المخاوف تطال الاتفاق ليس بسبب دور إسرائيل أو المتشددين في الإدارة الأمريكية أو الكونغرس الأمريكي من خلال الضغط على إدارة بايدن، وإنما بسبب تعقيدات الوضع السياسي الداخلي في إيران، وما تفرزه الانتخابات الإيرانية المقبلة، انتخابات من شانها أن تقوي شوكة القادة أو التيار المتشدد في إيران اتجاه...

يُعد الاتفاق النووي الإيراني الذي أُبرم في عام 2015 بين دول (5+1) في حقبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، من أكثر الملفات العالمية تعقيداً، وتزداد درجة تعقيده نتيجة للعلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. وهذا التعقيد ربما سينعكس في طبيعة المفاوضات "غير المباشرة" بين الطرفين، ولاسيما بعد حادثة الهجوم السيبراني على مفاعل نطنز في بداية الأسبوع الماضي.

ويأتي هذا الهجوم في الوقت الذي دَّشن فيه الرئيس الإيراني حسن روحاني يوم السبت أجهزة طرد مركزي جديدة في منشأة نطنز، التي تعتبر منشأة رئيسية لبرنامج تخصيب اليورانيوم في البلاد، وذلك في حفل بث على الهواء مباشرة على التلفزيون الرسمي. ولم يكن هذا الحادث أو الهجوم، العمل التخريبي الأول او الوحيد الذي تعرض له هذا المنشأ، فقد كان هناك عمل تخريبي في يوليو/ مايو من العام الماضي، وسَبَّب اندلاع حريق في ورشة تجميع مركزية لأجهزة الطرد المركزي في ذات المنشأ.

وفي عام 2010، دَّمر ستوكسنت(1) أجهزة الطرد المركزي الإيرانية لمنشأة نطنز أيضاً، وجاء الهجوم وسط مخاوف وتوتر من الغرب بشأن برنامج طهران النووي. ويعتقد بعض المتخصصين بأن هجوم نطنز الأخير، قد يكون مشابه للهجوم السيبراني الروسي على محطات توليد الكهرباء الأوكرانية في نهاية عام 2015. إذ استخدم الروس في هذا الهجوم برمجية خبيثة تسمى ترسيس (Trisis) أو ترايتون (Triton) مصممة لتعطيل برنامج التحكم الآلي الصناعي المعروف اختصارا بـ"آي سي إس" (ICS) والذي يسمح للمنشآت الصناعية بالتوقف عن العمل بأمان في حالة وجود مشاكل، وهو الهجوم الأول في العالم الذي يستهدف هذه المنظومة وينجح. فكيف سيؤثر هجوم نطنز على الموقف الإيراني وطبيعة المحادثات الجارية في مدينة فينا؟

بالتأكيد أن تدخل في مفاوضات، كمفاوضات الاتفاق النووي، وأنت مسلح بإرادة وبرنامج محَّصن غير مكشوف للأعداء، أفضل بكثير من أن تدخل المفاوضات وأنت مكشوف للعدو أو الخصم أو للمفاوض، ومعَّرض في أي وقت لهجوم سيبراني أو ما شابه، هجوم من شأنه أن ينهي مشروع المفاوضات ويضعف من قدراتك التفاوضية بشكل كبير. وبالتالي، قد تكون مجبر على المضي في سياق أو مسار محدد، قد يفرض عليك بفعل خارجي.

ربما هذا ما يلخص حال المفاوض الإيراني في المحادثات الجارية في مدينة فينا، التي انطلقت جولتها الثانية يوم الأربعاء الماضي، أي بعد أقل من 72 ساعة على حادثة الهجوم التي تعرضت لها مفاعل نطنز يوم الأحد الماضي. بموازاة ذلك، يعتقد بعض المتخصصين بأن ما جرى لا يمكنه أن يؤثر على مسار المفاوضات الجارية، ليس من الجانب الإيراني فقط، بل من جميع الأطراف، فهناك قد يكون شبه اتفاق او ارادة غير معلنة من جميع الأطراف المعنية في مسار مفاوضات البرنامج النووي، بانها لم تُخضِع مشروع المباحثات الجارية إلى أي تأثير خارجي من شأنه أن يُعيق خطة العمل المشتركة.

ولاسيما أن الأوروبيون عازمون على انجاح هذه المباحثات في ظل تقاربهما الكبير مع الإدارة الأمريكية الحالية في ظل رئاسة جو بايدن، فضلاً عن رغبة وإرادة الإيرانيون في إنهاء ملف الاتفاق والمضي بسياسة رفع العقوبات التي اضرت بالاقتصاد الإيراني كثيراً، وزعزعت من شرعية النظام السياسي الحاكم.

وبهذا السياق أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في تعليقه على هجوم نطنز ، بأنهم (لن يقعوا في الفخ الذي نصبوه "في الإشارة إلى دور إسرائيل"، لن نسمح بهذا العمل التخريبي بالتأثير على المحادثات النووية). وهي إشارة إلى النتائج المتحققة في مفاوضات رفع العقوبات والتوصل إلى حل مرضي لكل الأطراف المعنية، على الرغم من الرغبة الإسرائيلية في تعطيل مشروع المفاوضات وعدم العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وذلك من خلال الاستهدافات الإسرائيلية الاخيرة المتكررة للمناشئ النووية والسفن الإيرانية بالتزامن مع انطلاق المحادثات، وهي رغبة محكومة بتعطيل مسار المحادثات التي تبديها الإدارة الأمريكية الحالية في ظل رغبة الرئيس الأمريكي جو بايدن في إنهاء ملف الاتفاق النووي الإيراني.

الأمر الذي يقلق إدارة بايدن كثيراً ويزيد من حدة التباين بين الإدارتين (الإسرائيلية والأمريكية) في النظر إلى مصالحهما، إذ تعتقد إسرائيل "حسب رأي الواشنطن بوست" أنه لا يمكن تصور أي انفراج في العلاقات الإسرائيلية الإيرانية، وأن الصراع الدائم مع طهران هو أمر مفروغ منه، وأن هجماتها العسكرية المعرقلة لبرنامج إيران النووي ولو لبضعة أشهر أفضل ما يمكن أن تأمله. بموازاة ذلك، نجحت واشنطن في إبرام صفقة مع طهران أزالت فعليا التهديد الإيراني بإمكانية إنتاج أسلحة نووية لعقد على الأقل، وإذا تمَّكنت إدارة الرئيس بايدن من استعادة الاتفاق، فستكون الولايات المتحدة حرة في سحب مقدراتها العسكرية من المنطقة، والتركيز على التحدي المتزايد، الذي يشكله التنين الصيني.

إلا أن المخاوف تطال الاتفاق ليس بسبب دور إسرائيل أو المتشددين في الإدارة الأمريكية أو الكونغرس الأمريكي من خلال الضغط على إدارة بايدن، وإنما بسبب تعقيدات الوضع السياسي الداخلي في إيران، وما تفرزه الانتخابات الإيرانية المقبلة، انتخابات من شانها أن تقوي شوكة القادة أو التيار المتشدد في إيران اتجاه الاتفاق النووي والعلاقة مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. إذ يتوقع أن تغادر حكومة معتدلة نسبياً تفاوضت على توقيع اتفاق 2015 السلطة قريبا وما زالت تفاوض من أجل انجاح هذا الاتفاق، وأن تأتي حكومة بديلة تناهض اغلب توجهات حكومة الرئيس روحاني، ولاسيما أن هناك معارضة كبيرة لتوَّجهات الرئيس الأمريكي بشأن دخوله في هذه المحادثات.

بالمجمل، ربما تعيق الهجمات الإسرائيلية، أو تؤثر على مساعي إيران وقدراتها التفاوضية بشأن المحادثات الجارية في مدينة فينا، إلا أنها لا يمكن أن تؤثر على مستقبل المحادثات والاتفاق النووي بشكل كبير، ولاسيما في ظل الرغبة الكبيرة التي تبديها جميع الأطراف في التوَّصل إلى اتفاق شامل، إلا أن هناك عدة تساؤلات تطرح بشأن الرغبة الإسرائيلية والإرادة الأمريكية في هذا الاتفاق، هل أن إسرائيل تريد بالفعل اتفاقاً تكون معادلته (5+1+1) تكون فيه طرفاً قوياً، أم لا تريد أي اتفاق نووي إيراني بشكل عام؟

وهل ستكون هذه الرغبة خاضعة لمزاجية الرؤساء الأمريكيين والحزب الحاكم في المستقبل القريب "في حال تم الاتفاق" رغبة من شأنها أن تلغي الاتفاق بعد اربعة سنوات، إذا ما تبّدلت الإدارة الأمريكية الديمقراطية بإدارة جمهورية، كما فعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أم سيخضع الاتفاق هذه المرة إلى ضمانات قانونية أكثر صرامة، وهل أن إسرائيل لديها القدرة بالفعل في الوقوف بوجه الولايات المتحدة، ام أن ما يحدث من هجمات ومعارضة إسرائيلية للمحادثات والاتفاق بشكل عام، هو تضخيم للدور الإسرائيلي ليس إلا...؟

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

.................................
1- يعتبر فيروس "ستوكسنت" (Stuxnet)، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه من صنع أميركي-إسرائيلي مشترك، هو الأكثر شهرة في عائلة فيروسات الحواسيب المرتبطة بتخريب البنية التحتية، وهو من النوع الدودي.

اضف تعليق