العراقيون تعبوا من الوعود، وهم اليوم أكثر وعيًا من أي وقت مضى. يعرفون أن النهضة لا تبدأ من مؤتمرات الفنادق ولا من زيارات الوفود، بل من قرارات جريئة تعالج الخلل في جذوره: إصلاح التعليم من أساسه، إعادة الروح إلى الزراعة والصناعة، بناء دولة مؤسسات لا دولة محاصصة، والأهم من ذلك كله: محاربة الفساد بلا خطوط حمراء...

منذ سنوات، اعتاد العراقيون على زيارات الوفود الدولية والمسؤولين الأجانب، الذين لا يخلو خطابهم من كلمات الإشادة والتفاؤل. زيارة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة محمد الحسان إلى كربلاء لم تخرج عن هذا السياق: تصريحات عن “العراق القوي” و“المكانة الإقليمية” و“العاصمة الثقافية” التي تستحق كل الاحترام. ولكن، وسط هذه العبارات، يبرز سؤال ملح: ماذا تغيّر على أرض الواقع؟

كربلاء التي يتحدث عنها الحسان بإعجاب ليست مجرد مراقد وزيارات مليونية، بل مدينة تواجه تحديات حقيقية في التعليم، والزراعة، والبنية التحتية، ومحاربة الفساد. المدارس ما زالت تعاني نقصًا في الأبنية والكوادر، بينما يجلس بعض التلاميذ على الأرض في صفوف مزدحمة. الزراعة، التي كانت يومًا ما عماد الاقتصاد المحلي، تترنح أمام شح المياه وغياب الدعم، فيما تُترك الأراضي الخصبة لمصيرها بدل أن تكون مصدر أمن غذائي. أما الفساد، فهو العائق الأكبر الذي يبدد أي مشروع تنموي، ويحوّل الخطط إلى شعارات تتبخر قبل أن تصل إلى المواطن.

الناس في كربلاء، كما في بقية المحافظات، لا ينتظرون جولة ليلية لمسؤول أممي ولا مؤتمرًا مليئًا بالمصطلحات الدبلوماسية، بقدر ما ينتظرون إصلاحًا ملموسًا يغير تفاصيل حياتهم اليومية. المواطن البسيط يريد مدرسة حديثة لأولاده، ومستشفى لائق لعائلته، وحقلًا مزدهرًا يضمن قوته، وفرص عمل تحمي شبابه من البطالة واليأس. هذه هي القوة الحقيقية التي يمكن أن تمنح العراق مكانة إقليمية وعالمية، لا البيانات الصحفية ولا المؤتمرات البروتوكولية.

لا شك أن إشادة المجتمع الدولي مهمة، لكنها تبقى ناقصة ما لم تُترجم إلى مشاريع عملية ملموسة. فالمجتمع الدولي يستطيع أن يدعم العراق بالخبرات، وببرامج مكافحة الفساد، وبمشاريع تنمية حقيقية، لكنه لا يستطيع أن يحل محل الدولة العراقية في إدارة مواردها ولا في حماية مستقبل أجيالها. المسؤولية الكبرى تقع على عاتق السياسيين والإدارات المحلية، الذين ما زال الكثير منهم غارقين في حساباتهم الحزبية والشخصية على حساب المصلحة العامة.

العراقيون تعبوا من الوعود، وهم اليوم أكثر وعيًا من أي وقت مضى. يعرفون أن النهضة لا تبدأ من مؤتمرات الفنادق ولا من زيارات الوفود، بل من قرارات جريئة تعالج الخلل في جذوره: إصلاح التعليم من أساسه، إعادة الروح إلى الزراعة والصناعة، بناء دولة مؤسسات لا دولة محاصصة، والأهم من ذلك كله: محاربة الفساد بلا خطوط حمراء.

ربما تُسجَّل زيارة الحسان إلى كربلاء في أرشيف الأخبار ليوم أو يومين، لكن أرشيف العراقيين مختلف؛ إنه مكتوب بالمدارس المتهالكة، بالحقول العطشى، وبطوابير العاطلين. هذه الزيارة لن تُقاس بما قيل فيها من كلمات، بل بما سيبقى بعد أن يغادر الضيف وتُطوى المنصة. فإذا لم تتحول الإشادات إلى خطط، والخطط إلى أفعال، فإن كربلاء ستظل كما هي: مدينة مثقلة بالرمزية، لكنها تنتظر من يحوّل هذه الرمزية إلى تنمية حقيقية. عندها فقط، سيصدق الناس أن العراق يسير نحو القوة لا نحو وهم القوة.

اضف تعليق