لم يعد الجدل الدائر حول مستقبل مهنة التدقيق مرتبطاً بكفاءة الأدوات فقط، بل بقدرة المدقق نفسه على التفكير خارج الإطار الذي صممت لأجله هذه الأدوات. وفي بيئة عراقية ما تزال تتأرجح بين الإرث الورقي والأنظمة الرقمية الناشئة، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن للمؤسسات التدقيقية أن تنتقل من معالجة الأخطاء بعد وقوعها إلى استباقها قبل أن تتحول إلى مخاطر؟...

لم يعد الجدل الدائر حول مستقبل مهنة التدقيق مرتبطاً بكفاءة الأدوات فقط، بل بقدرة المدقق نفسه على التفكير خارج الإطار الذي صممت لأجله هذه الأدوات. وفي بيئة عراقية ما تزال تتأرجح بين الإرث الورقي والأنظمة الرقمية الناشئة، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن للمؤسسات التدقيقية أن تنتقل من معالجة الأخطاء بعد وقوعها إلى استباقها قبل أن تتحول إلى مخاطر؟

هذا السؤال لم يكن مدخلاً نظرياً لحوارنا، بل كان الشرارة التي دفعت الباحثة نور مسير جبار الحفاظي إلى مشروع بحثي يجمع بين نقيضين ظاهرياً: الذكاء الاصطناعي بوصفه قوة تحليلية ضخمة، والعصف الذهني الإلكتروني بوصفه أداة توليد أفكار بشرية متحرّرة من القيود التنظيمية والهرمية.

ما يميز هذا الحوار أن الأسئلة لم تكن تتساءل عن جدوى الذكاء الاصطناعي فحسب، بل تفكك آلية “التكامل” التي تقترحها الباحثة: كيف يؤثّر كل طرف في الآخر؟ ولماذا تصبح بيئة التدقيق العراقية تحديداً أكثر استعداداً لهذا النموذج الهجين؟ ولأي مدى يمكن للأدوات الرقمية أن تعيد تشكيل مهارات المدقق لا أن تحل محلها؟

إن الإجابات التي قدمتها الباحثة تكشف ليس عن جانب معرفي جديد فقط، بل عن تحوّل في طريقة فهمنا لدور المدقق نفسه في زمن أصبحت فيه الخوارزميات شريكاً في التفكير، لا منافساً للإنسان.

ذكرتِ أن الإجراءات التقليدية غير كافية، وأن هناك ضعفاً في التفكير الإبداعي لدى المدققين، ما هي أبرز المؤشرات العملية (في البيئة العراقية) التي دفعتكِ تحديداً لربط هذه المشكلة بالحل المقترح (التكامل بين الذكاء الاصطناعي والعصف الذهني الإلكتروني) بدلاً من حلول أخرى، مثل تغيير المناهج أو معايير التدقيق فقط؟

هناك مجموعة من المؤشرات العملية في بيئة التدقيق العراقية هي التي دفعتني إلى تبني التكامل بين الذكاء الاصطناعي والعصف الذهني الإلكتروني تحديداً، وليس الاكتفاء بتغيير المناهج أو تحديث المعايير فقط، فقد لاحظتُ من خلال المقابلات الأولية والخبرة المتاحة أن أغلب مكاتب التدقيق ما زالت تعتمد إجراءات تقليدية، مع غياب شبه كامل لأدوات تحليل البيانات الحديثة، مما يؤدي إلى بطء كبير في اكتشاف الأنماط الشاذة او الأخطاء الجوهرية وكذلك ضعف في القدرة على توليد حلول مبتكرة للمشكلات المعقدة. كما أن المدققين غالباً ما يعملون بشكل فردي أو وفق أسلوب جماعي تقليدي يقيّد تبادل الأفكار بسبب الفروق الوظيفية أو رهبة طرح أفكار جديدة داخل بيئة العمل. إضافة إلى ذلك، فإن الكثير من المدققين يواجهون ضغطاً زمنياً يمنعهم من استخدام أساليب تفكير عميقة، مما يجعل الحاجة إلى أدوات ذكاء اصطناعي قادرة على التحليل السريع ضرورة أساسية. وعند مقارنة هذه المؤشرات بالبدائل الأخرى مثل تغيير المناهج، وجدت أنها حلول طويلة الأمد، بينما التكامل بين الذكاء الاصطناعي والعصف الذهني الإلكتروني يوفر بديلاً قائماً وقابلاً للتطبيق الفوري وذا أثر مباشر على جودة التدقيق.

