q
الإحباط والقمع هما حليفان ومتلازمان ضد المواطن الذي قضى ردحا من سنواته يبحث عن الحرية وينشد الكرامة، حتى لقى حتفه ولم يظفر بها، واسدلت ستائر حياته بعد عروض مختلفة قدمت على مسرح الكون المتعب، ولا يعني ذلك ان نسمح لليأس التخييم علينا وتقيدنا عن الشروع برحلة جديدة الآفاق...

مددت مفوضية الانتخابات مدة تحديث البطاقة الانتخابية البايو مترية أكثر من مرة بعد ان وجدت عدم إقبال وإهمال متعمد من قبل المواطنين الذين يحق لهم التصويت بالانتخابات البرلمانية المقبلة المزمع اجراءها في تشرين الأول من العام الجاري، عدم الاقبال هذا دليل لا يقبل النقاش على إصابة الكثير بالإحباط وعدم تفاؤلهم بأنهم قادرين على تغيير الأوضاع في عموم البلد.

تعاقب الحكومات التي حكمت الحقبة الزمنية بعد تغيير النظام، ولم تكن بمستوى الطموح ولم تحقق أدنى قدر من الامنيات التي تزاحمت بمخيلة العراقيين سواء في الداخل او الخارج، فنراها جميعها اهتمت بالمصالح الشخصية وبناء الذات الحزبية بعيدا عن تلبية متطلبات الجماهير المعدومة من الحرمان والقحط لأعوام عديدة.

وتبعا لهذا التخبط في إدارة مرافق الدولة تولدت لدى الافراد حالة عجيبة من الإحباط، اذ نلاحظ ان الفرد العراقي ليس لديه الرغبة في الذهاب لمراكز تسجيل الناخبين للتأكد من احقيته في المشاركة، كما انه اقترب من قضية الرضى بما قسم الله له وترك الامر دون البحث عن مكامن أخرى لتحسين الأوضاع والمساهمة الفعّالة في التغيير.

الانغلاق السياسي والأساليب التقليدية التي اتبعتها الأحزاب الحاكمة كدست اكوام من الخيبة في نفوس المواطنين، لذا فالحديث عن إمكانية التغيير أصبح ضرب من ضروب الترف الذي تمارسه الطبقات الاجتماعية، وليس الخلل هنا بالمجتمع وحده بل تتوزع المسؤولية مناصفة بينهم والشريحة السياسية الحاكمة التي مهدت لمثل هذه البيئة من اجل الوصول للنتيجة الحالية.

فلم يعد يرغب المواطن بالخروج والمطالبة بحقوقه المنهوبة والمسلوبة من قبل المتنفذين وعلى مدى ما يقرب من عقدين، فما تعرضت له المظاهرات التي شهدها العراق في تشرين العام المنصرم يعد قاعدة أساسية لبناء الحكم السلطوي والبوليسي للحقبة القادمة.

لم يتخيل أحد العراقيين ان تعود السلطات الحكومية مجددا لتضييق الخناق على المواطنين بعد الخلاص من نظام الحكم المشؤوم الذي حطم البنية المجتمعية لدى الافراد وعاث فسادا بجميع المجالات، بما شكل ضغطا حياة الافراد واخذت تنشد الحرية لكنها لم تفلح في ذلك لضعف القوى الداخلية والتنظيم البسيط للعديد من حركات التحرر التي لم ترَ النور.

شرع عدد غير قليل من المفكرين خلال العقود الماضية بتسليط الضوء على هذه القضية الهامة، فتناولت دراساتهم جوانب مهمة وعديدة متعلقة بحياة الانسان والمجتمع بصورة عامة، وبضمن ما تم التطرق اليه في تلك الدراسات هو تفسير حجم الضرر الذي يقع على الإنسان حين يفقد حريته وكرامته مجبراً، والمتأتي نتيجة اتباع اساليب ونهج قمعي من قبل الانظمة التي تخطف من الفرد حريته وكرامته بقوة سلطة مستبدة، إلا ان هناك من فسر الخنوع والاستسلام لاغتصاب الحرية والكرامة بخيارات وقرارات طوعية للفرد بذاته!

فقد تناول المفكر الفرنسي Étienne de La Boétie (1530-1563) ضمن مقال جدلي معروف بعنوان «العبودية الطوعية» «The Discourse of Voluntary Servitude»، خيارات الإنسان بالتنازل بمحض إرادته عن حقوقه وحريته، وان يصبح بالتالي «عبدا» اي خاضعا وتابعا للطرف الاقوى والمهيمن في المجتمع والدولة على مختلف مستويات الحياة، الى درجة التحكم في ميزان العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية.

ويحمل المقال قدرا كبيرا من الأهمية، لما ضمه من مضمون بحثي قيّم، حيث جرى فيه تناول ميادين مهمة من الحياة كالسياسة والدين والمجتمع والسلطة، حين يسلط المؤلف الضوء على جوانب تتعلّق بالانصياع الطوعي لوضع استبدادي يستهدف سلب الحرية والكرامة او الرفض الطوعي للانصياع والخضوع لأوامر وسياسات قمعية، وهي معركة غير متكافئة مع من يملك القوة والسلطة وشرائح ضعيفة ومضطهدة تناضل من اجل ترسيخ سيادة العدالة والحرية والكرامة في المجتمعات.

لو نعود بصورة بسيطة لما اختزنته الذاكرة العراقية على خلفية التصرفات غير المنضبطة في بعض الأحيان من قبل القوات الأمنية مع المتظاهرين، نعرف جيدا مدى البشاعة التي تحملها تلك الأجهزة تجاه المواطنين الأبرياء، وهنا حتى لا يتم فهمنا بشكل خاطئ، فالأجهزة الأمنية واقعة بين نارين، فهي في اغلب الأحيان تكون مُجبرة على السلوك العدواني الذي يصدر منها لردع المظاهرات التي تمتلئ بها شوارع بغداد والمحافظات.

كما ان المواطن العراقي أصبح مشتت الانتباه لم يتمكن من التركيز في كيفية إيجاد الحلول المنطقية لأزماته المتراكمة، فبينما يبحث عن مخرج من مشكلة معينة، تزجه الحكومة بغيرها أكثر منها تأثيرا عليه، لا يفوتنا هنا ان نتطرق للمشكلة الاقتصادية التي تسببت بها القوى السياسية ودفع ثمنها الشعب البائس، فعمدت الى رفع سعر الدولار لتواري خيبتها والاخفاقات التي منيت بها، فبعد هذا الامر زادت معاناة الافراد ولم يفكروا بالتغيير قط.

ما ذكرته شكل لدى الافراد عبودية ذاتية وجعلهم يخشون الخروج عن هذا الإطار وبقائهم قابعين خلف القضبان النفسية، فعندما تتحدث مع جمع غفير عن احتمالية التغيير، البعض يصفها بالمهمة المستحيلة.

الإحباط والقمع هما حليفان ومتلازمان ضد المواطن الذي قضى ردحا من سنواته يبحث عن الحرية وينشد الكرامة، حتى لقى حتفه ولم يظفر بها، واسدلت ستائر حياته بعد عروض مختلفة قدمت على مسرح الكون المتعب، ولا يعني ذلك ان نسمح لليأس التخييم علينا وتقيدنا عن الشروع برحلة جديدة الآفاق والتطلعات تحقيقا للذات وللخلاص من العبودية المطبقة.

اضف تعليق