لا يعاني العراق من فقر في العقول، بل من فقر في إدارة هذه العقول وتوجيه طاقاتها البحثية، فإعادة الاعتبار للبحث العلمي بوصفه أداة لحل المشكلات لا مجرد وسيلة للحصول على الشهادات أو الترقيات، هو مفتاح أساسي لإخراج العراق من أزماته البنيوية، ولن يتحقق ذلك إلا بإرادة سياسية جادة، وإصلاح شامل...
تُناقش أسبوعيا في الجامعات العراقية كافة عشرات الأبحاث في دراسة الماجستير والدكتوراه، فضلا عن بحوث متطلبات الترقية العلمية التي تنشر في المجلات المحلية والعالمية، ومع هذا الإنتاج الغزير من الأبحاث تبقى الكثير من المشكلات عالقة دون حلول موضوعية.
المعالجة المحدودة لهذه المشكلات من قبل البحوث المنتجة يثير العديد من التساؤلات الجدية حول وظيفة البحث العلمي في العراق، فهل أصبح انتاج البحوث ونشرها موضوعا شكليا ام حاجة بحثية تعالج مشكلة قائمة؟
البحث العلمي ومراكز الأبحاث الدولية في دول العالم لها وظائف تختلف تماما عما تؤديه المراكز البحثية العراقية، ففي تلك الدول، تركز الدراسات على إيجاد حلول لمشكلات تعاني منها القطاعات الاقتصادية والمالية، والتعليمية وغيرها، من الشؤون الاجتماعية.
اذ تحظى مثل هذا النوع من الدراسات باهتمام وعناية شديدين من قبل الجهات صاحبة القرار، التي وفرت بدورها البيئة البحثية الكاملة من أجهزة ومعدات ومنح مالية، لتمكن الباحثين من الوصول الى نتائج دقيقة قادرة على تقديم حلول لمشكلة ما، لذا تجد اختيار موضوعات هذه البحوث بناء على حاجة فعلية لهذه الدراسة.
ويمكن ان يكون سر تقدم هذه البلدان في الميادين التجارية والعلمية والصحية وكذا المالية هو الإنتاج العلمي الرصين القائم على قواعد وخطوات علمية متتابعة ودقيقة.
بينما المتابع للحركة العلمية في العراق يلاحظ خللا بنيويا يمنع الاستفادة من هذا الإنتاج المعرفي في تطوير السياسات، وتحسين الخدمات، ودعم الاقتصاد.
ومن المؤشرات الأولية للخلل في الإنتاج العلمي في الجامعات العراقية ومراكز الأبحاث، ان اغلب الدراسات بعيدة الى حد ما عن المشكلات الواقعية، وتذهب الى البحث او اجترار الماضي، غاضة البصر ان المشاكل الآنية والتطورات الحاصلة في المجالات البحثية.
ورغم ان الإحصاءات تشير الى تصاعد عدد رسائل الماجستير والدكتوراه، مع تزايد النشر في المجلات العلمية، الا ان الازمات باقية على قيد الحياة وربما يأخذ بعضها بالتفاقم.
فلم ننتج بحوثا رصينة تعالج او تعطي حلول مبتكرة لمشكلة تلوث المياه في جنوب العراق، فلا تزال محافظة البصرة تعاني من مشكلة الملوحة، وآثار الانبعاثات الغازية من الحقول النفطية، ولم يتمكن الباحثين من الوصول الى نتائج مرضية ومعتمدة لبعض المشكلات الصحية التي تصيب المجتمعات بين فترة وأخرى، ويبقى الاعتماد على نتائج الدراسات الأجنبية.
لا نريد النيل من مكانة الباحث العراقي في مختلف المجالات، فهو شخصية علمية مثابرة، قادرة على إحداث الفارق شريطة توفر المستلزمات الأساسية لإنجاح العملية البحثية او التجارب المختبرية، وإذا قالنا ما هو الدليل؟
الدليل هو ان اغلب العراقيين الدارسين في ارصن الجامعات العالمية تمكنوا من الحصول على براءات اختراع في ميادين علمية غاية في التعقيد، لكن العامل الوحيد الذي مكنهم من اجتياز هذه الصعوبات والوصول الى هذه النتائج هو توفر البنية التحتية من مختبرات ومواد أولية تمكن الباحثين من التألق في مجال البحث العلمي.
