الجدل حول تقليص المخصصات وتوحيد سلم الرواتب يعكس لحظة مراجعة أعمق لدور الدولة ووظيفتها، النجاح في هذا الملف لا يُقاس بحجم التخفيض أو الزيادة، بل بقدرة الدولة على بناء نظام أكثر توازناً، يشعر فيه الموظف أن العدالة ليست كلاماً إعلامياً، بل ممارسة ممكنة، حتى وإن جاءت على مراحل...
لم يعد الحديث عن العدالة في توزيع الرواتب داخل الدولة العراقية مجرد نقاشٍ نخبوي، بل تحول إلى أحد المفاتيح الأساسية لفهم علاقة المواطن بالمؤسسة الرسمية، وحدود الثقة المتبادلة بين الطرفين، فالتفاوت الواسع في الرواتب والمخصصات بين مؤسسات الدولة، وأحياناً داخل المؤسسة الواحدة، لم يعد يُنظر إليه بوصفه خللاً إدارياً عابراً، بل كأحد أعراض اختلال أعمق في منطق إدارة الوظيفة العامة.
تاريخياً، تشكل نظام الرواتب في العراق ضمن ظروف استثنائية أعقبت التحولات السياسية الكبرى بعد عام 2003، حيث فُتحت الأبواب أمام معالجات سريعة فرضتها الضرورات الأمنية والسياسية، وسعت إلى استقطاب الكفاءات أو تثبيت مؤسسات ناشئة في بيئة مضطربة، غير أن هذه المعالجات، التي كان يفترض أن تكون مؤقتة، ترسخت مع الزمن، وتراكمت فوقها استثناءات وتعديلات جزئية، من دون أن تُبنى ضمن رؤية شاملة أو إطار موحد.
النتيجة كانت مشهداً إدارياً غير متوازن، تتحكم فيه الجهة الوظيفية أكثر مما تحكمه طبيعة العمل أو مستوى التأهيل، وأصبح الانتماء المؤسسي عاملاً حاسماً في تحديد مستوى الدخل، حتى بين موظفين يحملون الشهادة نفسها ويؤدون مهام متقاربة، هذا الواقع أضعف الإحساس بالعدالة، وأفرز شعوراً عاماً بأن الدولة لا تكافئ الجهد بقدر ما تكافئ الموقع.
سياسياً، اكتسب ملف الرواتب حساسية مضاعفة، لأنه يمس صورة الدولة في وعي المجتمع، فالفجوة الكبيرة بين دخول الدرجات العليا وبقية الموظفين أسهمت في تكريس انطباع عن دولة تطالب قواعدها بالتحمل، فيما تحافظ قمتها على منظومة امتيازات يصعب الدفاع عنها أخلاقياً، لذلك فإن أي حديث عن إصلاح مالي أو إداري، من دون معالجة هذه الفجوة، يظل منقوص الأثر، حتى لو كان مبرراً من زاوية الأرقام.
غير أن معالجة هذا الملف لا تخلو من تعقيد، توحيد سلم الرواتب ليس قراراً تقنياً بسيطاً، بل مساراً يحتاج إلى مراجعة قانونية دقيقة، وموازنة حساسة بين تحقيق العدالة والحفاظ على الاستقرار الوظيفي، أي خطوة غير مدروسة قد تفتح الباب أمام نزاعات قانونية أو ارتدادات إدارية، وقد تؤثر في قدرة الدولة على الاحتفاظ بكفاءاتها، وهو ما يجعل الإصلاح هنا اختباراً للحنكة أكثر من كونه اختباراً للنوايا.
اقتصادياً، يُنظر إلى إصلاح سلم الرواتب باعتباره جزءاً من معالجة أوسع لاختلالات الإنفاق العام، لكنه لا يمكن أن ينجح بمعزل عن ملفات أخرى، مثل تضخم الجهاز الوظيفي، وضعف الإنتاجية، وغياب توصيف واضح للوظائف، من دون ربط الأجر بالأداء والمسؤولية، سيبقى أي تعديل في الرواتب خطوة جزئية، محدودة الأثر.
في المحصلة، فإن الجدل حول تقليص المخصصات وتوحيد سلم الرواتب يعكس لحظة مراجعة أعمق لدور الدولة ووظيفتها، النجاح في هذا الملف لا يُقاس بحجم التخفيض أو الزيادة، بل بقدرة الدولة على بناء نظام أكثر توازناً، يشعر فيه الموظف أن العدالة ليست كلاماً إعلامياً، بل ممارسة ممكنة، حتى وإن جاءت على مراحل.



اضف تعليق