يبدو للوهلة الاولى ان كلا الفيلسوفين يتمسكان بمبادئهما المتضادة وان معتقداتهما تتعارض دراماتيكيا، فاذا كان هرقليطس يؤكد على التغيير والحركة الدائرية للاشياء، نرى الثاني ينكر وجود ذلك. هرقليطس يرى الوجود الحقيقي دائري يتحول الى لا وجود، وان الحياة تتحول الى موت وان ما يحدث من...

يبدو للوهلة الاولى ان كلا الفيلسوفين يتمسكان بمبادئهما المتضادة وان معتقداتهما تتعارض دراماتيكيا، فاذا كان هرقليطس يؤكد على التغيير والحركة الدائرية للاشياء، نرى الثاني ينكر وجود ذلك. هرقليطس يرى الوجود الحقيقي دائري يتحول الى لا وجود، وان الحياة تتحول الى موت وان ما يحدث من تغيير هو أبدي ودائري (غراهام). بينما بارمنديس يرى الوجود الحقيقي بلا حركة وثابت، وانه لايتغير خلف مظهر التغيير. كلا الفيلسوفين وبشكل غير مباشر يلغيان الموت من خلال ختم الصيرورة بختم الوجود (Mcfarlane).

في الحقيقة، كل من بارمنديس وهرقليطس أكّدا على شيء واحد. هما فقط طبّقا اتجاهين مختلفين لكي يعلّما نفس الشيء. هرقليطس أكّد بان مختلف المظاهر تتغير، ولذلك فان الأضداد توجد في ترابط داخلي معتمدة على بعضها البعض وهي في حالة اتحاد. هو تصوّر وحدة الاضداد وآمن بالصيرورة، بينما بارمنديس رفض الأضداد، وركز على إبراز الوجود مدّعيا "ان الوجود هو غير متولد ولايتحطم، هو كلي، نوع واحد وتام وراسخ.

هو لم يكن في يوم ما وسوف لن يكون، طالما هو الآن كائن، مجتمع الى بعضه، واحد ومستمر". ولذلك فان المظاهر المختلفة للواقع لا تتغير في حقيقتها، لأنها بهذا سوف لن توجد. برمنديس اعتبر التغيير مستحيلا، لأن كل شيء يبقى على ذاته، لكونه عنصر ثابت وواحد، لكن هرقليطس على الضد من ذلك، اكّد بان كل شيء يتغير وفي تدفق دائم، واصبحت بعض اقواله شائعة بين الناس مثل "كل شيء يتدفق" و "انت لا تستطيع النزول في نفس النهر مرتين".

هو يرى ان الشيء وبفعل سرعة التغيير، يتبعثر ثم يجتمع مرة اخرى. لذا فان النهر سيكون مختلفا في كل مرة. وبسبب اعتباره الحركة تغييرا، عُرف هرقليطس بفلسفة "التدفق والنار" العالمية التي كانت الاساس المادي للعالم، بالاضافة الى نظريته في تزامن الاضداد المثيرة للجدل. كان هرقليطس مستقلا عن المدارس المحددة لأن تراثه متعدد التفكير ويضم عناصر من الوحدة المادية والكوزمولوجيا العلمية والميتافيزيقا والعقلانية، لكن الشيء المؤكد انه كان فيلسوفا ثوريا ورغم ان أعماله خضعت للدراسة العميقة لكنها بقيت شائكة وصعبة التفسير(غراهام).

هرقليطس يعرض استعمالات للطريقة الاستقرائية يريد بواسطتها من الآخرين فهم العالم، هو يعرض دائما موقفا بسيطا معطيا صورة رمزية واضحة، ولهذا هو يمكّن القرّاء من تعليم انفسهم. ولكي يجعل عقيدته مثمرة، يستخدم هرقليطس في كلامه وسائل اسلوبية من بلاغة وجناس دفاعا عن النظرية. هو يكرر دائما ان قرّائه سوف لن يفهموا رسالته، لكنه يعدهم بمحاولة توضيح كل شيء هو قادر على رؤيته: "يميز كل شيء طبقا لطبيعته ويبيّن كيف هو "(غراهام).