لا يمكن للبحث العلمي في العراق ان ينهض ويؤدي دورا محوريا في حل المشاكل الوطنية، ولا يزال الباحثين يذهبون الى دول الجوار؛ نظرا لتوفر المختبرات المجهزة بأحدث المعدات، مع وجود المواد الأولية ورخصها مقارنة بداخل البلد، ولا يمكن ان تنهض الحركة البحثية ولا تزال عقلية الباحث العراقي تدور في افق ضيق بعيدا عن مواجهة التحديات المرحلية والمساهمة في وضع حلول عملية لها.
ومما يضاعف الإشكالية هو أن هذه البحوث لا تجد طريقها إلى صانع القرار أو إلى خطوط الإنتاج العملي، وتبقى جهود معرفة معلقة لا تؤثر في السياسات العامة ولا في السوق ولا في وعي المجتمع.
ويرجع سبب عدم وصول نتائج الدراسات الى صانع القرار الى ان معظم المؤسسات الحكومية في العراق لا تضع البحث العلمي ضمن أولوياتها، فلا توجد شراكة حقيقية أو نظام تنسيق فعّال بين الجامعات والوزارات أو دوائر الدولة، وحتى إن وُجدت بعض المبادرات، فإنها تظل محدودة وموسمية، ولا تترجم إلى سياسات أو برامج دائمة.
ومن المعوقات التي تقف امام الباحثين في العراق هو ان غالبية تمويل البحث العلمي في يذهب إلى دراسات نظرية أو يوزع عشوائيا على الجامعات، دون خطة وطنية واضحة لتوجيه البحث العلمي نحو المشكلات الملحة، وهذا ما يجعل الكثير من الباحثين يختارون مواضيع لا تخدم المجتمع فعليا.
كذلك غياب قاعدة بيانات وطنية للمشكلات الحقيقية، فلا توجد خارطة معرفية توضح الأولويات البحثية التي يحتاجها العراق، ولا بنك للمعلومات يربط الباحثين بالمشكلات على الأرض، وحتى إن وُجدت بعض الجهات التي ترصد المشكلات، فإنها لا تتواصل مع الباحثين أو لا تتيح بياناتها بشكل مفتوح.
كيف يمكن تفعيل دور البحث العلمي في العراق؟
يتطلب الأمر إعادة توجيه التمويل نحو بحوث تطبيقية تحل مشاكل محددة، وهنا يتوجب على الدولة ومؤسسات التمويل دعم المشاريع البحثية التي تركز على التحديات الميدانية، مثل الزراعة المستدامة، إدارة الموارد المائية، الطاقة البديلة، أو تحسين الخدمات الصحية، اذ يجب ان يكون التمويل مشروطا بخطة تطبيق واقعية.
ينبغي تعديل معايير الترقية الأكاديمية لتشمل تأثير البحث في الواقع، ومدى استفادة المؤسسات منه، وعدد المشاريع التي أُنجزت بناءً على البحث، فضلا عن إشراك القطاع الخاص في تمويل وتوجيه البحوث، فحين يموّل القطاع الخاص البحث العلمي، فإنه يضمن أن تكون نتائجه قابلة للتطبيق في السوق، مما يشكل جسرا فعالا بين المعرفة والنمو الاقتصادي.
لا يعاني العراق من فقر في العقول، بل من فقر في إدارة هذه العقول وتوجيه طاقاتها البحثية، فإعادة الاعتبار للبحث العلمي بوصفه أداة لحل المشكلات لا مجرد وسيلة للحصول على الشهادات أو الترقيات، هو مفتاح أساسي لإخراج العراق من أزماته البنيوية، ولن يتحقق ذلك إلا بإرادة سياسية جادة، وإصلاح شامل لمنظومة التعليم والبحث والإدارة.
اضف تعليق