q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الزوجة الثانية

مذكرات قابلة للنسيان -17-

أحيانا يعطي الإنسان أهمية لنفسه قد تكون أكثر مما يستحق، هكذا كنتُ دائما، أتخيّل بأنني مهم، والآخرون لاسيما الأهل، ينظرون لي بمنظار الشخص الذي يحتاجون إليه دائما، وهذا الشعور هو الذي دفعني للهرب من البيت عندما عرفتُ بأن أبي يروم الزواج من امرأة أخرى...

أحيانا يعطي الإنسان أهمية لنفسه قد تكون أكثر مما يستحق، هكذا كنتُ دائما، أتخيّل بأنني مهم، والآخرون لاسيما الأهل، ينظرون لي بمنظار الشخص الذي يحتاجون إليه دائما، وهذا الشعور هو الذي دفعني للهرب من البيت عندما عرفتُ بأن أبي يروم الزواج من امرأة أخرى، وكلّ تصوّري أن الفرار ثلاثة أيام كافية بأن تردع أبي عن الزواج الثاني.

هذا ما أعلنه أبي للجميع، حين قال بأنه تخلّى عن فكرة الزواج، وهذا جعل أمي في سعادة لا توصَف، فبعد شعورها بالانكسار والذبول، عادت ينابيع الحياة تتورد في وجهها.

وهكذا ساد اعتقاد بيننا نحن أفراد العائلة بأن أبانا ترك فكرة الزواج الثاني إلى الأبد، وأن ليلتين وثلاثة نهارات من فرار ابنه الكبير كافية لإقناعه بالكف عن التفكير بالزواج من امرأة ثانية، والحقيقة أننا جميعا وثقنا به، خصوصا عندما أعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وكرّر للأقارب أكثر من مرة بأنه لا يمكن أن يجمع زوجة أخرى مع (أم علي)، فهي لا تستحق أن تزاحمها امرأة أخرى، بعد أن عاشت حياة مضنية، وما هكذا تكون مجازاة الزوجات الكريمات الوفيّات.

في الوقت الذي ألغينا فيه مشكلة الزواج الثاني من عقولنا، وتصوراتنا، ورأينا أمي تُزهر مثل وردة الربيع، وتنمو، وتتمتع بصحة نفسية عالية، في هذا الوقت بالذات، كان أبي يخطط في السر إلى إخضاعنا جميعا للأمر الواقع، وهذا ما حدث بالفعل حيث حلّت بنا الكارثة من دون أن نتمكن من تفاديها أو الخلاص منها.

كنتُ عائدا من يوم عمل شاق استمر من الفجر حتى غروب الشمس، عدتُ مجهدا لكنني في غاية الفرح، فقد حصلت على مردود مالي مضاعف من عملي في بيع (الصمون/ الخبز)، بعد دوران متواصل في أزقة المدينة الفرعية، استمر ساعات النهار كلها، بعتُ فيه مئات الأرغفة، وحصلت على أرباح لم أتمكن من جمع مثلها في السابق، ولا أعرف كيف يمكن للدراهم أو للفلوس أن تحفر كل هذا الفرح في أعماق الروح.

فرح طفولي لم أعشه في السابق، تخيّلت بأنني سأمتلك العالم بدراهم ليست كثيرة جدا، وإنما ملأت نصف جيبي لا أكثر، تخيلتُ فرحة أمي عندما اضع في يدها ثلاثة دراهم وأقول لها هذه الدراهم لك وحدك، لا أحد يشاركك بها، ثم أعطي لأختي زهرة درهما سيكون لها وحدها ولا أحد آخر يشاركها به، بعد ذلك سوف أعطي الدراهم الباقية كلّها إلى أبي كي أساعده في إعالة الأسرة الكبيرة، في الحقيقة لم أفكر بنفسي، ولم يخطر في بالي أن احتفظ ولو بدرهم واحد، حتى أخوتي الذكور لم أتذكرهم، لأنهم قادرون على أن يتدبروا أمورهم.

همّي هو كيف أرضي أبي أولا، ثم كيف أُدخِل الفرحة في قلب أمي، وأشيعُ السعادة في قلب أختي الكبيرة زهرة، دخلتُ في الزقاق الذي يقودني إلى بيتنا، ورحتُ ممسكا في قبضة يدي بالدراهم الكثيرة، لم يكن هناك شيء غير عادي، الأصوات لم تتغير، زعيق أطفال مرتفع كالعادة، ولكن هناك أصوات غريبة بدأت تتدفق على سمعي وتصم أذنيَّ، في البداية لم أستطع فرز تلك الأصوات الغريبة عن بعضها، أتذكر إنني حين سمعتها رغم غرابتها لكنها أحدثت رجفة مباغتة في قلبي وأشاعت في روحي القلق.

ما هذه الأصوات التي لم تحدث في السابق في حي رمضان الذي نسكنه منذ سنوات، ما هو مصدرها، من أي بيت تنطلق، ثم بدأت أرى كثافة الأجساد كلما تقدمت أكثر إلى بيتنا، أكثرها أجساد لأطفال صغار أقل من عمري بكثير، ولكن ظلال هذه الأجساد الصغيرة بدت لي عملاقة ومخيفة، أجساد متشابكة بأذرع كثيرة تكاد تمتد إليّ وتخنقني، ومعها بدأت أفرز تلك الأصوات الغريبة التي سارعت من تدفقها نحو سمعي.

إنها أصوات زغاريد (هلاهل) لنسوة ذوات أصوات ناعمة حادة لها رنين صاخب، هلاهل كأنها تنبع من قلب بيتنا، أخذتْ تقترب مني تلك الأصوات وتحاصرني هي والظلال العملاقة لأجساد الأطفال، والتي بدأتُ أتخيَّلها وهي تتشابك أمام بصري وتمتد لتطوّق رقبتي، إنها تكاد تخنقني، هكذا شعرتُ وأنا أتقدّم نحو بيتنا، حاولتُ أن أستعيد تركيزي، بعد موجة الخوف التي دهمتني وتضاعفت مع كل خطوة جديدة أخطوها.

أصوات الهلاهل تعلو، تتضاعف، وأجساد الأطفال تتكاثر على نحو عجيب، كأنهم يولدون توّا من بطون أمهاتهم، عرايا بلا ملابس، تطلي أجسادهم أضواء خاملة لكنها كثيفة، فتبدو تلك الأجساد النحيفة كأنها مخالب حادة تريد أن تخترق جسدي.

جلستُ على مسافة من بيتنا، الأجساد تدخل وتخرج عبر الباب المفتوح، الأصوات لم تتوقف ولا تهدأ، لم أرَ شخصا واحدا أعرفه، كل الوجوه بدت واجمة، غريبة، كأنها تتشفى بي، وتتعمد إلحاق البؤس واليأس بكياني كله.

ذلك الفرح الكبير الذي حملته معي تفتّت وتلاشى كأنه غير موجود مطلقا، وتلك اللهفة للوصول إلى بيتنا، إلى أبي وأمي وأختي زهرة لم يعد لها وجود، نهضتُ مرتبكا خائفا متعثّر الخطوات، سرتُ نحو باب بيتنا، الدراهم التي مسكتها في قبضة يدي بدأت تتساقط خلف بعضها، كأنها تضيع مني أمام عيني، غابت فرحتي بها، لم أعد أتذكر أهلي، ما أتذكره وأريد أن أعرفه الآن هو شيئا واحدا، ما سرّ هذه الأصوات الغريبة التي تنطلق من عمق بيتنا.

وصلتُ إلى باب البيت، أحاطت بي خيالات أجساد الأطفال، تحلَّقتْ حول رقبتي، وحجبت بصري، لم أعد أرى شيئا، الأصوات النسوية الصاخبة وحدها تنقضّ على سمعي وقلبي، تسلبُ روحي، حاولت بالكاد أن أبعد أجساد الأطفال عن عيوني، مسحتُ بعضا من خيالاتهم، نافذة صغيرة بحجم عدسة العين انفتحت أمامي، جعلتني أرى ما يدور في الغرفة التي كانت هادئة وفقيرة منذ أن غادرتها فجر اليوم إلى العمل.

رأيتُ جسد امرأة يتلوى في قلب الغرفة، وحوله تدور أجساد الأطفال لذكور وإناث بأعمار مختلفة، كففْتُ نفسي عن التحديق، لم أصدّق بصري....

