ان التحدي الأكبر الذي يواجه العراق اليوم هو تحدي القراءة والفهم، فالخطأ في تقدير المواقف والمتغيرات يفضي إلى تداعيات أمنية وسياسية جسيمة، في منطقة شديدة الهشاشة وتحت وطأة تنافس إقليمي محتدم، وتدخلات دولية لا مجال معها للارتجال أو التمسك بالمفاهيم القديمة...

دخلت المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة مرحلة معقدة، حيث بدأت التباينات في الأهداف والتقاطعات السياسية تضغط على مسار التفاوض، تزامنًا مع استعدادات إسرائيليَّة لتوجيه ضربة عسكرية، تدفع نحوها دوائر القرار السياسي والاستخباراتي في الكيان الصهيوني.

يقف العراق مراقبًا لهذه التجاذبات، وتعتريه موجات من القلق العميق، تختزلها الأسئلة الكبرى: ماذا لو فشلت المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية؟، كيف ستبدو خارطة التحديات الأمنية والاقتصادية التي ستواجه العراق؟، ما حجم المخاطر؟، وكيف يمكن التخفيف من آثارها؟

هذه الأسئلة تختصر الموقف العراقي على المستويين الشعبي والرسمي؛ إذ تدرك الدولة العراقية أن انفلات التوترات في المنطقة من عقالها سيترك أثرًا مباشرًا عليها. وتكمن مصلحة العراق في أن تبلغ هذه المفاوضات نهايتها السعيدة، كما يأمل العالم، باستثناء أولئك الذين يعادون عودة إيران إلى المنظومة الدولية واندماجها في الاقتصاد العالمي واستعادة علاقاتها الطبيعية مع الغرب.

استنادًا إلى أطروحات “مدرسة كوبنهاغن” في الدراسات الأمنية، لا سيما تنظيرات باري بوزان، فإن المنظومة الأمنية في مستوياتها الثلاثة ـ أمن الفرد وأمن المجتمع وأمن الدولة ـ تتكامل في ظل غياب التهديدات أو انحسار الشعور بها ضمن مركب الأمن الإقليمي والنظام الدولي.

وفي الحالة العراقية، فإن الفرد يشعر بتهديد مباشر من اندلاع الحروب الإقليمية في محيطه شمالًا وشرقًا وجنوبًا وغربًا، لما لذلك من أثر بالغ على استقراره المعيشي والأمني. أما المجتمع، فيواجه صعوبة في بلورة رؤية موحدة تجاه التهديدات أو حتى الفرص، بسبب التعددية السياسية والتباينات الاجتماعية الحادة، التي تنعكس سلبًا على قدرته في حماية هويته ووحدته الثقافية والاجتماعية، وهي من عناصر “الأمن المجتمعي “ بحسب بوزان.

أما الدولة، فترى في كل أزمة إقليميَّة خطرًا مباشرًا على اقتصادها واستقرارها السياسي وأمنها الداخلي وعلاقاتها الخارجية. انطلاقًا من هذا الواقع، يصبح إدراك اللحظة الدوليَّة ورصد البيئة السياسيَّة المحيطة أمرين جوهريين في استراتيجية الدفاع والوقاية من المخاطر. لكن العراق يعاني من تباطؤ واضح في تقدير المتغيرات واقتناص الفرص، نتيجة الانقسام السياسي العميق وغلبة منطق “الهوى السياسي” على الفهم الموضوعي، حيث لا تزال بعض القوى متمسكة برؤى تعود إلى زمن الحرب الباردة وأيديولوجيات اليسار القومي والماركسي، دون إدراك كافٍ للتحولات السريعة في البيئة الدولية والإقليمية.

لقد أضاع العراق فرصًا استراتيجية مهمة، بسبب حالة التوجس من الولايات المتحدة، التي تسود أوساطًا عراقية واسعة، وهي حالة مفهومة ولكنها تحتاج إلى مراجعة عميقة. إذ إن إدراك بعض القوى العراقية ـ من أكراد وعرب سنة وشيعة ـ لطبيعة النفوذ الأميركي بوصفه فاعلًا مركبًا، مدمرًا وخلاقًا في آنٍ واحد، يفتح المجال أمام تعاطٍ أكثر واقعية مع هذا النفوذ.