ان الشكل الذي يعرض به هرقليطس عمله هو اساسي لفهم جوهر ذلك الشكل، هو يستعمل تقنية من التعقيدية اللفظية والغموض النحوي، فمثلا، شارلس خان يصف اسلوبه بكلمتين "الكثافة اللسانية" و"الصدى". في اسلوبه المشابه لبرمنديس يُفترض انه كتب كتابا واحدا فقط سمي "حول الطبيعة" والذي لسوء الحظ ورد فقط على شكل مقاطع او عبارات، كانت في الأصل تضم 800عبارة.

اما برمنديس فقد خالف الطريقة التقليدية في النثر واستخدم الشكل السداسي الذي اقتبس منه المؤلفون اللاحقون وحفظوه لأجيال المستقبل. برمنديس يتحدث مناصرا لمبادئه في المقدمة التي لها عدة تفسيرات مختلفة واعتُبرت من جانب المدارس المعاصرة مظهرا للاحادية الصارمة والديالكتيكية المنطقية وغيرها. في عمله كان يتعامل مع الربة goddess التي يجب ان تكشف لبرمنديس كلا الطريقتين وهو يجب ان يختار الأحسن من بينهما. الطريقتان تعرضان خطأه السابق والحقيقة التي تصبح واضحة له.

العمل يتألف من جزئين، الاول يتعلق بالحقيقة او "الواقع الحقيقي" والثاني يتعامل مع عالم الوهم، عالم الاحاسيس والآراء. في العبارة رقم 8 تذكر الربة مبادئ الفيلسوف للثبات العالمي بادّعائها "حتى الان تبقى حكاية واحدة وهي ان ما هو كائن كلي وموحد وتام" وحيث الماضي والمستقبل هم بلا معنى للعقل. برمنديس اعتقد ان "الواقع يجب ان يكون بالمعنى الاكثر صرامة" وان اي تغيير فيه غير ممكن.

من اللافت، في قصيدة برمنديس نجد الربة تنتقد الناس العاديين لكونهم يسترشدون بحواسهم. على عكس هرقليطس، نجد برمنديس يحكم فقط بالعقل ولايثق ابدا بالحواس. في التصور الانساني العالم لاشيء الا "مظهر مخادع" (بالمر). العديد من المقاطع الاخرى تشير الى ان برمنديس لامس موضوعات في علم وظائف الاعضاء والفكر الانساني وادّعى ان ذواتنا مخادعة وتؤكد على ابراز ذاتية التصور الفردي.

هرقليطس يؤكد ايضا على الشأن الانساني واعتُبر اول انساني، وهو ما يثبت جهل الناس بأفكاره. مع انه اعتقد ان الناس هم دائما غير قادرين على الفهم، والحكمة، هو لا ينكر اهمية الاحاسيس ويقول: "انا افضل الاشياء التي يكون بها بصر وسمع وممارسة". ربط هرقليطس تراكم الحكمة بالاحاسيس والذاكرة بدلا من المعرفة، والاخيرة ليست بالضرورة تعلّم الناس الفهم. لذا وطبقا لهرقليطس،، الناس لا يتعلمون بالتجربة، لأنهم لايمكنهم تحويل المعلومات التي يتصورونها، ومع ذلك لايزال الناس يمارسون "المعرفة الذاتية والتفكير السليم". لفهم افكاره يجب على المرء الامساك بتعقيديتها واكتشاف وحدة العناصر(غراهام).

طبقا لغيثري Guthrie، لايرى برمنديس وجود للكوزمولوجي، لأنه عرض براهينا لإستحالة وجود الأضداد. وحين يتصور تعددية العقائد العادية، يذكر برمنديس مبادئ الكوزمولوجي في المقطعين (8 و9) حيث يناقش فيهما الضوء والليل بالاضافة للنجوم والشمس والقمر والأرض ذاتها. لاحظ غوثري معلقا على كوزمولوجيته لكي تبقى فلسفته فقط "وسيلة ديالكتيكية" فهي تُستخدم لرؤية صورة العالم الفيزيقي والمحسوس(بالمر). الدليل على ذلك وُجد في كلمات الربة عندما هي تصف الكوزمولوجي بـ: "الايمان بالموت".

