q
تعديل قانون الانتخابات على مدار السنوات والدورات الانتخابية الماضية، كان الهدف منه الحفاظ على مكاسب القوى والاحزاب السياسية التقليدية، وهي بالتأكيد لا تريد مغادرة هذه المكاسب التي حققتها على مدار العشرين سنة الماضية بقانون انتخابي عادل وناضج، يضمن حق الجميع في الترشيح الفردي والتحالفات، ويلامس...

لعل الانتخابات التي تشهدها الديمقراطيات المعاصرة ليست هدفًا في حد ذاتها، وإنما هي آلية لتحقيق مقاصد أعلى، يرتبط بها ما يمكن تسميته فاعلية الانتخابات الديمقراطية، أي ما يترتب على الانتخابات من نتائج حقيقية ملموسة، أو ما تؤديه الانتخابات من وظائف فعلية في ضوء المقاصد التي أجريت الانتخابات من أجلها. 

من هنا تأخذ الانتخابات أهمية كبيرة من خلال دورها في تكريس الخصائص الرئيسية للحكم الرشيد مثل المشاركة السياسية وإضفاء الشرعية والمساءلة وتحقيق الإصلاح. ويُعرف الإصلاح: "بأنه تغيير القيم وأنماط السلوك التقليدية، ونشر وسائل الاتصال والتعليم، وتوسيع نطاق الولاء، بحيث يتعدى العائلة والقرية والقبيلة ليصل إلى الأمة، وعقلانية البنية في السلطة، وتعزيز التنظيمات المتخصصة وظيفيا، واستبدال مقاييس العزوة والمحاباة بمقاييس الكفاءة، وتأييد توزيع أكثر إنصافًا للموارد المادية والرمزية". بينما يتعلق مفهوم الإصلاح الانتخابي بشكل أساسي، على عموميته، بتحسين مستويات استجابة العمليات الانتخابية لتطلعات وآمال المواطنين. إلا أنه لا يمكن اعتبار أية عملية للتغيير على أنها من قبيل الإصلاح الانتخابي، إذ لا يمكن اعتبار عمليات التغيير إصلاحًا إلا عندما تهدف بشكل أساسي إلى تطوير وتحسين الانتخابات، من خلال تعزيز مزيد من الحياد فيها مثلا، أو الشمولية، أو الشفافية وكذلك النزاهة والدقة.

في ضوء ذلك، يتبادر إلى أذهاننا التجربة الديمقراطية العراقية وما رافقها من عمليات انتخابية على مستوى السلطة التشريعية أو على مستوى مجالس المحافظات، التي اجريت بقوانين انتخابية مختلفة، ويكاد أن يكون لكل دورة انتخابية قانون انتخابي جديد، يتم الاتفاق عليه من قبل القوى السياسية قبل تشريعه في البرلمان العراقي، بما يناسبها ويعكس تطلعاتها الحزبية ومصالحها الانتخابية وأهدافها السياسية الضيقة، بعيدًا عن ابجديات الإصلاح والإصلاح الانتخابي والعمل السياسي، ولعل ما وصلت له العملية السياسية العراقية من تراكمات وأزمات سياسية وعدم استقرار وجمود سياسي، كانت بسبب الاجراء الشكلي الذي قامت عليه كل الدورات الانتخابية السابقة؛ لكونها لم تلامس إرادة المواطن الحقيقية ولم تتطلع إلى المعالجة السياسية الحقيقية في تقويض سلبيات العمل السياسي وتراكمات التجربة الفتية، وتعزيز ثقة الشعب والجماهير بها، بموازاة تعزيزها للاستقرار والحكم الرشيد والإصلاح الوطني الهادف إلى اقناع المواطنين بالتجربة الديمقراطية بكل مفاصلها. 

بهذا الاتجاه تتضارب وجهات النظر داخل "الإطار التنسيقي" بشأن عدد من الملفات، أبرزها طريقة التعاطي مع حكومة محمد شياع السوداني وتعديل قانون الانتخابات وتوزيع المحافظات على القوى الفائزة. ويعد ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الاسبق السيد نوري المالكي، أبرز القوى السياسية الشيعية التي تطالب بتعديل قانون الانتخابات الحالي (سانت ليغو) والرجوع إلى قانون الدوائر المتعددة، الذي أنتج الحكومة الحالية وادخل الدولة والعملية السياسية في أزمة استمرت إلى أكثر من سنة وكادت ان تودي بهما، لولا تدخل السيد الصدر واعلان انسحابه من البرلمان والعملية السياسية. إذ يرى المالكي أن الافكار تتمحور حول الدوائر المتعددة والفائز الأكبر وموعد اجراء الانتخابات المبكرة التي نص عليها البرنامج الحكومي، مطالبًا بعدم مشاركة المسؤولين التنفيذيين في الانتخابات، أو اعلان استقالتهم قبل 6 أشهر من إجراء الانتخابات؛ لكي لا يستغلوا موارد الدولة في الدعاية الانتخابية، كما حصل في البصرة وواسط وكربلاء (حسب تعبيره).