 أشرتِ إلى أن البحث من الدراسات النادرة التي دمجت بين البعد التقني (الذكاء الاصطناعي) والبعد الإبداعي (العصف الذهني)، ما هو الإضافة المعرفية النوعية التي يقدمها هذا التكامل (AI + E-Brainstorming) مقارنة بالدراسات التي تناولت كلاً منهما بشكل منفصل؟ وكيف يختلف التكامل الذي درستيه عن مجرد الاستخدام المتزامن للأداتين؟

الاضافة المعرفية الجوهرية التي يقدمها هذا البحث تكمن في أن التكامل لا يعني تشغيل الذكاء الاصطناعي والعصف الذهني الإلكتروني بشكل متوازٍ فحسب، بل يعني تداخلهما في إطار واحد ينتج قيمة جديدة لا يقدمها أي منهما بمفرده. فالذكاء الاصطناعي يزوّد عملية العصف الذهني ببيانات عميقة وأنماط خفية تساعد في رفع مستوى جودة الأفكار، بينما يوفر العصف الذهني الإلكتروني بيئة تفاعلية تسمح بتوليد خيارات متعددة تحفّز الذكاء الاصطناعي نفسه على تحسين توصياته في جولات متتابعة. هذا التكامل ينتج دائرة تغذية راجعة معرفية تتطور فيها الأفكار بشكل تراكمي، وهو ما لم تتطرق إليه الدراسات التي درست كل متغير على حدة. أما الاستخدام المتزامن فهو مجرد تشغيل الأداتين في الوقت نفسه دون وجود ارتباط منهجي أو تدخّل أحدهما في تعزيز نواتج الآخر. أما التكامل الذي درستُه فهو علاقة تأثير متبادل، تجعل الذكاء الاصطناعي مصدراً للمعطيات التي تغذي جلسة العصف، وفي الوقت نفسه تجعل الأفكار البشرية مدخلاً لتحسين توصيات الذكاء الاصطناعي، وهذا ما يمثل الإضافة النوعية للبحث.

لماذا اخترتِ تحديد أبعاد الذكاء الاصطناعي في خمسة محاور هي: التعلم العميق، الشبكات العصبية، أتمتة العمليات، إنترنت الأشياء، والأنظمة الخبيرة، تحديداً في سياق التكامل مع العصف الذهني؟ وهل تعكس هذه الأبعاد بالفعل الأدوات الأكثر استخداماً أو الأهم في بيئة التدقيق العراقية؟

اختياري للأبعاد الخمسة جاء بناءً على مراجعة منهجية للدراسات الحديثة في الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تقييم ما هو قابل للتطبيق في بيئة التدقيق العراقية على نحو واقعي. فقد تبيّن أن التعلم العميق والشبكات العصبية هما الأكثر ارتباطاً بقدرات التحليل المتقدم واكتشاف الاحتيال المالي والأنماط الشاذة، وهما مجالان مهمان للمدقق العراقي الذي يعمل غالباً ببيانات كبيرة وغير مهيكلة. أما أتمتة العمليات، فهي البعد الأكثر قابلية للتطبيق حالياً في المؤسسات العراقية لأنها لا تتطلب بنية تحتية معقدة، وتساعد في تقليل الأخطاء الروتينية. وبالنسبة لإنترنت الأشياء، فقد أصبح مرتبطاً بشكل متزايد بالرقابة المستمرة وإدارة الأصول، خصوصاً في المؤسسات الصناعية والخدمية. في حين تمثل الأنظمة الخبيرة البعد الأكثر نضجاً واستخداماً في بيئات محاسبية، لأنها قادرة على محاكاة خبرة المدققين. هذه الأبعاد الخمسة تعدّ من أكثر الأدوات انتشاراً في الأدبيات العالمية، وفي الوقت نفسه تعكس ما يمكن للمؤسسات العراقية تطبيقه خلال السنوات القريبة، مما يجعلها مناسبة لدراسة التكامل مع العصف الذهني الإلكتروني.