ماذا أرى؟، هل هذه التي ترتدي ثوبا أبيض هي أمي؟، أمر لا يكاد يصدقه عقلي، ولماذا تضرب الأرض بهذه القوة، ثم كيف لهذه الدموع تتدفق من عينيها وكأنها أنهار تغصُّ بالماء، تقدمتُ داخل البيت، نحو الغرفة، إلى جسد أمي، حين رأتني أنظر إليها، زادت من ضرب الأرض بأقدامها، وزاد تدفق الدمع من عينيْها، وسمعتها بوضوح وهي تصرخ: هيا افرحْ معنا يا ولدي، هيا إنه عرس أبيك، لقد حقّق حلمه، إنه أبونا كلّنا، وعلينا أن نفرح في عرسه.

سمعتُ نبرة صوتها، إنه صوت أمي فعلا، ولكنها ليستْ فرِحة، إنها حزينة، مقهورة، غاضبة، ولكن غضبها يمور ويحتدم في داخلها، في أعماقها، ولا يراه الناس الآخرون، أما أنا فقد رأيته، كأنه جمرة نار ملتهبة تشتعل في أعماقها، ولكن الغريب حقا، تلك الخفة العجيبة التي اجتاحت جسدها، كأنها تريد أن تفرّغ غضبها بهذه الحركات القوية المتواصلة لجسدها، وفي نفس الوقت تضرب الأرض بقدميْها كمن تريد أن تقتصّ من شخص أحرق قلبها.

قلتُ لنفسي (لقد فعلها)، وأقصد بذلك أن أبي تزوج من امرأة ثانية، بشكل مباغت وسرّي، و وضعنا أمام الأمر الواقع الذي لا مفر منه، كأنه يقول لنا، أو لي أنا بالذات: لقد تزوجتُ من امرأة غير أمك، ويمكنك أن تفعل ما تشاء، فما حلمتُ به سنينا أصبح الآن حقيقة.

تقدمتُ نحو أمي، احتضنتها بذراعيَّ، ضممتُ رأسها إلى صدري، أذعنتْ لي بعد أن تصلّب جسدها في بداية الأمر، وكادت ترفض تقرّبي منها، كانت تريد أن تواصل ضرب الأرض بقدميْها، وتريد أن تواصل تفريغ الغضب من أعماقها، في حين كان الأطفال والصبيان المراهقون يظنون بأنها تعيش الفرح الحقيقي، فأخذوا يصفقون أكفّهم ويزعقون بأصوات طفولية ناشزة، وهم لا يعلمون حتما بتلك النيران الغاضبة التي كانت تلتهم أحشاءها من الداخل.

نظرت لي بحزن وقالت: لقد تزوّج أبوك، وفعل ما يرده منذ سنوات، عليك أن تفرح، هيا عليك أن تُظهر فرحك في يوم كهذا، إنه أبوك وهو يستحق أن تفرح له.

كانت تتكلم وتبكي في نفس الوقت، قلتُ لها: لن أفرح له، هذه الزيجة حدثت غدرا.

سحبتها من يدها خارج دائرة الأجساد الزاعقة، حاولت أن أعثر على مكان منعزل يضمنا أنا وأمي، لكن هذا محال في مثل هذه الليلة التي اكتظّ فيها البيت الفقير بعشرات من الأجساد الظامئة للفرح حتى لو كان على حساب قلوب ومشاعر وكرامة الآخرين.

لمحتُ أختي الكبيرة زهرة في زاوية الغرفة جالسة على الأرض، تختفي وراء سيقان الأجساد، وتنظر نحوي كأنها لا تراني، أشرتُ لها بالنهوض لكنها لم تفعل، سحبتهما هي وأمي خارج الغرفة إلى فناء الدار، ثم إلى خارجه.

هذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها أمي من بيتها وهي تردد: لن أعود لهذا البيت مرة أخرى. أما زهرة فكانت صامتة، مقهورة، في عينيها عرّش حزن كثيف، تنظر إلى بيت العائلة وكأنها فقدته إلى الأبد، كنا نحن الثلاثة نسير بلا هدى، لا أمي تعرف اين نذهب، ولا زهرة كذلك، ولكنني كنتُ أعرف ما علينا فعله من اليوم فصاعدا، فالطريق أمامي صار واضحا وضوح الشمس.

اضف تعليق