كيف سيتصرف قادة الغرب تجاه دولة مدانة بجرائم ابادة وحرب وضّد الانسانية؟ هل يشعرون بالحرج امام شعوبهم والتاريخ، وهم يستمرون بالدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري ”لدولة” مُدانة بجرائم ضد الإنسانية؟ هل يسعون إلى فرض عقوبات اممّية عليها، مثلما فعلوا ذلك ضّدَ روسيا، والتي تفعلْ، مثلما قامت به إسرائيل...

الاول (7 اكتوبر) أسقطها عسكرياً كقوة لا تُقهر، والثاني (20 مايو) أسقطها اخلاقياً وسياسياً، كدولة حضارية، ديمقراطية، تضّمُ ابناء وأحفاد مَنْ تعرضوا للإبادة الجماعية على يد هتلر، مثلما يروّجون لها في الغرب وفي العالم .

لم تنجحْ تهديدات ومحاولات اعضاء كُثرٌ من الكونغرس الأمريكي ومن الادارة الامريكة، وفي مقدمتهم الرئيس بايدن، في ثني المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية عن مطالبة المحكمة بإصدار أوامر قبض ضّدَ نتنياهو ووزير دفاع الكيان المحتل، وذلك ضمن جهوده في التحقيق بشأن ارتكابهم لجرائم ابادة وجرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية في غزّة وستتجه المحكمة حتماً إلى تلبية طلب مدعيها العام، وتصدِرْ أوامر القاء قبض دولية ضدهما .

إدانة نتنياهو ووزير الدفاع بارتكاب جرائم ابادة وحرب تعني ادانة لإسرائيل، لاسيما وأنَّ نتنياهو مُنتخبْ ديمقراطيا، و يمثّل الشرعية الاسرائيلية (وفق سرديات ومفردات القاموس الأمريكي والغربي). وادانته تُلزِم كافة الدول الموقّعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، وعدد الدول 123، بتنفيذ أوامر القاء القبض عليه، حين وجودهِ على أراضيها، ومن بين هذه الدول بريطانيا، فرنسا، المانيا، هولندا، إسبانيا، كندا، وكذلك، ايطاليا .

قرار المحكمة لا يمسُّ فقط إسرائيل اليوم، وانما يحفرُ في تاريخها ويفنّدُ دعائم ما تزعمه من ”شعب مضطهد ”، وكيان يحارب الاضطهاد والعنصرية وجرائم الابادة، إلى أخره مِنْ توصيفات شيّدت عليها إسرائيل قدسيّة مُزيّفة، أماطت عنها اللثام دماء أطفال غزّة .

قرار المدعي العام للمحكمة هو تجسيد قانوني لرأي ومطالبات شعوب العالم بتقديم نتنياهو وقادة الاحتلال إلى المحكمة بسبب هول جرائم الابادة و التجويع والاذلال التي مارستها السلطات العسكرية للاحتلال ضّدَ شعب فلسطين في غزّة .

كيف سيتصرف قادة الغرب تجاه دولة مدانة بجرائم ابادة وحرب وضّد الانسانية؟ هل يشعرون بالحرج امام شعوبهم والتاريخ، وهم يستمرون بالدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري ”لدولة” مُدانة بجرائم ضد الإنسانية؟ هل يسعون إلى فرض عقوبات اممّية عليها، مثلما فعلوا ذلك ضّدَ روسيا، والتي تفعلْ، مثلما قامت به إسرائيل، لا بل خرجت شعوب اوروبا في تظاهرات مليونية تستنكر ما اتخذته بلدانهم من اجراءات ضدَ روسيا؟ هل سيسعون إلى فرض عقوبات أممية على إسرائيل، مثلما فرضوها على سوريّة، بحجة قمع التظاهرات، والحريات وحقوق الإنسان؟

