هذا الموضوع ليس مجرد مخالفة، بل هو عرض حقيقي لانهيار في منظومة القيم المجتمعية والثقة بالدولة، والتعامل معه لا يتطلب فقط أدوات قمع أو قوانين صارمة، بل تفكيك الأسباب البنيوية التي تدفع المواطن لاستباحة المجال العام، واستعادة الإيمان بأن ما هو "عام" هو في الأصل ملك لكل فرد، لا لأحد...
يذهب العالم نحو التبسيط في كل الأشياء، يضع خرائط لتسهيل الوصول الى المناطق في المدن، من بينها الأسواق والحدائق العامة والمراكز الرياضية وغيرها من المرافق التي يمكن للفرد ان يقصدها بصورة متكررة، لكن يفاجئ المواطن او الشخص الذاهب الى مكان ما، بعدم وجود هذا المكان والاستيلاء عليه من قبل جهة حزبية او مدنية.
هذا المكان قد يكون ملعب او ساحة مصغرة مخصصة للألعاب الرياضية، وهل من الممكن ان يصل التعدي على الغاء دور هذه الساحة؟
نعم يصل الامر الى ابعد من ذلك وهو الاستيلاء على الساحات في بعض المؤسسات الحكومية وتحوليها الى أماكن لنصب المولدات التجارية، ولك ان تتخيل ما وصلت اليه الحال في المدن ذات الكثافة السكانية العالية.
وهل هنالك اشكال أخرى من التجاوز على الملك العام؟
نعم، في بعض المناطق التجارية في بغداد وغيرها من المدن العراقية يصعب على الفرد السير على الرصيف المحاذي للشارع العام. صاحب "بسطية" الشاي يشغل حيزا منه، وبائع الأحذية الى جانبه، وكذلك بياع الملابس الداخلية الرجالية وهكذا، بحيث يصعب على المرأة او الرجل السير براحة في بعض المناطق.
الأملاك العامة في أي دولة تمثل الرئة التي يتنفس منها المجتمع وبصفة خاصة أصحاب الحي او المنطقة، فمثلا تصوّر أنك تسكن في حي تم الاستيلاء الكامل على المساحات الخضراء، او المخصصة للبنى التحية وغيرها من الانشاءات المهمة.
اذ أدى ظهور هذه الحالة الى تشويه معالم المدينة، وتغيير ملامحها الرئيسية، وما سمح لها بالاتساع لا سيما في الفترات الأخيرة هو غياب سيادة القانون أو ضعف في مؤسسات الرقابة.
وهذا الاستيلاء لا يعد خرقا قانونيا فحسب، بل هو انزلاق خطير نحو تقويض فكرة الملكية العامة التي تُبنى عليها شرعية الدولة.
من التسمية "مملكات عامة" يتضح بعدم احقية أي فرد في الاستحواذ عليها، وما يحصل بخصوص هذا الملف شيء لا يمكن وضع تعريف دقيق له، فكيف تفسر تخويل احدى الجهات الأمنية بإعطاء رخص لعربة بيع جوالة في شوارع مركز المدينة؟
هل تندرج هذه الوظيفة ضمن المهام الأساسية للجهة الأمنية؟
بالطبع لا، لكن هنالك علاقة تخادم بين الجهات الأمنية وغيرها من المؤسسات ذات الخدمة المدنية، وفي النتيجة تحصل مثل هذه الخروقات والتجاوزات على الأملاك العامة.
الملك العام يجب ان يبقى عاما تحت تصرف الحكومة، وهي الجهة الوحيدة والمخولة لتوظفه خدمة لأبناء المدينة، بعيدا عن المزايدات او الضغوطات، وما يحصل حاليا يبين ما تتعرض له الأملاك العامة من هجمة غير مسبوقة من قبل رجال السلطة.
فقد تحولت الأماكن المخصصة لتشييد المتنزهات والأماكن الترفيهية الأخرى، الى مدارس أهلية ومولات تجارية، ومشروعات استثمارية، كلها بعلم المسؤول ورعايته، الامر الذي ضيق على المواطنين حركتهم داخل مناطق سكنهم، ولم تعد بعض الاحياء صالحة للسكن، مما اضطر اهاليها الانتقال الى مناطق أخرى او الشراء في المجمعات السكنية التي تتمتع بفسحة الى حد ما.
ما يحصل في العراق بصورة عامة لا يمكن التعامل معه بصورة منعزلة عن السياق العام القائم في البلد، اذ يوجد من يعتقد او يختلط عليه مفهوم الملك العام والخاص، حيث يتصور ان من حقه الاستحواذ على ما يحب، وهو ما يبرر هذا التعدي.
غير هذا العامل، هو عامل غياب الرقابة الحكومية، فالكثير من الجهات البلدية في كثير من المدن تعاني من قصور في الإمكانات أو التراخي أو حتى التواطؤ، وهو ما رسخ ثقافة الإفلات من العقاب، حيث يرى المتجاوز أن القانون لا يُطبق إلا على الضعفاء، مما يشجع على التمادي.
فهل من آثار؟
من الآثار السلبية للتجاوز على الأملاك العامة في المدن هو تفكيك النسيج الحضري، اذ تتحوّل المدن إلى فضاءات عشوائية لا تنسجم مع التخطيط الحضري، ما يؤدي إلى اختناقات مرورية، وتشوه بصري، وانعدام العدالة المكانية، ويؤدي ذلك الى عرقلة مشاريع التنمية، فأي مشروع بنية تحتية أو توسعة مستقبلية يصطدم بحقائق الأمر الواقع التي فرضها المتجاوزون.
معالجات منطقية:
ولكيلا تبقى المشكلة مستعصية، ينبغي التفكير بمعالجة متكاملة وشاملة، ومن بينها إنفاذ القانون دون انتقائية، وعدم إيقاف حملات إزالة التجاوزات التي تنطلق قبيل الانتخابات وتتوقف بعد ساعات لدواع انتخابية بحته بعيدا عن البعد الإنساني.
معالجة التعديات لا يمكن أن تنجح دون توفير بدائل سكنية وتجارية واقعية، خاصة للفئات المهمشة، مع تكثيف حملات التوعية الوطنية لتعزيز قيمة «الملكية العامة» وشرح أضرار التجاوز عليها مع مرور الوقت ما تفرزه هذه الظاهرة من وضع غير منتظم داخل المدن.
واخير هذه المعالجات، عدم ترك المساحات التابعة للدولة فارغة على مدى عقود من الزمن، مما يسيل لعاب المواطن للاستيلاء عليها متشجع بغياب الرادع او العقاب الحقيقي.
التجاوز على الأملاك العامة ليس مجرد مخالفة، بل هو عرض حقيقي لانهيار في منظومة القيم المجتمعية والثقة بالدولة، والتعامل معه لا يتطلب فقط أدوات قمع أو قوانين صارمة، بل تفكيك الأسباب البنيوية التي تدفع المواطن لاستباحة المجال العام، واستعادة الإيمان بأن ما هو "عام" هو في الأصل ملك لكل فرد، لا لأحد.
اضف تعليق