 إلا أن بعض المصادر تؤشر على مقاصد المالكي بوضوح، في إشارة منها إلى قطع الطريق على السيد السوداني وفريقه السياسي من المشاركة في الانتخابات القادمة، والحصول على ولاية ثانية، ولاسيما أن السوداني أخذ مساحة سياسية واسعة خلال الفترة الماضية في ظل تحركاته ونشاطه السياسي والحكومي على المستوى الشعبي والوطني، سواء فيما يتعلق بعلاقته مع شركاءه السياسيين من (السنة والكرد) أو من خلال علاقته مع كل القوى السياسية الشيعية وطريقة تعاطيه مع المحافظين الفائزين وأزمة اختيارهم "لولاية أخرى" وطبيعة تشكيل المجالس المحلية، ولاسيما في محافظات كربلاء وواسط والبصرة؛ الأمر الذي قد يؤثر أكثر مما ينبغي في ازاحة الاحزاب التقليدية وزعامات الجيل الاول، وفسح المجال إلى قيادات الجيل الثاني في الفترة القادمة.

 ويبدو بأن فشل الإطار التنسيقي في الحفاظ على تماسكه السياسي فيما يتعلق بتقسيم المحافظات الشيعية بين قواه السياسية، أثارت حفيظة دولة القانون؛ مما دعاها إلى المطالبة بتغير قانون الانتخابات الحالي وارجاعه إلى الدوائر المتعددة، ولاسيما أنها الوحيدة من بين قوى الإطار التنسيقي التي حافظت على مقاعدها النيابية تقريبًا في قانون الدوائر المتعددة، إلا أن مشروع السيد الصدر والتحالف الثلاثي، ربما كان الضاغط الأكبر في تغيير اولوياتها بما يتناسب مع قانون سانت ليغو، وتطلعات القوى السياسية الشيعية الأخرى. 

إنَّ تعديل قانون الانتخابات على مدار السنوات والدورات الانتخابية الماضية، كان الهدف منه الحفاظ على مكاسب القوى والاحزاب السياسية التقليدية، وهي بالتأكيد لا تريد مغادرة هذه المكاسب التي حققتها على مدار العشرين سنة الماضية بقانون انتخابي عادل وناضج، يضمن حق الجميع في الترشيح الفردي والتحالفات، ويلامس رغبة وإرادة المواطن وخيارتهم السياسية؛ لذلك دائمًا ما تطالب تلك القوى بتعديل قانون الانتخابات بما يتناسب مع تطلعاتها ووضعها السياسي، في حين أن الانظمة الانتخابية في الانظمة ذات التحول الديمقراطي دائمًا ما تستهدف المجتمع والجماهير وزيادة المشاركة السياسية ومعالجة العزوف الانتخابي في تعديل قوانينها الانتخابية.

 لهذا فإنَّ تعديل قانون الانتخابات لابد أن يكون بعيدًا من منظور السلطة والاحزاب السياسية، وقريب من منظور المختصين وبما يتناسب مع مفهوم وبناء الدولة الحديثة وتطلعات الشعب على المستوى الوطني، وبما يضمن رفع نسبة المشاركة السياسية ويقلل من نسبة العزوف التي اصبحت بمثابة الآفة التي تهدد الشرعية السياسية للانتخابات والنظام السياسي العراقيين؛ ونتيجة لذلك ظهرت بعض الاصوات التي تطالب بتضَّمن آليات الانتخاب في الدستور العراقي؛ لكي لا يكون آلية سهلة تتحكم به المزاجات السياسية الماسكة للسلطة بما يتناسب مع رغباتها ومكاسبها السياسية، ولاسيما أنّ كل التعديلات التي أُجريت على القوانين الانتخابية منذ عام 2005 وحتى اليوم، لم تنتج لنا حكومات قوية ومستقرة ولا ائتلافات أو تحالفات متماسكة.

 على العكس من ذلك، فإن التعديلات الانتخابية المتكررة، دائمًا ما ترسل رسائل سلبية إلى المجتمع والجمهور؛ لهذا كانت ظاهرة العزوف والمقاطعة للانتخابات ترتفع بشكل تصاعدي مع كل دورة انتخابية جديدة؛ الأمر الذي يضعف من شرعية الحكومات والنظام السياسي أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، ولا يحقق الرغبة المجتمعية في تعزيز ثقتها بالنظام السياسي والوصول إلى الحكم الراشد الذي يعزز بدوره الثقة بين مكونات المجتمع العراقي ويقوض من التصدع الحاصل بين الشعب والاحزاب السياسية من جهة، وبين الشعب والنظام السياسي من جهة أخرى.

 فاغلب النماذج الديمقراطية، ولاسيما في تجربة الانظمة ذات التحول الديمقراطي، تسعى بشكل حثيث لجعل النظام الانتخابي يعكس إرادة الناخب ويقترب أكثر من المفهوم التقليدي للديمقراطية، على العكس من التجربة العراقية، فقد أسهمت الأنظمة الانتخابية في حسم نوع النظام السياسي، فضلًا عن تأثيرها في خارطة الأحزاب السياسية للبرلمان العراقي من عام 2005 وحتى الآن، فضلًا عن آثارها البالغة فيما يتعلق بقضايا إدارة الحكم التي انعكست بدورها على عمل المؤسسات السياسية. لهذا فإن انجاح عملية بناء الديمقراطية تعتمد بنسبة كبيرة على جملة من المستلزمات، من بينها إصلاح النظام الانتخابي والقيام بالإصلاحات الدستورية والقانونية الأخرى، بما ينسجم ومتطلبات عملية التحول الديمقراطية في العراق.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2024

www.fcdrs.com

اضف تعليق