استخدمتِ الاستبانة كأداة رئيسة لجمع البيانات، بالنظر إلى طبيعة المتغيرات (تقنيات متقدمة مثل التعلم العميق ومهارات ذهنية مثل التفكير الإبداعي)، هل تعتقدين أن إجابات المدققين تعكس الفهم الحقيقي لأثر التكامل، أم أنها قد تكون مجرد تعبير عن اتجاهاتهم الإيجابية نحو التكنولوجيا والإبداع بشكل عام؟ وهل كان هناك أي اختبار للفهم المسبق لمفاهيم الذكاء الاصطناعي لدى عينة البحث؟

يدرك البحث تماماً أن طبيعة المتغيرات المدروسة مثل التعلم العميق والتفكير الإبداعي تتطلب مستوى جيداً من الفهم لدى المشاركين. ولذلك تم تصميم الاستبانة بأسلوب يوازن بين المصطلحات العلمية وصياغة مفاهيمية واضحة يمكن للمدققين استيعابها دون الحاجة إلى خلفية تقنية متقدمة. ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض الإجابات قد تعكس توجهاً إيجابياً نحو التكنولوجيا أكثر مما تعكس فهماً عميقاً لتفاصيل الذكاء الاصطناعي. ولهذا السبب تضمن البحث سؤالاً تمهيدياً عن مستوى استخدام الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل قبل الانتقال إلى أسئلة القياس، مما ساعد في تقدير مستوى الوعي لدى العينة. كما تم عرض المصطلحات الأساسية مع أمثلة مبسطة قبل التوزيع، لضمان اتساق الفهم. ومع ذلك، فإن طبيعة الدراسات الميدانية تشير دائماً إلى وجود قدر من التحيز الإيجابي، وهو ما تمت معالجته من خلال استخدام أسئلة تعتمد على مواقف وسيناريوهات تطبيقية بدلاً من الأسئلة المباشرة.

 كيف جرى قياس متغير التكامل بين الذكاء الاصطناعي وأسلوب العصف الذهني الإلكتروني في الاستبانة بشكل دقيق؟ ما هي العبارات النموذجية التي صيغت لقياس أثر دمج، مثلاً، (الأنظمة الخبيرة) مع (العصف الذهني)، وليس أثرهما منفرداً؟

تم قياس متغير التكامل من خلال صياغة فقرات تقيس العلاقة التفاعلية بين أدوات الذكاء الاصطناعي ومخرجات جلسات العصف الذهني الإلكتروني، وليس أثر كل أداة بشكل منفرد. فمثلاً، تضمنت الاستبانة فقرات يسهم استخدام الأنظمة الخبيرة في توفير بيانات ومعارف تدعم جلسات العصف الذهني الإلكتروني في اقتراح حلول جديدة للمشكلات التدقيقية ويتيح دمج التعلم العميق مع العصف الذهني الإلكتروني القدرة على تحليل الخيارات المطروحة وتطوير بدائل أكثر ابتكاراً كما شملت فقرات مثل تعزز أتمتة العمليات من قدرة فرق العصف الإلكتروني على التركيز على التفكير الإبداعي بدلاً من المهام الروتينية هذه العبارات تعكس الدمج (التكامل ) (Integration) وليس الاستخدام المستقل، حيث إن صياغتها تظهر التعاون المتبادل بين الأداتين في إنتاج قيمة إبداعية جديدة.

العصف الذهني الإلكتروني: ما هي الخصائص أو المزايا المحددة للعصف الذهني الإلكتروني التي تجعله أكثر قابلية للتكامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي مقارنة بأسلوب العصف الذهني التقليدي؟ وكيف انعكس هذا على صياغة فقرات الاستبانة؟