خلافا لبرمنديس، بما ان هرقليطس كوزمولوجيا فهو يذكر في نصوصه الكوزموس "نظام" يصف العالم حولنا، الذي يتميز بالنار. النار وُصفت في عقيدته كأصل الكل، كل الأشياء مجرد تجليات للنار وهي رمز للتغيير لأنها لايمكن ان تكون هي ذاتها ابدا، طبقا له، بدون تغيير سوف لن يكون هناك عالم. ان العناصر هي في توازن كوزمولوجي (كوني) وتباشر تحولات ابدية مع عدم اكتساب اي عنصر منفرد للهيمنة(غراهام). هرقليطس يقول في عمله (تحوّل النار: اولاً بحر، ونصف البحر هو ارض، والنصف الثاني انفجار ناري).

خلافا لبرمنديس الذي أثبت استحالة وجود الأضداد، أدخل هرقليطس فكرة تزامن الأضداد وناقش الارتباطات بينها قائلا: "البحر هو الماء الأنقى والأكثر تلوثا: لأنه صحي وقابل للشرب من قبل الأسماك، ومؤذي وغير قابل للشرب من قبل الانسان". طبقا لهرقليطس، النوعيات المتضادة متداخلة "في نفس الشيء"، هو يؤمن بأن نفس الشيء حي وميت في نفس الوقت، انه يقظ ونائم، شاب وكبير(غراهام). غير ان هرقليطس يشدد على انه مع ان الاضداد مترابطة، لكنها لا تشبه بعضها ابدا. تزامن الأضداد يؤدي الى تناقضات لا يمكن تجنبها من جانب هرقليطس. بارنيس، مثلا، يلوم الباحثين في مخالفة مبادئ المنطق وجعل المعرفة شيئا مستحيلا(غراهام).

في تحليل عقائد هرقليطس كتلك الداعمة للتغيير الراديكالي، نحن نرى في تدفق هرقليطس حالة من وحدة الاضداد التي وُصفت في عقيدته. لكن المحللين المعاصرين يدّعون، هو لا يمكنه ان يكون مؤمنا في التدفق الراديكالي وموحدا في آن معا، لذا هو بالتأكيد تعددي يجادل لأجل السيطرة الذاتية والاعتدال ويعتبر الروح المركز الاخلاقي لوجود الانسان (غراهام). في احتقاره للعاطفة، هو يعجب بالقوة النابعة من اتقان الذات والتنقية الذاتية: "ليس جيدا للرجال حصولهم على كل ما يرغبون. مهما تكن رغباتنا فهي تأتي على حساب الروح".

برمنديس يناقش ايضا سلوك الناس، ويهتم في تفكير الانسان وتبريراته، حتى وان كان نقاشه بتلك المسألة يتعلق بالكوزمولوجي. الارتباطات تصبح اوضح عندما يناقش نطاقا واسعا من الظواهر الطبيعية. الوجود احادي صارم، كذلك اعتقد هرقليطس في الحرب، هو امتدح الحرب واسماها "القوة المرشدة في العالم" مدّعيا ان "الحرب هي أب الجميع وملك الجميع، بدون الصراع سيكون لدينا فقط نمطية واحدة بلاحياة". هرقليطس بالاضافة الى برمنديس يتحدثان عن الله، لكن هرقليطس لايعني بذلك اله الاغريق ولا كينونة شخصية. هو يرى ان الله موجود في كل روح وفي كل شيء منفرد في العالم. وطبقا لنظريته في "النار والتدفق" هو يوضح وجود الله في كل شيء على الارض.

واذا كان احدهم يرى ان الكون ثابت وابدي وبلاحركة وينكر التغيير والصيرورة، فان الآخر يؤكد على كل تلك ويفتح افاقا جديدة للفكر اليوناني عبر إدخال نظريته في "التدفق والنار"، كلاهما اثّرا على الفكر الفلسفي وتحدّيا نظريات أسلافهم عبر تطوير نظريات اكثر تعقيدا. برمنديس كونه موحدا ميتافيزيقيا، وهرقليطس مستقلا عن أي نظرية قديمة، موحدا ماديا وكوزمولوجيا علميا وعقلانيا، لديهما الكثير من المشتركات. غير ان هيرقليطس يُفترض انه حفّز برمنديس لتطوير نظرية مقابلة، وبهذا يمكن رؤيتهما كممثلين يناصران التدفق المستمر والسكون الكوني.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق