لم أكتشف هويتي الوطنية العراقية، ولم يتكرّس انتمائي الحقيقي إلى وطني، إلا بعد تشردي في المنافي، وعيشي سنوات طويلة في أكثر من دولة، كنت أعاني فيها كلها من نظرة الآخر إليّ كأجنبي. استفاقت هويتي الوطنية، حين تذوقت متعةَ الخلاص من الغربة تحت سماء وطني، وألهمني الشعور بالانتماء إلى أرض ولدت عليها ونشأت فيها...

الهوية الوطنية بمعنى، والهوية الأيديولوجية العقائدية بمعنى آخر. نصابُ الهوية الوطنية الانتماء إلى رقعة جغرافية، ومصير واحد، ومصالح يلتقي فيها الكل، وتاريخ مشترك، وذاكرة جمعية، تتجسد في ثقافة جامعة، ورموز مشتركة، بغض النظر عن الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية. تتمثل ملامح الثقافة المشتركة والرموز الجامعة في ما تراكم في العقل الجمعي من سردية تستحضر منعطفات نشأة الوطن، وتؤرخ لتحولاته، وتعيد وصل حاضره بجذوره الممتدة في الزمن.

كما تتجلى في الشخصيات المؤسسة، وكل شخصية استثنائية تركت بصمة مضيئة في مسيرة الوطن، وأسهمت في بناء كيانه السياسي والرمزي والمعنوي. وتنعكس في: اللغة، والآداب، والفنون السمعية والبصرية، والأديان والمعتقدات، والأمثال، والأساطير، والعلَم، والشعار الرسمي للدولة، والنشيد الوطني، والمناسبات والأعياد، والفلكلور، والأماكن الأثرية والمعمارية التي تستفيق فيها الذاكرة، وتمنح ما هو جميل في الماضي حضورًا مستأنفًا. وتظهر كذلك في المطبخ وأنواع الأطعمة، واللباس والأزياء، والأذواق، والرياضات الجماعية، مثل كرة القدم اليوم، وكل ما يسهم في توليد الشعور بالاستمرارية التاريخية.

ويغذّي الإحساس بالارتباط الوجداني العميق بالوطن، ويُعيد ترميم أواصر الألفة والتضامن، في إطار كيان سياسي، يلتقي فيه المواطنون على أنهم جزء حيّ من نسيجه، وأمناء على ذاكرته، ومشاركون في مصيره، ومسؤولون عن حمايته وتنميته.

الهوية الوطنية هوية جامعة، لا تقبل الانغلاق على مكوّن واحد، ولا تسمح باحتكار الوطن لجماعة دون سواها. هوية تتسع لمختلف المواطنين، بتنوع أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ولغاتهم، وترى بأن العيش المشترك لا ينهض إلا على الاعتراف بالاختلاف في إطار كيان سياسي واحد، وشراكة الجميع في بناء الوطن وحمايته.

تبتني هذه الهوية على المواطنة الدستورية، التي تُعلي من قيمة الإنسان بما هو إنسان، وتكرس المساواة في الحقوق، والمساواة في الفرص، على أساس "العدالة بإنصاف"، وفقًا لما عبر عنه جون رولز (1921 ــ 2002): في كتابه: "نظرية في العدالة". وتُخضع الجميع للقانون، وترفض التمييز بكل أشكاله، مهما كان تبريره. إنها هوية تُصغي إلى صوت العقل، وتحتكم إلى عقد وطني يضمن التعدد، ويحمي السلم الأهلي، ويعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين على أسس تُعيد بناء الانتماء، وتُحرّر الولاء من أسر الانتماءات الفرعية الضيقة، التي تعزل الإنسان في مضايق القومية أو الطائفة، وتعيدُ توجيه بوصلته نحو الوطن بوصفه الإطار الأوسع الذي ينتظم فيه التنوع، وتتكامل فيه الخصوصيات، من دون أن تتنكر للانتماءات للدين أو المذهب أو القومية، وتُرسخه في الهوية الوطنية الجامعة، ليغدو الانتماء للوطن أصلًا، وما عداه من انتماءات فرعًا.

أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي انتماء إلى معتقد ما، بعد أن يتحوّل هذا المعتقد إلى أيديولوجيا مغلقة، سواء أكان دينيًا أم دنيويًا. تتسم هذه الهوية بالانغلاق، إذ تقسم العالم إلى: مَن ينتمي إليها، ومَن لا ينتمي إليها. وهي تتوهم الاصطفاء، وتكرّس شعورًا بالتفوّق الزائف، وتبني هويتها الجمعية على نفي الآخر وإقصائه. في ظل هذه الهوية، يُلغى الوطن لصالح الجماعة، وتُختزل الدولة في كيان هشّ، وتُستبعد المصلحة الوطنية لحساب الولاءات الضيقة. تنتج هذه الهوية خطابًا تعبويًا، لا يقبل التنوع، ولا يطيق الاختلاف، ولا يقرّ بحقّ الآخر في العيش المشترك.

الهوية الوطنية مشروع بناء كيان سياسي، يتسع للجميع، ويقوم على العيش معًا بكرامة في ظل دولة القانون. أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي مشروع احتكار، يختزل الحقيقة في تفسير واحد، ويختطف الوطن لحساب جماعة، ويهدد وحدة المجتمع، ويقوّض أسس الدولة.

حدود دولة المواطنة الحديثة ترسمها خرائط الأرض التي يعيش عليها أبناؤها، وتنهض على المصالح المشتركة، والمصائر الوحدة، والشعور بالانتماء لهذا الوطن بوصفه الملاذ الذي يأوي إليه الجميع. وتتجلى دولة المواطنة في مساواة المواطنين في الحقوق وأمام القانون، وتكافؤ الفرص لكل منهم، وإناطة المسؤوليات بكل مواطن بحسب طاقاته وإمكاناته.

أما حدود الدولة الأيديولوجية فيرسمها الانتماء للعقيدة والولاء لها، ووحدة المصير مع مَن ينتمي إليها، بغض النظر عن انتمائه لوطن آخر، حتى إن كان في أقصى أطراف الكرة الأرضية. الحدود الوطنية تحمي الدول من أيّ شكل من أشكال النفوذ لدولة أخرى مهما كانت، ولا تسمح باستغلال موارد الوطن وثرواته لغير أبنائه، تحت أيّة ذريعة.

أما الحدود الأيديولوجية، فلا تحمي الأوطان، بل تجعلها كيانًا عامًا، لا يختص بمواطنيها، بل يتسع لكل مَن يعتنق أيديولوجيا حكّامها، كما حدث في الأنظمة اليسارية والقومية والأصولية، وكما يحدث اليوم في دولٍ متعدّدة. الحدود الأيديولوجية تعدّ الأجنبي الذي يتبنى الأيديولوجيا ذاتها شريكًا شرعيًا، يتمتع بالحقوق الكاملة في السلطة والحكم وإدارة الدولة، وربما تمادى هذا الشريك، فاستغل شراكته، وأضحى سيّدًا على الحاكم والمواطن.

السياق الوطني لتشكّل الهوية ينبغي أن يتسلسل في ضمير كلّ مواطن في بلدنا على أساس أنه: عراقي أولًا، وعربي أو كردي أو تركماني ثانيًا، ومسلم أو مسيحي أو مندائي أو إيزيدي ثالثًا، وشيعي أو سنّي أو كاثوليكي أو بروتستانتي أو أرثوذكسي رابعًا، وهكذا. هذا هو التسلسل الذي يمكّننا من بناء مفهوم للوطن بمعناه الحديث، والمواطنة الدستورية بوصفها أساسًا لبناء دولة حديثة، تتوحّد فيها الأديان والمذاهب والقوميات في كيان سياسي، ينتمي فيه الجميع لأرض واحدة، وتاريخ ومصائر مشتركة، ويتضامن على مصالح جامعة. أما حين تنقلب معادلة الهوية، فتصبح الطائفة أو القومية أولًا، والدين ثانيًا، والوطن ثالثًا، فإننا نفشل في بناء دولة المواطنة بمعناها السياسي، ونخفق في إقامة الدولة الحديثة، مهما فعلنا.

اختلال سُلّم الهويات ينتج وعيًا زائفًا بالانتماء، يُقصي الوطن لحساب الجماعة، ويحوّل المواطنة من انتماء جامع إلى ولاء خاص، محكوم بالعصبية، ومسكون بهاجس الدفاع عن الهوية الفرعية، لا الهوية الوطنية الأصلية.

حين تغدو القومية أو الطائفة هي الهوية الأصلية، وتتفرّع عنها سائر الانتماءات، لا يعود للوطن معنى ينطبق على المواطنين كلهم، وليس للمصالح والمصائر والتاريخ المشترك أثرٌ في بناء الدولة. تختفي عندئذ المواطنة خلف الانتماء القومي أو الطائفي، وتتحوّل إلى استماتة في الذود عن مصالح الجماعة، لا عن مصالح الوطن. ويغدو حضور الدولة هشًّا، لأن الولاء لها مشروط بولاء موازٍ أو سابق للجماعة، لا يسمح ببناء عقد اجتماعي يجتمع عليه المواطنون.

حين تتسيّد الهوية القومية أو الطائفية، وتختزل الهوية الوطنية فيها، تتفشى اضطرابات الهوية السياسية، ويتعذّر على المواطن أن يحقق ذاته السياسية في الوطن، أو يعثر على ما يوحّده بأبناء بلده. ويغدو الوطن ساحة صراع هويات فرعية، يتقدم فيها الانتماء للجماعة على حساب الانتماء للأرض والمصالح والمصائر المشتركة.

تفشّت في جيلنا، والجيل الذي سبقنا، اضطرابات الهوية السياسية، فكان الشيوعي قبل أن ينتمي لوطنه ينتمي إلى الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية المنضوية في محوره، أو إلى الصين والدول الاشتراكية التي تدور في فلكها. وكان القومي العربي، قبل أن ينتمي لوطنه، ينتمي إلى القومية العربية بصيغتها الأيديولوجية، وزعيمها جمال عبد الناصر، الذي كان أكثر الحكّام العرب براعةً في تجييش الجماهير، وأمهرهم في ابتكار الشعارات الصاخبة. وأخيرًا، صار مَن ينتمي إلى الإسلام السياسي ينتمي إلى الدول الدينية، كلٌّ على وفق مرجعيته المذهبية، لا على وفق انتمائه الوطني.

اضطرابات الهوية السياسية عشتها بمرارة في مراهقتي، كما عاشها كثير من أبناء جيلي، بعدما كنا نتخيّل أن الانتماء إلى الأيديولوجيا العقائدية هو الهوية الأصلية، وبأن العقيدة لا أرضَ لها كما تعلمنا في أدبياتها. لم نكن ننتمي إلى الأوطان بما هي أرضٌ وثقافة وتاريخ ومصالح ومصائر مشتركة توحّدنا مع أبناء بلدنا الذين نتقاسم العيش معهم.

كان انتماؤنا يتجه إلى أيديولوجيا سياسية عابرة للجغرافيا والتاريخ والذاكرة والثقافة واللغة والمصير والمصالح المشتركة مع أبناء الوطن، حتى صار مَن يعتقد بهذه الأيديولوجيا، وإن كان في أقصى الأرض، أقربَ إلينا من ابن البلد الذي نشترك معه في الأرض والتاريخ والثقافة والمصالح والمصير الواحد.

لم أكتشف هويتي الوطنية العراقية، ولم يتكرّس انتمائي الحقيقي إلى وطني، إلا بعد تشردي في المنافي، وعيشي سنوات طويلة في أكثر من دولة، كنت أعاني فيها كلها من نظرة الآخر إليّ كأجنبي. استفاقت هويتي الوطنية، حين تذوقت متعةَ الخلاص من الغربة تحت سماء وطني، وألهمني الشعور بالانتماء إلى أرض ولدت عليها ونشأت فيها.

حين يتحوّل الحنين للماضي السياسي إلى مشروع للخلاص، يفقد الحاضر قدرته على توليد معنى سياسي، ويُختزل المستقبل في صورة مثالية لماضٍ متخيّل، لا حضور له خارج الذاكرة.

اضف تعليق