فالغضب من الانحياز الأميركي لإسرائيل ومن تدخلات واشنطن المتكررة، لا يعني تبني النهج الإيراني القائم على القطيعة الكاملة، خصوصًا أن المتغيرات الدولية فرضت نمطًا جديدًا من العلاقات في الشرق الأوسط، يقوم على الشراكات الاقتصادية، والتقنيات المتقدمة، وتوسيع أدوار الوساطة وحل الأزمات، بدلًا من المعادلات التقليدية القائمة على القوة الخشنة والنفوذ العسكري.

لم يعد الثقل العسكري أو البشري أو عمق الدولة التاريخي هو المعيار الأوحد لقياس الوزن الاستراتيجي، بل أصبحت القدرة على خلق الفرص والمساهمة في سلاسل التوريد العالمية وتأمين الممرات التجارية وبناء السلام هي المعايير الجديدة. ولهذا غيّرت الولايات المتحدة رؤيتها الاستراتيجية، ولم تعد تنوي الانسحاب الكامل من الشرق الأوسط، بل تسعى لتحويله إلى ساحة تنافس مع الصين، التي باتت تزاحم واشنطن في مناطق نفوذها التقليدية.

وهذا ما تنبهت إليه دول مثل السعودية وقطر والإمارات، التي استطاعت توظيف التنافس الأميركي ـ الصيني لصالح نمو اقتصادها وتعزيز أمنها وتنويع شراكاتها. هذا التحول الإقليمي الجوهري يستدعي إدراكًا معمقًا ودراسة عراقية موضوعية، بدلًا من الاستسلام للتشكيك أو التشبث بمواقف أيديولوجية لم تعد مجدية. العراق بحاجة إلى قراءة واعية لمجريات الأحداث من حوله، كي يضمن موقعًا آمنًا داخل مركب الأمن الإقليمي.فما جرى في سوريا ـ من إلغاء تدريجي للعقوبات وتسارع في عملية اندماج النظام الجديد أمنيًا واقتصاديًا ـ يكشف عن حجم التحول. 

دمشق بدأت خطوات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، بل وسارعت إلى اعلان استعدادها لتوقيع اتفاق (سلام) كان متوقعًا أن يستغرق سنوات.

تركيا، التي كسبت جولة مهمة بإقناع حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح، أصبحت بلا مبرر لاستخدام جيوشها للتدخل في شمال العراق وسوريا، وذهبت أبعد من ذلك بتنسيقها مع إسرائيل على تقاسم النفوذ في الساحة السورية.

أما إيران، فتدرك أن إنقاذ اقتصادها من الاختناق واستعادة ثقة فئات من شعبها مرهون بإعادة النظر في سياستها الخارجية. ولذا بدأ مفكروها وخبراؤها يدعون إلى الاقتداء بالنموذج الخليجي في تقديم الاقتصاد على سباق النفوذ، والبحث عن الاستقرار بدل الصدام.

والفضيلة هنا أنهم يعترفون بالحاجة إلى التغيير، بينما لا يزال بعض العراقيين أسرى إنكار الواقع، وهم يتوهمون أن التشبث بالشعارات كفيل بحل الأزمات.

في المقابل، يظهر إقليم كردستان أكثر براغماتية، إذ يدرك ـ من خلال لوبياته وشبكاته في واشنطن ـ أن التوقيع مع الشركات الأميركية في ميدان الطاقة ليس مجرد استثمار اقتصادي بل مكسب أمني واستراتيجي. ولذلك كرر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أمام الكونغرس القول إن بلاده تتوقع من بغداد احترام التزاماتها تجاه الشركات الأميركية العاملة في العراق.

ومع أن بغداد استضافت وفدًا من مديري الشركات الأميركية في نيسان الماضي، إلا أن الاستثمارات الأميركية بقيت محدودة، بينما تصدرت الشركات الصينية المشهد بعقود ضخمة في مجالات النفط والغاز والمصافي والبتروكيمياويات والفوسفات.

كل هذه المعطيات تدفع إلى الاعتقاد بأن التحدي الأكبر الذي يواجه العراق اليوم هو تحدي “القراءة والفهم”. 

فالخطأ في تقدير المواقف والمتغيرات يفضي إلى تداعيات أمنية وسياسية جسيمة، في منطقة شديدة الهشاشة وتحت وطأة تنافس إقليمي محتدم، وتدخلات دولية لا مجال معها للارتجال أو التمسك بالمفاهيم القديمة.

اضف تعليق