العصف الذهني الإلكتروني يختلف جوهرياً عن التقليدي لأنه يعتمد على بيئة رقمية تتيح تبادل الأفكار بشكل متزامن وبدون ضغط اجتماعي، وتسمح بتوثيقها وتحليلها مباشرة، هذه الطبيعة الرقمية نفسها تجعل من السهل إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي معه، مثل التحليل الآلي للأفكار، أو توليد مقترحات جديدة، أو تصنيف المدخلات. وبسبب هذه الملاءمة التكنولوجية، جاءت فقرات الاستبانة لتعكس خصائص مثل: سرعة مشاركة الأفكار، وعدم الكشف عن هوية المشاركين، وقدرة النظام على تنظيم الأفكار آلياً، وهي عناصر لا يمكن دمجها بسهولة في العصف التقليدي. إضافة إلى ذلك، فإن العصف الإلكتروني يوفر قاعدة بيانات نصية يمكن للذكاء الاصطناعي تحويلها إلى معرفة، مما يجعله أكثر ملاءمة للتكامل مقارنة بالجلسات الورقية أو الحوارية.

ما هو الإطار النظري أو المعياري (مثل معايير التدقيق الدولية) الذي اعتمدتِ عليه في بناء فقرات قياس جودة التدقيق والتفكير الإبداعي؟ وهل تم ربط هذه الفقرات بمكونات الإبداع المعروفة مثل الطلاقة والمرونة والأصالة؟ (ذكرتِ الطلاقة في الاستنتاجات، فماذا عن البقية؟).

استندت فقرات قياس جودة التدقيق إلى الإطار الدولي لمعايير التدقيق (ISA)، وخاصة المعايير المتعلقة بالتخطيط، وتقييم المخاطر، واكتشاف الأخطاء الجوهرية، والموضوعية، والكفاءة المهنية. أما التفكير الإبداعي، فقد تم قياسه بالاعتماد على أطر معروفة في أدبيات علم النفس الإبداعي مثل نموذج تورانس للأبعاد الأربعة: الطلاقة، المرونة، الأصالة، التفصيل. ورغم أن الطلاقة ظهرت بوضوح في الاستنتاجات كونها الأكثر تأثراً بالأنظمة الخبيرة، إلا أن المرونة والأصالة مضمّنتان فعلياً في فقرات الاستبانة التي تقيس القدرة على توليد حلول متنوعة وغير تقليدية. كما تضمنت الفقرات جوانب مثل اعادة تركيب المعلومات بطريقة جديدة واكتشاف مسارات بديلة للمعالجة التدقيقية وهي مؤشرات مباشرة على الأصالة والمرونة.

توصلتِ إلى أن جميع أبعاد التكامل (التعلم العميق، أتمتة العمليات، الشبكات العصبية، انترنت الأشياء، الأنظمة الخبيرة) تؤثر إيجاباً، هل كانت هناك فروق ذات دلالة إحصائية في قوة هذا التأثير بين الأبعاد الخمسة؟ وبناءً على النتائج، ما هو البعد التقني (AI) الذي تشيرين إلى أنه الأكثر أهمية في تعزيز التفكير الإبداعي، ولماذا؟

أظهرت النتائج وجود تأثير إيجابي لجميع الأبعاد، إلا أن قوة التأثير لم تكن متساوية. فقد ظهر أن الأتمتة والأنظمة الخبيرة تمتلكان التأثير الأكبر على التفكير الإبداعي، بسبب سهولة تطبيقهما وارتباطهما المباشر بالعمل اليومي للمدقق. بينما جاء تأثير التعلم العميق في المرتبة التالية، وهو تأثير قوي لكنه يتطلب بنية تحتية تقنية غير متوفرة بشكل متساوٍ في جميع المؤسسات العراقية. أما الشبكات العصبية وإنترنت الأشياء فقد كان تأثيرهما إيجابياً لكنه أقل نسبياً نتيجة محدودية الاستخدام العملي لهما. ووفقاً لهذه النتائج، فإن الأنظمة الخبيرة هي الأكثر أهمية لأنها تساعد المدققين على توليد الأفكار بسرعة وتقدم لهم معارف جاهزة يمكن البناء عليها إبداعياً، وهو ما ينعكس مباشرة على تحسين جودة التدقيق.

ذكر الاستنتاج العملي أن الأنظمة الخبيرة تعزز الطلاقة وتوليد الأفكار، بينما ذكر أن التعلم العميق يسمح بالتركيز على استنتاجات أكثر ابتكاراً، ما هو الفرق النوعي بين الدورين المذكورين في سياق تعزيز الإبداع؟

الأنظمة الخبيرة تلعب دور مُحفّز الأفكار، فهي توفر قاعدة معرفية جاهزة تحاكي خبرة المدققين، مما يساعد في زيادة الطلاقة وتوليد الأفكار بسرعة. أما التعلم العميق فهو يقوم بدور مختلف يتمثل في تعميق جودة الفكرة من خلال تحليل معقد للبيانات واستخراج أنماط جديدة قد لا يكتشفها الإنسان بسهولة. بمعنى آخر، الأنظمة الخبيرة تدفع العملية الإبداعية في بدايتها عبر زيادة عدد الأفكار، بينما يسهم التعلم العميق في تحسين نوعية الأفكار من خلال تقديم علاقات مخفية وارتباطات تحليلية. هذا التوزيع الوظيفي يجعل التكامل بينهما مثالياً في بيئة التدقيق.

ذكر الاستنتاج النظري (رقم 4) أن بعض المدققين لا يمتلكون المهارات الكافية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في معالجة المشكلات.... كيف تفسرين هذه النتيجة في ضوء النتيجة الرئيسية للبحث التي أثبتت وجود تأثير إيجابي قوي للتكامل؟ ألا يشير ذلك إلى وجود تحدي جوهري يقلل من فاعلية هذا التكامل؟

النتيجة التي تشير إلى ضعف مهارات بعض المدققين لا تتعارض مع النتيجة الرئيسية للبحث التي أثبتت تأثير التكامل، بل تفسّر الحاجة إليه. فالمدققون يمتلكون استعداداً إيجابياً نحو استخدام التكنولوجيا، لكنهم يفتقرون إلى التدريب الفني العميق، مما يجعل تأثير الذكاء الاصطناعي والعصف الإلكتروني كبيراً لأن الأدوات نفسها تساعد في سد فجوات القدرات. ويمكن القول إن هذا الضعف يمثل تحدياً لكنه لا يقلل من فاعلية التكامل، بل يعزز ضرورة تطبيقه لأنه يرفع مستوى التفكير الإبداعي حتى لدى من لا يمتلكون خبرة تقنية واسعة. وفي الواقع، فإن الأنظمة الخبيرة وأتمتة العمليات تعمل على تقليل أثر هذا الضعف عبر توفير دعم تحليلي مستمر.

أوصيتِ بالتركيز على التوازن بين التحليل الآلي والحدس المهني وعدم إلغاء دور المدقق البشري، ما هي الآلية العملية أو التدريبية التي تقترحينها لضمان أن المدقق لا يصبح معتمداً كلياً على مخرجات الذكاء الاصطناعي ويفقد قدرته على التحليل النقدي والإبداعي؟

لتجنب اعتماد المدقق بشكل كامل على الأنظمة الذكية، أوصيتُ بضرورة إيجاد توازن بين التحليل الآلي والحدس المهني. وتتحقق هذه الآلية من خلال عدة إجراءات، أهمها: تدريب المدققين على تقييم مخرجات الذكاء الاصطناعي بدلاً من قبولها بشكل مباشر، وإدراج سيناريوهات لتقييم المخاطر تعتمد على الحكم المهني في البرامج التدريبية. كما يجب إشراك المدققين في جلسات عصف إلكتروني تعتمد على التفكير النقدي وليس فقط البيانات الآلية. بالإضافة إلى ضرورة تطوير أدلة إجرائية تلزم المدقق بتوثيق الأسباب المهنية التي دفعته لقبول أو رفض توصية الذكاء الاصطناعي. هذه الآلية تضمن تطوير مهارات المدقق بدلاً من تعطيلها.

أوصيتِ بإضافة مقرر دراسي مستقل عن الذكاء الاصطناعي، هل ترين أن هذا المقرر يجب أن يكون في قسم المحاسبة حصراً، أم أنه يجب أن يكون مقرراً مشتركاً يعنى بالتفكير الإبداعي في بيئة الذكاء الاصطناعي لجميع أقسام الإدارة والاقتصاد؟

أرى أن مقرر الذكاء الاصطناعي يجب ألا يكون مقتصراً على قسم المحاسبة، بل يجب أن يكون مقرراً مشتركاً بين جميع أقسام الإدارة والاقتصاد، لأن الذكاء الاصطناعي أصبح بيئة عامة تؤثر على كل التخصصات. إلا أن المقرر يحتاج إلى جزء متخصص يشرح تطبيقاته في المحاسبة والتدقيق، وذلك لضمان ربط الجوانب التقنية بالإجراءات المهنية. كما ينبغي أن يشمل المقرر جانباً خاصاً بالتفكير الإبداعي في بيئة الذكاء الاصطناعي، لأن الإبداع أصبح مهارة محورية في التخصصات المالية. هذا التصميم يضمن تطوير مهارات متكاملة للطلبة دون حصر المعرفة في مجال واحد.

اقترحتي ثلاثة اتجاهات مستقبلية، بصفتكِ الخبيرة الأكثر اطلاعاً على تفاصيل هذا البحث، ما هو التحدي العملي أو النظري الأكثر إلحاحاً الذي لم يغطيه هذا البحث وتقترحين أن يكون نقطة انطلاق لبحث قادم؟ (مع التركيز على البيئة العراقية).

أبرز تحدٍ لم يتناوله هذا البحث بشكل معمّق هو مشكلة البنية التحتية الرقمية وضعف البيانات في بيئة المؤسسات العراقية وتحديداً المؤسسات الحكومية، وتأثير ذلك على قدرة الذكاء الاصطناعي على العمل بكفاءة في مجال التدقيق. فالكثير من المؤسسات ما زالت تعتمد أنظمة ورقية أو قواعد بيانات غير منظمة، مما يجعل تطبيق تقنيات مثل التعلم العميق أو الشبكات العصبية محدوداً. كما أن هناك تحدياً آخر يتعلق بثقة المدققين في نتائج الذكاء الاصطناعي ووجود مقاومة مؤسسية للتغيير. لذلك أرى أن الاتجاه المستقبلي الأكثر إلحاحاً للبحث هو دراسة مدى جاهزية بيئة البيانات في العراق لتطبيق الذكاء الاصطناعي في التدقيق، وكيف يمكن تطويرها بما يضمن الانتقال إلى التدقيق الذكي بصورة واقعية وفعّالة.

ما خرجنا به من هذا الحوار يتجاوز حدود الأسئلة، ويشير إلى أن خريطة التدقيق في العراق مقبلة على مرحلة لا يكون فيها الذكاء الاصطناعي إضافة زخرفية، بل جزءاً من بنية التفكير المهني. واللافت أن الباحثة الحفاظي لا تقدم التكامل بين الذكاء الاصطناعي والعصف الذهني الإلكتروني كفكرة مستقبلية، بل كحل واقعي لشروخ قائمة: ضعف تبادل الأفكار، بطء التحليل، محدودية البنية الرقمية، وتفاوت المهارات بين المدققين.

لقد أظهرت دراستها أن الإبداع في التدقيق ليس رفاهية، بل متطلب مهني، وأن الأدوات الذكية لا تكتسب قيمتها من سرعة التحليل فحسب، بل من قدرتها على توسيع أفق المدقق ليصل إلى حلول لا تمنحها الخبرة وحدها. ومع ذلك، يبقى التحدي الحقيقي في بناء بيئة بيانات قادرة على احتضان هذا التحول، وتدريب كوادر لا تنقاد خلف الخوارزمية، بل تحسن محاورتها ومساءلتها.

بهذا المعنى، فإن هذا المشروع البحثي لا يقدم توصيات فقط، بل يضع سؤالاً مفتوحاً أمام المؤسسات المهنية: هل نحن مستعدون للانتقال من “التدقيق التقليدي” إلى “التدقيق المفكر”؟

نتقدم بامتنان عميق للباحثة نور مسير جبار الحفاظي على سعة معرفتها ودقة طرحها، وعلى إسهامها في كشف المساحات التي يمكن أن يلتقي فيها الذكاء الاصطناعي مع الإبداع البشري لتشكيل منظومة تدقيق أكثر رشاقة وفاعلية. وقد كان لحضورها العلمي دور واضح في إثراء هذا الحوار ومنح قرّاء شبكة النبأ المعلوماتية رؤية أعمق لمستقبل المهنة.

اضف تعليق