إن الصحة والعافية هي أساس كل شيء، بها يستطيع الإنسان أن يؤدي عباداته، وأن يسعى في طلب رزقه، وأن يخدم مجتمعه، فنعمتهما تترجم إلى أفعال صالحة، كمساعــدة الآخرين، والقيام بالعبادات مثل قيام الليل والجهاد في سبيل الله، وقد جاء في الحديث الشريف: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(5)، والقوة هنا تشمل القوة البدنية التي تستخدم في طاعة الله عز وجل.

نعمة العلم والمعرفة

كذلك نعمة العلم والمعرفة، فهي نور يضيء الدروب، وبه يرتقي الإنسان وينهض المجتمع، إنها نعمة لا تفنى، بل تزيد بالإنفاق منها، وقد حث النبي (صلى الله عليه وآله) على طلب العلم، وجعل له منزلة رفيعة، فقال: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وأنه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(6)، وقال (صلى الله عليه وآله): (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له) (7)، مما يؤكد على أن العلم لا يكتمل شكره إلا ببذله ونشره.

نعمة الأهل والأصدقاء

ولا ننسى نعمة الأهل والأصدقاء، فهم السند والدعم العاطفي والاجتماعي، إن وجودهم في حياتنا نعمة عظيمة من الله تستوجب الشكر بالبر والصلة والمحبة، وقد استدل أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك في حديثه الذي رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث قال: (صلوا أرحامكم ولو بالتسليم)(8)، إن الله يقول: (اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (9). هذا الحديث يوضح أن صلة الأرحام، وهي من أعظم مظاهر شكر الله على نعمة وجودهم، لا تحتاج إلى جهد كبير، بل يمكن تحقيقها بأبسط الأفعال كالتحية والسلام، مما يؤكد على أهمية استمرارية الروابط العائلية كجزء لا يتجزأ من الإيمان والشكر للمنعم سبحانه وتعالى. 

نعمة الأمن والأمان

إن الأمن والأمان نعمة أساسية لا يستقر الإنسان ولا يتقدم بدونها، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم: (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم)(10) هذه الآية الكريمة تظهر بجلاء عظمة نعمة الأمن، فهي تقدم مثالا حيا وملموسا على قيمتها، حيث جعل الله مكة حرما آمنا في محيط كان يعج بالفتن والحروب، هذا التباين الشديد بين الأمان الذي ينعم به أهل الحرم، والخوف الذي يعيشه من حولهم، يبرز أن الأمن ليس أمرا مسلما به، بل هو هبة إلهية عظيمة، إن هذه النعمة، التي تعد أساسا لكل تقدم وازدهار، تستوجب الشكر لا بالقول فحسب، بل بالعمل على حفظها واستثمارها في كل ما يعود بالخير على الفرد والمجتمع.

تجليات النعمة في هيئة المؤمن وأفعاله

إن إظهار أثر النعمة لا يقتصر على جانب واحد من جوانب الحياة، بل يتجلى في المظهر والسلوك معا، في توازن دقيق بين الامتنان والاعتدال، فالمسلم الذي أنعم الله عليه بالمال، يظهر أثر هذه النعمة في هيئته دون إسراف أو تبذير، يلبس ما يليق به من الثياب، ويتطيب بأحسن الطيب، لأن هذا من شكر النعمة وجمالها الذي يحبه الله، فالله سبحانه وتعالى (جميل يحب الجمال)(11)، ولا يريد لعبده أن يظهر بمظهر البؤس والفقر وهو يملك ما يمكنه من إظهار كرم ربه عليه.

والأهم من ذلك أن يظهر أثر النعمة في سلوكه وأعماله الصالحة، فينفق ماله في صدقات جارية وأعمال خير عديدة، فيساعد المحتاجين ويكفل الأيتام، وذلك مصداق لقوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم) (12)

بهذه الأعمال يكون العبد قد شكر ربه حق شكره، فتنعكس آثار النعمة في سماته من سخاء وكرم وتواضع، فيصبح قدوة حية ينضوي حوله الخير كله.

الشكر الحقيقي ومحبة الله لعباده

في نهاية المطاف، يتضح أن الحديث النبوي الشريف: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)، ليس مجرد وصية للتزين بالمظهر الخارجي، بل هو دعوة عميقة وشاملة لنمط حياة إيماني قويم، إنه يربط بشكل مباشر بين الشكر والامتنان لله عز وجل وبين السلوكيات العملية التي تترجم هذا الشكر إلى واقع ملموس، فالنعمة الحقيقية هي التي تظهر في أعمالنا الصالحة، وفي مساعدة الآخرين، وفي استخدام كل ما أنعم الله به علينا لمرضاته، إن إظهار أثر النعمة في المظهر والسلوك هو دليل على فهم العبد لمعنى الأمانة، وإقراره بأن كل ما يملكه هو من فضل الله وكرمه.

فالشكر ليس مجرد كلمات تقال، بل هو عمل يفعل، وهذا العمل هو ما يورث محبة الله للعبد، فالله يحب أن يرى عبده شاكرا، لأن الشكر علامة على الإيمان الصادق والاعتراف الكامل بالمنعم، وعندما تتحول النعم إلى جسور للخير، فإنها لا تزيد فقط في حياة صاحبها، بل تعود بالنفع على المجتمع كلل، فيكون صاحب النعمة مصدرا للبركة، فلتكن حياتنا كلها مظهرا لشكر النعم، ولتكن أفعالنا ترجمة صادقة لحمد الله سبحانه وتعالى، لننال بذلك محبته ورضاه في الدنيا والآخرة.

.........................................

1. سورة إبراهيم، الآية 7 

2. ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٤ - ص ٣٣١٦

3. سورة الحجرات، الآية 17

4. الأمالي - الشيخ الطوسي - ص ٥٢٦

5. الشيعة في الميزان - محمد جواد مغنية - ص ٣٨٩

6. بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ١ - ص ١٦٤

7. بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - ص ٢٣

8. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ٢١ - ص ٥٣٩

9. سورة النساء، الآية رقم 1

10. سورة العنكبوت، الآية 67 

11. بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٦ - ص ٢٩٩

12. سورة البقرة، الآية 261

اضف تعليق