هل ستبادر فرنسا او هولندا او المانيا إلى إلقاء القبض على نتنياهو او وزير دفاع الكيان المحتل تنفيذاً لطلب المدعي العام للمحكمة، ام ستلجأ إلى تعديل قوانينها الوضعية، وجعلها تتلاءم مع مصلحة نتنياهو، مثلما فعلت محكمة العدل الدولية، حين ارادت بلجيكا محاكمة شارون على أراضيها لارتكابه جرائم حرب، فانقذته محكمة العدل الدولية بحجة تمتعه بالحصانة الدبلوماسيّة، عام 2002؟

ستكون دول الغرب امام امتحان اخلاقي آخر ،بعد فشلها في امتحان موقفها ازاء الجرائم التي ارتكبها كيان اسرائيل المحتل في غزّة .

بالتأكيد ستستمر امريكا وبعض دول الغرب بتزويد اسرائيل، بما تحتاجه و تريده من سلاح ودعم سياسي ودبلوماسي، غير آبهة بالوصف القانوني الجديد للكيان المحُتل؛ فهو الآن ليس فقط كيانا محتلا وانما مُلاحق قانونيا ووجوده غير شرعي لارتكابه جرائم ابادة و أخرى .

استمرار امريكا ودول الغرب بدعم اسرائيل رغم كونها ”دولة احتلال ومدانة و طالبة أممياً بالتزامات قانونية، و”دولة” مدانة بجرائم ابادة وحرب، هو ترسيخ فاضح لما دأبت عليه امريكا في تطبيق ”ازدواجية المعايير “.

كيف سيكون سلوك نتنياهو وهو في الحكم؟ بعد سقوطه الاخلاقي، سقط نتنياهو سياسياً ودبلوماسياً بضربة قاضية سددّها له المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية. سقوط على المستوى الداخلي والدولي .

قرار المحكمة سيحرّر نتنياهو مما بقي من قيود على يديّه تجاه غزّة وخاصة رفح. سيصّعد من عملياته العسكرية، ولا يمنعه او يوقفه غير صلابة المقاومة و فداحة الخسائر التي يتكبدها جنده. ربما ادرك حزب الله هذا المُتغيَّرْ المتوقع في سلوك نتنياهو، فصعّد من عملياته في شمال فلسطين ومنذ اسبوعيّن تقريباً، تصعيد نوعي على مستوى السلاح الجديد الذي أُدخِلْ إلى المعركة وعلى مستوى العمق الجغرافي في الاستهداف، وكأن حزب الله يوصل رسالة تحذيرية لنتنياهو ”إن تماديت في رفح سيكون لنا رّدْ آخر”، مع الإشارة إلى أنَّ رسائل حزب الله موجّهة، ليس فقط لنتنياهو، وانما لأمريكا خاصة، وكلاهما شركاء في الحرب .

قرار المحكمة الجنائية الدولية قرار تاريخي، بكل ما تعني الكلمة؛ فهو تعزيز لنضال الشعب الفلسطيني ومطالبات شعوب العالم الحرّة، واضاف هذا القرار كما ذكرنا أعلاه وصفا آخر قبيحا لإسرائيل؛ لم تعدْ فقط ”دولة احتلال”، وانما دولة تمييز عنصري ومجرم حرب وابادة وضد الإنسانية هذه الأوصاف ستكون ملازمة لإسرائيل وللدول الداعمة لها .

غداً او بعد غد ستتحرر فلسطين وستكون دولة، وسيكون تاريخها نضالا وكفاحا وتعرّضا لجرائم ابادة. ولكن لن تتحرر اسرائيل من تاريخ كيان مغتصب مُحتلْ ومرتكب لجرائم الابادة والتجويع والتهجير القسري، وإن البسوها زوراً ثوب ضحايا النازية. أقول زوراً لأنّ هذا الثوب، ورغمَ ما لحق به من بُقع، فهو يخصُّ اليهود وليس اسرائيل.

*سفير عراقي سابق رئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات بروكسل

اضف تعليق