q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

صورة شمسية

مذكرات قابلة للنسيان الحلقة 16

أفكّر أن أظهر في هذه الصورة بطريقة سينمائية، في لقطة حركيّة مختلفة، وأعود بها إلى بيت عمّتي، علَّ قبيلة تراها وتُعجَب بها، كنتُ أفكر أيضا بصديقي قاسم الذي صفعه مدرّس الجغرافية قبل أيام وفرَّ من الصف ولم يعدْ مرة أخرى للمدرسة، لو كان موجودا معي لاستشرته حول أخذ هذه الصورة...

الكاميرا الشمسية تقف على ثلاث أرجل من الخشب، في الأمام تطل عدستها الفضية المائلة للعتمة، ومن الخلف يتدلى خرطوم من القماش الأسود، وأثناء التصوير يختفي رأس المصوِّر في داخل هذا الخرطوم، كي يُكْمِل اللقطة بعيدا عن ضوء الشمس، في الليلة الفائتة، فكرتُ كثيرا بأخذ صورة لي، تشبه صور الممثلين.

أفكّر أن أظهر في هذه الصورة بطريقة سينمائية، في لقطة حركيّة مختلفة، وأعود بها إلى بيت عمّتي، علَّ قبيلة تراها وتُعجَب بها، كنتُ أفكر أيضا بصديقي قاسم الذي صفعه مدرّس الجغرافية قبل أيام وفرَّ من الصف ولم يعدْ مرة أخرى للمدرسة، لو كان موجودا معي لاستشرته حول أخذ هذه الصورة، وهل هي ضرورية أم لا، ولماذا أشعر بحاجتي الشديدة لها؟

تُرى هل يمكن لمثل هذه الأشياء البسيطة أن تجعل الإنسان يثق في نفسه أكثر، وهل يمكن لفتاة أن تحبني لمجرد أن ترى صورتي التي قد تكون أسوأ من وجهي الحقيقي ومن شخصيتي الفعلية؟

حين أخرج المصوِّر رأسه من خرطوم القماش الأسود، بدا كأنه خرج من بئر عميقة، أو من منجم للفحم، ظهرَ وجهه مجهدًا عبوسًا وربما متعَبًا، لدرجة أنه لم يرد على طلبي حين سألته:

- أريد أن تأخذ لي لقطة سينمائية!

أشاح بوجهه جانبا، بعد أن رمقني بنظرة غامضة لم أفهم منها أي شيء، ومع ذلك حاولت أن أحصل على اللقطة السينمائية الجانبية لوجهي، في وقتها لا أعرف لماذا بذلتُ جهدا بالسير مشيا على الأقدام من منطقة سكني إلى مركز المدينة حتى لا أدفع أجرة النقل، وأحتفظ بها كثمن للصورة التي نويت الحصول عليها من هذا المصوّر الوحيد الذي ينصبُ كاميرته على رصيف الشارع الرئيس للمدينة.

كنتُ أظن أن السمار الشديد، أو السواد الذي يطلي بشرتي سوف يتحول في الصورة إلى بياض، حاولت أن أرى وجهي بلون آخر، فكرتُ كثيرا بوجوه الطلبة الأغنياء في صفّي الدراسي، وتساءلت مرارًا، لماذا وجوههم معافاة تفوح بالغنى والثراء و وجهي يقطرُ فقرا، لذا أردت بكل وسيلة أن أرى وجهي بلون آخر، والأهم من ذلك أن تراني قبيلة في لقطة سينمائية لا شبيه لها، أريد أن أكسب قلبها، إعجابها، لهذا السبب قطعت ثلاثة كيلومترات من الحيّ الذي أسكنه إلى مركز المدينة مشيًا حتى أوفّر ثمن الصورة.

أنهى المصوِّر عمله، وسلّم الصور التي التقطها للزبون الذي سبقني، لم يبق أحد غيري، أنا الوحيد مع المصور، لكنه لم يبادر بأخذ اللقطة المطلوبة لي، بل لم يسألني ماذا أريد، وحين بادرت وسألته هل يمكن أن يلتقط لي صورة جانبية، لم يجبني كأنه لم يسمعني.

ليس هناك مصور غيره سوى المحل أو الاستوديو الحديث وكان اسمه (استوديو الجماهير)، أسعاره مرتفعة جدا، لا يمكن لي أن ألتقط عنده صورة، لذا تمسكت بمصوِّر الكاميرة الشمسية ذات الخرطوم الأسود، وأخبرته مرة أخرى وبنبرة صوت أعلى (أريد لقطة سينمائية جذّابة).

لأول مرة أرى وجه المصور العابس يتغيّر، تبسَّم قليلا، وسألني، هل تحب التمثيل، فأجبته نعم أتمنى أن أكون ممثلا، ثم قال ما نوع اللقطة التي ترغب بها، فأخبرته أريد لقطة جانبية لوجهي مثل تلك اللقطات التي يظهر بها المشاهير، فسألني وماذا تفعل بهذه الصورة؟

لم أقل له أريد أن تراها قبيلة، ولم أجب عن سؤاله، وبقيتُ صامتا، فطلب مني الجلوس على طاولة الخشب الصغيرة المتهالكة، ثم اقترب مني وعدَّل من جلستي، وعدَّل من انتصاب قامتي واعتدال عمودي الفقري، وأدار أكتافي أكثر من مرة، وحرّكَ وجهي ذات اليمين وذات الشمال، ولم يستقر على حال، كأنه كان يخشى الفشل في إخراج صورة لي تضاهي صور المشاهير، عندها رأيتُ حيرته وتردده، فأخبرته إن الأمر ليس مهمًّا إلى هذه الدرجة، وأنني لا أعترض على الصورة حتى لو لم تشبه صور الممثلين.

عاد إلى الكاميرا و وقف خلفها، قال: لا أظن أن سواد بشرتك سوف يُزال، أو يتغيّر نحو البياض، الأمر يتطلّب كاميرا من نوع حديث، يمكنك الذهاب إلى استوديو الجماهير، فقلت له لا أمتلك الكثير من المال، حينها سمعته يقول كلاما قريبا مما قالته لي قبيلة سابقا، أخرج رأسه من خرطوم القماش الأسود و وجَّهَ كلامه لي وقال: الناس بقلوبها وليس بصورها، حاولْ أن يكون قلبكَ أبيض وليس وجهك.

ضاع رأسهُ مرة أخرى في الخرطوم الأسود، لم أعد أراه، خيَّم عليه الصمت والسكون، لم أرَ يده تتحرك، ولا رأسه ولا وجهه، كنت منشغلا بلون بشرتي، و بقبيلة أيضا، وبالصورة، كيف ستخرج، هل ستعجبها أم لا، ثم سمعتُها وهي تقول أكثر من مرة لي: الناس ليس بأشكالهم بل بقلوبهم.

أنا قلبي أبيض، هكذا أخبرتها، لكنها وجدت في أحد أقاربها شريكا لحياتها، حدث هذا بعد سنوات من رؤيتها لصورتي التي كان سوادها أكثر من حقيقتي، ظهر فيها وجهي خائفا مخطوفا، سمارهُ غامقا، وأنفي كبير إلى درجة مفزعة، حتى أنا لم أصدق ما رأيته في اللقطة السينمائية التي لم تعجب أي شخص رأى الصورة من أهلي أو أصدقائي أو حتى قبيلة، عدتُ بائسا مصدوما، بعد أن أعطيت للمصور مبلغ 25 فلسا، قطعتُ المسافة من مركز المدينة إلى الحي الذي اسكنه مشيّا مثقلا بخيبة هائلة.

أتذكر الحوار اللذيذ الذي دار بيني وبين قبيلة، بعد أن رأت صورتي وتبسّمت، سبقت اسمي بكلمة (سيد) وقالت:

- أنت لا تحتاج لهذه الصورة، أنت تحتاج إلى شيء آخر تماما.

