q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

غزة وميزان العدالة

إذا افترضنا صدور قرار من المحكمة يحمّل إسرائيل المسؤولية، فإن الاحتمال الأكبر هو عدم امتثالها له، وعند الطلب من مجلس الأمن إلزامها بتنفيذه، ستقوم الولايات المتحدة باستخدام حق الفيتو، ومع ذلك، فإن الأثر القانوني سيكون بالغ الأهمية من حيث تداعياته الاقتصادية والأمنية، فضلاً عن جوانبه، النفسية والمعنوية، والتي ستُظهر إسرائيل باعتبارها دولة مارقة خارج القانون...

في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2023، تقدمت دولة جنوب أفريقيا بدعوى إلى محكمة العدل الدولية، اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق سكان غزّة، بما يُعدّ انتهاكاً سافراً للاتفاقية الدولية بشأن منع الإبادة الجماعية، ومعاقبة مرتكبيها. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت الاتفاقية المذكورة بالإجماع في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1948، ودخلت حيّز النفاذ في 12 يناير/ كانون الثاني 1951.

ثمة التباسات وخلط يحدث أحياناً، بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فالأولى هي الذراع القضائية للأمم المتحدة، وتتألف من 15 قاضياً، يتم انتخابهم لمدة 9 سنوات من قبل الجمعية العامة، وهي مختصة بحل النزاعات بين الدول، وتفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية؛ أما الثانية، فقد تأسست في روما عام 1998 ودخلت حيّز النفاذ في عام 2002، وهي تختص بمحاكمة الأفراد الذين يقومون بارتكابات جسيمة لحقوق الإنسان. وسبق لي أن زرت المحكمتين في مقرهما بلاهاي.

مارست جنوب إفريقيا واجبها القانوني والإنساني، حين توجهت إلى محكمة العدل الدولية، استناداً إلى الاتفاقية الدولية المشار إليها، فيما إذا اعتقد أحد الأطراف أن طرفاً آخر فشل في الامتثال لالتزاماته، فيمكنه إقامة دعوى ضدّه لتحديد مسؤولياته، علماً بأن المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، تنص أن على جميع أطراف النزاع الامتثال لقرارات المحكمة، وإذا لم يمتثل أحد الأطراف، فيجوز للطرف الآخر اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لتنفيذ القرار، وبالطبع، فإن من واجب المحكمة البت في استكمال هذا الطلب للشروط القانونية، وبالتالي الحكم بما يُلزم الأطراف الامتثال له، كما حصل في قضية النزاع بين البوسنة وصربيا (عام 1996).

انعقدت المحكمة يومي 11 - 12 يناير/ كانون الثاني 2024، وقدّمت جنوب إفريقيا لائحة مؤلفة من 84 صفحة، قامت فيها بتوصيف الجرائم المرتكبة، بالاستناد إلى توفر الركن المعنوي (النية في ارتكاب الجرائم وفقاً لتصريحات رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي وعدد من المسؤولين الآخرين)، إضافة إلى توفر الركن المادي، الذي يتلخّص في طلب السلطات الإسرائيلية من السكان المدنيين الرحيل إلى جنوب القطاع، ثم قامت بإنزال العقاب الجماعي بهم، الذي يندرج في إطار الإبادة الجماعية لمجموعة بشرية عرقية باستهداف وجودها.

وحيثيات ذلك: القتل، والتسبب بإلحاق أذى، عقلي وجسدي بالسكان، والإجلاء القسري، وانتشار المجاعة والجفاف، وإعاقة وصول المساعدات الإنسانية، وقطع الماء والكهرباء والوقود عن القطاع، والفشل في توفير ما يكفي من النظافة والصرف الصحي، والرعاية الطبية، والتسبب بتدمير الحياة، بتهديم البنية التحتية للمدارس والجامعات والمكتبات والمرافق العامة، وتعريض النساء إلى العنف الإنجابي، وما يتعرض له المواليد الجدد والرضع والأطفال، حسب ما ورد في لائحة الدعوى.

وتكمن أهمية دعوى جنوب إفريقيا في أنها رسالة إلى الطرف المنتهِك، بأن المجتمع الدولي لن يتسامح مع تلك الأفعال التي قام بها، وسيعمل على مساءلته، لذلك كان رد الفعل الإسرائيلي غاضباً ضدّ جنوب إفريقيا، باتهامها بالدفاع عن عنصريين يريدون «إبادة اليهود»، لاسيّما بعد عملية طوفان الأقصى، كما قالت الدفوعات الإسرائيلية في المحكمة.

ومن المتوقع أن تصدر المحكمة أمراً قضائياً عاجلاً بوقف إطلاق النار (ربما في غضون الأسبوعين المقبلين)، لحين البتّ في القضية، الذي قد يستغرق عاماً، أو أكثر (كما حصل في قرار المحكمة بشأن عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري 2004).

وإذا افترضنا صدور قرار من المحكمة يحمّل إسرائيل المسؤولية، فإن الاحتمال الأكبر هو عدم امتثالها له، وعند الطلب من مجلس الأمن إلزامها بتنفيذه، ستقوم الولايات المتحدة باستخدام حق الفيتو، ومع ذلك، فإن الأثر القانوني سيكون بالغ الأهمية من حيث تداعياته الاقتصادية والأمنية، فضلاً عن جوانبه، النفسية والمعنوية، والتي ستُظهر إسرائيل باعتبارها دولة مارقة خارج القانون.

.........................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق