المصالحة هي ما نحتاج إليه في عالمنا العربي، لاسيّما البدء برياضة روحية ومراجعة نقدية مع النفس لتنتقل إلى الآخر، والأساس في ذلك احترام الحق في الاختلاف واعتماد وسائل اللاّعنف والسلم لحل الخلافات وفقاً لمبادئ التسامح، إذ لا يوجد شيء أسوأ من الحروب والنزاعات الأهلية المسلحة...

هل الوساطة فن أم علم، أم كليهما معاً؟ ومعهما تحتاج إلى براعة وخبرة ومعرفة ومثابرة وصبر وحلمٍ وحكمة، ذلك ما توصلتُ إليه وأنا أقرأ كتاب البروفيسور محمد الحسن ولد لبات وزير خارجية موريتانيا الأسبق الموسوم «السودان- على طريق المصالحة»، وهو الخبير بحلّ الخلافات بالوساطة في مناطق الحروب والنزاعات الأهلية، إضافة إلى امتلاكه خبرة قانونية ولغة عربية صافية وإتقانه اللغتين الفرنسية والإنجليزية ومعرفته بلغات محلية عديدة.

‎في ذاكرتي استعدت ثلاث شخصيات سودانية وشخصية موريتانية لها تماس مباشر بموضوع الكتاب.

‎ أولها - الرئيس عمر حسن البشير الذي التقيته في عام 2000 مع وفد ضمّ 5 مثقفين عرب نظمته إحدى المحطات الفضائية لإجراء حوار مفتوح معه حول مشكلات الحكم في السودان، وذلك عشيّة الانتخابات البرلمانية التي فاز بها حزبه ب«الإجماع السكوتي» أي ب «التزكية»، ويبدأ الكتاب في سرديته بالحديث عن الإطاحة به عبر عملية احتجاج شعبي واسعة، حسم الجيش لحظتها الفاصلة، لكن التغيير الذي حصل كاد أن يتبدّد أو ينتكس أو حتى يضيع، لولا دخول الوساطة الإفريقية على الخط بدعم من أثيوبيا بتكليف ولد لبات مؤلف الكتاب.

‎ وثانيها- «العم» قاسم أمين الذي كنّا نناديه «عمك كاسم» وهو أحد القادة العماليين النقابيين الذي تعرفت إليه في مطلع السبعينات من القرن الماضي في براغ، وأتذكر ذهابه مع إبراهيم زكريا إلى بغداد عام 1972 عقب تأميم النفط، ولكنه عاد أكثر حذراً وربما تشاؤماً مما ذهب، وقد وضع تجربة التعاون مع النميري أمامه عند حديثه عن تجربتنا العراقية.

‎ وثالثها- فاطمة أحمد ابراهيم أرملة الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، الذي أعدم عام 1971 مع عبد الخالق محجوب أمين عام الحزب الشيوعي، وأتذكّر كتاب الصديق فؤاد مطر الموسوم: الحزب الشيوعي السوداني.. نحروهُ أم انتحر؟ وقد استعدت علاقتي بها في براغ وبرلين ولندن، وأتذكّر دموعها كيف انهمرت على خدّها وأنا ألقي كلمة تأبين بحق الصديق عبد الوهاب سنادة نقيب الأطباء الأسبق، وكنت قد حضرت حفل زفافه في «روزفلتافا كولي» كما حضرت وفاته. وفاطمة أحمد إبراهيم «أم طارق» أول برلمانية سودانية ولها باعٌ طويل في النضال.

‎ أما الشخصية الرابعة- فهي الباهي محمد الذي أطلق عليه الروائي عبد الرحمن منيف «عروة الزمان» وهو شخصية ثقافية موسوعية وقد تنقّل هذا الصحراوي الموريتاني في العالم العربي حاملاً لواء العروبة والوحدة وفلسطين من موريتانيا إلى الجزائر ومن بغداد ودمشق مروراً ببيروت وصولاً إلى المغرب ليستقر في باريس التي كان يجوب شوارعها مشياً على الأقدام حيث لم يمتلك من دنياه سوى بضعة كتب وحفنة قصائد وذاكرة ذهبية مع محبته للأصدقاء والناس والثقافة والشعر بشكل خاص.

‎ والكتاب الذي انطلقت منه جمع بين الأكاديمية المنضبطة والسردية الروائية المفتوحة بحبكة درامية مثيرة، وتلك مُكنة وحرفية، حيث جعلت الكاتب ينتقل من حقل إلى آخر بكل حريّة، مُطعّماً مادته العلمية بحكايات وقصص ومقابلات وحوادث وأسرار وتاريخ دلّ على معرفة بالأوضاع السودانية، وقد تمكن في نهاية المطاف من التوفيق بين المدنيين والعسكريين على صيغة انتقالية مقبولة من الطرفين جَنبتْهُما والبلاد مخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية أو صراع عنفي لا يعرف المرء مدى عواقبه في بلاد عاشت لنحو 30 عاماً من تجربة التفرّد والاستبداد.

‎ ‎ لا أخفي شعوري كقارئ ومعني ومشارك في نشر مفاهيم اللّاعنف والتسامح، من القول إن كتاب «السودان - الطريق إلى الوساطة» يصلح أن يكون مقرراً في الجامعات العربية، خصوصاً تلك التي عاشت حروباً ونزاعات وصراعات دينية وطائفية وعرقية واجتماعية، والهدف ليس استنساخ التجربة أو اقتباسها بقدر دراستها والإفادة منها، فقد تعلم ولد لبات من نيلسون مانديلا الذي عمل معه أن على الوسيط أن يكون متواضعاً وجامعاً ومستمعاً ومشاهداً وحافظاً لسانه وجَنانِه أي التحكم حتى بحركاته وإشاراته، كما ينبغي أن يكون متسامحاً وموضوعياً وغير منحاز إلى أحد أطراف النزاع أو مغرياته، وعليه أن يحافظ على مساحة واحدة من جميع الأطراف، والمهم ألا يستعجل في الوصول إلى النتائج قبل أن تنضج ظروف الحل السلمي.

‎المصالحة هي ما نحتاج إليه في عالمنا العربي، لاسيّما البدء برياضة روحية ومراجعة نقدية مع النفس لتنتقل إلى الآخر، والأساس في ذلك احترام الحق في الاختلاف واعتماد وسائل اللاّعنف والسلم لحل الخلافات وفقاً لمبادئ التسامح، إذ لا يوجد شيء أسوأ من الحروب والنزاعات الأهلية المسلحة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق