يحتاج القضاء إلى الدعم الشعبي فهو السد المنيع ضد القوى السياسية التقليدية، وكل قرار تتخذه المحكمة الاتحادية مرهون بوجود أحزاب لها قدرة كبيرة على الاستجابة والتفاعل والدعم لترسيخ القيم الدستورية والقانونية على حساب القيم الفوضوية وسيادة قوة السلاح والمال في مجال العمل السياسي...
غضب زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود برزاني من قرار المحكمة الاتحادية الأخير القاضي بعدم دستورية إرسال 200 مليار دينار شهرياً إلى إقليم كردستان والتي كانت ترسل منذ عام 2021 وحتى نهاية 2022، فقد وصف المحكمة بأنها "محكمة الثورة"، في إتهام واضح بخضوع المحكمة للتسييس والزعم بأنها تصدر قرارات ظالمة كما كانت تفعل محكمة الثورة إبان حكم صدام حسين.
لماذا هذا الغضب السياسي من قرارات المحكمة الاتحادية؟
وهل فعلاً هي محكمة مسيسة؟
هل هناك أسباب غير معلنة في البيانات الرسمية تدفع القوى التقليدية لنقد المحكمة الاتحادية؟ ولماذا علينا كمواطنين الحذر من الانجرار وراء حملات النقد السياسي ضد القضاء العراقي؟
في البدء أتفهم غضب البرزاني من المحكمة الاتحادية، إذا اتُهمت سابقاً بجملة تهم من قبل مرشح الديمقراطي لرئاسة الجمهورية عام 2022 السيد هوشيار زيباري، كما ألمح زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر في أكثر من مناسبة لوجود ضغوطات سياسية ضد القضاء العراقي، وترتب على تغريدات السيد الصدر تظاهرة لأنصار التيار الصدري أمام بوابات مجلس القضاء الأعلى.
هذا ما يظهر بشكل علني وعبر البيانات والتصريحات الرسمية، لكن هناك أسباب أخرى تقف خلف غضب القوى السياسية من القضاء، ليس لأنه مسيس كما يقولون، ولا بسبب وجود قوى غير معروفة تتحكم بالقضاء.
نعم القضاء العراقي غير مقدس، وقد يخطئ في بعض احكامه، وحتى قد يتعرض لضغوطات سياسية لأننا في بلد لا تُحترم مؤسساته الدستورية، إلا أنه ما يزال قوياً وقادراً على فرض سلطته على السلطات الأخرى، وهذه القدرة القضائية على نقض الصفقات السياسية غير مقبولة بالنسبة للاحزاب التقليدية.
فهناك بعض القوى الناشئة استشعرت حجم القوة التي يمتلكها القضاء وعرفت أنها تستطيع تحقيق اختراقات كبيرة ضد القوى التقليدية إن هي التجأت إلى المحاكمة، وهذا ما يحدث في أكثر من مناسبة.
القوى التقليدية لا يعجبها وجود بعض القوى الناشئة التي تستطيع ضرب مشاريع المحاصصة وتقاسم والمغانم، على سبيل المثال كانت القوى السياسية قادرة على إبرام أي اتفاق سياسي، وتنفيذه بنوده حتى وإن كانت جميعها مخالفة للدستور.
سميت تلك المرحلة بنظام المحاصصة الحزبية والطائفية، يتم تقاسم الحصص وإبرام الصفقات والقيام بكل شيء بدون سند قانوني، السند الوحيد هو الاتفاقات بين الأحزاب والقوى التقليدية المهيمنة.
لكن في السنوات الأخيرة دخلت قوى جديدة بدأت تعكر صفو تلك الاتفاقات، إذ لم يعد الاتفاق بين الأطراف التقليدية بنفس بالسهولة التي جرت عليه العادة، فقد يصطدم بكتلة أو نائب برلماني يحرك دعوة قضائية يهدم بها أركان الصفقة.
وقرار المحكمة الأخير القاضي بعدم دستورية إرسال الأموال إلى إقليم كردستان قد ينطبق عليه هذا الأمر، فقد هدد أركان الاتفاق السياسي بين تحالف إدارة الدولة، وهو تحالف سياسي ضعيف يعيد انتاج المحاصصة يجمع القوى الكردية والشيعية والسنية أفضى إلى تشكيل حكومة السيد محمد شياع السوداني.
وهذا التحالف يشبه إلى حد كبيرة بناء منزل في أحد الأحياء العشوائية، لا تعرف متى تأتي جرافات السلطة لتهديمه، وعلى هذه الشاكلة تبنى كل الاتفاقات التي لا يحميها سند قانوني، وما تصدره المحكمة الاتحادية من قرارات يشبه حملة إزالة العشوائيات السياسية، أو تطويقها على أقل تقدير.
ومع استمرار عملية التطويق القضائي للصفقات السياسية نسمع اتهامات عدة للسلطة القضائية، إلا أن سوف يدفع - لو استمر بنفس القوة - الجماعات السياسية إلى التفكير بالتبعات الدستورية بشأن أي خطوة تتخذها حتى لا تقع بنفس الإحراج والهزيمة التي تعرض لها إقليم كردستان.
سوف يفكر الإقليم مستقبلاً بالثغرات القانونية لأي اتفاق سياسي قبل التوقيع عليه، وعلى نفس الطريق سوف تفكر الجماعات والقوى السياسية الأخرى بنفس الأسلوب إن هي أرادت إبرام اتفاق معين، لأن الثغرات القانونية تمثل أسلحة فتاكة بالنسبة للقوى الناشئة فتحيل الصفقات إلى رماد.
إنه تغيير جوهري في العمل السياسي العراقي، ويجب علينا الانتباه له، وعلينا كمراقبين للشأن العراقي أن نكون أكثر حذراً في حال سماع بيان إدانة سياسية لقرارات المحكمة الاتحادية، علينا أن لا ننجر إلى هذه الإدانات، بل من واجبنا مساندة القضاء، فهو الوحيد القادر على حمايتنا وحماية البلاد، وحتى إن كانت الحماية التي يوفرها لنا نسبية وغير كاملة.
يحتاج القضاء إلى الدعم الشعبي فهو السد المنيع ضد القوى السياسية التقليدية، كما أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق القوى الناشئة بتفعيل دور القضاء والعمل على تطويق العشوائيات السياسية إذا كانت راغبة في إصلاح الوضع الراهن.
وكل قرار تتخذه المحكمة الاتحادية مرهون بوجود أحزاب لها قدرة كبيرة على الاستجابة والتفاعل والدعم لترسيخ القيم الدستورية والقانونية على حساب القيم الفوضوية وسيادة قوة السلاح والمال في مجال العمل السياسي.
اضف تعليق