سألتها:

- ما هو؟

- تحتاج إنسان يدخل في أعماقك، ويقرأ قلبك جيدا.

لم أفهم قصدها لكنني مع ذلك سألتها:

- وأين أجد مثل هذا الإنسان؟

قالت بهدوء:

- أنت لن تعثر عليه، فمن يرغب بك هو الذي يعثر عليك....

صدمتني قبيلة بهذا الكلام الذي لم اسمع مثله سابقا، كلام واضح، ولكن لم أسمعه من قبل حقا، كأنها تفوق عمرها حكمةً وتفكيرا، ثم عرفتُ بعد أيام بأنها عثرت على الإنسان الذي ترغب به، وربما هو الذي عثر عليها أولا، فصار لزاما عليَّ أن أحذفها من ذاكرة الحب التي تكدَّست فيها عشرات الأحلام والتخيّلات لدرجة أنني كنتُ أمني النفس بمشاركتها العمر كله.

عدتُ أدراجي إلى بيتنا البعيد في حي رمضان، كانت صوري الخمسة تسكنُ في جيب قميصي كأنها شيء غريب عني، لا يمثلني، أكلتني الحسرة وأنا أفكر بالثمن الذي دفعته مقابل الحصول على صور ظهرت فيها بشرتي أكثر سوادا، وصلتُ إلى البيت، استقبلتني اختي الكبيرة زهرة، وقبل أن ترد سلامي قالت: اين صورتك السينمائية هل أكملتها؟

مددتُ يدي إلى جيبي وأخرجتُ لها إحدى الصور، وما أن رأتها حتى غمر وجهها سواد عجيب، أو نوع من الحزن المباغت، ثم قالت هذه لا تشبهك قطّ، أنت أجمل بكثير من هذه الصورة، وأنفك اصغير بكثير مما يظهر في الصورة.

حاولتْ زهرة أن تقبّل جبيني وتخفّف من وطأة الخيبة، رأيتُ دمعتين تموجان في عينيها، كنتُ قد أخبرتُ اختي عن نيّتي بالذهاب إلى المدينة، وإنجاز مهمة الصورة السينمائية، وأخبرتها لماذا أريد أن ألتقطها، وساعدتني بجزء من المبلغ، ثم قالت لي من باب التحذير والتذكير: قلب قبيلة طار بعيدا وحطَّ في بغداد، فلا تتعب نفسك.

لكنني لم أقتنع بما قالته، غريب هذا الإنسان، حين يهيمن عليه إحساس يعتقد أنه صحيح مئة بالمئة، لكنه يعرف بعد حين بأنه إحساس خاطئ، وأن نفسه كانت تخدعه كثيرا، ولكن أيعقُل أن كل ذلك اللطف والاهتمام من قبيلة بي، لم يكن نوعا من الحب؟

لقد غمرتني قبيلة طوال سنوات بإعجاب هائل، ولطالما أشادت بنجاحي في العمل والدراسة والتميّز في السلوك، والشخصية، كانت قبيلة تقول لي: (أنت يا سيد علي طيب القلب لكن نقصك الوحيد أنك تحلم كثيرا، لا تحلّقْ عاليا يا سيد علي).

بعد شهور مرت على التقاطي لصورتي السينمائية، لم يبق منها أثر، مزقتُ بعضها، وأضعتُ بعضها الآخر متعمّدا، وفعلا فقدتُها جميعا، لكنها في الحقيقة لم تُضِعْ من ذاكرتي مطلقا، بَقِيَت معي بتفاصيلها الدقيقة، بسمارِها الشديد أكثر من سماري الحقيقي، وبالأنف الكبير الذي يفوق بحجمه أنفي الحقيقي، وغالبا تذكرني هذه الصورة المفقودة بقول قبيلة (الناس ليسوا بأشكالهم بل بقلوبهم).

اضف تعليق