الهجرة المتزايدة من الدول الإسلامية نحو الغرب نتيجة الحروب والصراعات الدينية وخاصة في الشرق الأوسط نقلت الكثير من الأفكار المتطرفة الى الغرب، وولدت شعورا بالرفض والخوف من قبل شعوب تلك البلدان وتنامي ظاهرة \"الاسلاموفوبيا\" والقلق من تأثيرها على القيم ونمط الحياة في تلك المجتمعات التي...
أعداد المسلمين المهاجرين للدول الغربية في ازدياد مستمر ولأسباب مختلفة من بينها تردي الواقع الاقتصادي في كثير من الدول الإسلامية، ووجود أنظمة استبدادية تتحكم بها، وتردي واقع حقوق الانسان والحريات.
فقد ازدادت هجرة المسلمين للدول الغربية خاصة في العقود الستة الأخيرة، وبمرور الوقت بدأت تطفو على السطح مشاكل كثيرة تتعلق باندماج تلك الجاليات في المجتمعات الجديدة، وفي مقدمة أسباب تلك المشاكل الهوية الدينية والثقافية وما يرتبط بها من أفكار وممارسات موروثة ومتجذرة.
من بين العقبات الكثيرة التي تقف في وجه الاندماج هو حالة الانغلاق على الذات لدى بعض المهاجرين الذين هم في الغالب من اللاجئين، وهذا الشعور جاء نتيجة الانتقال من مجتمع غالبيته مسلمة الى مجتمع يشعر فيه المهاجر انه أقلية ولا صوت له، وكذلك وجود نوع من التباين أو الاختلاف بين التقاليد التي نشأوا عليها في بلدانهم والواقع الجديد الذي وجدوا أنفسهم فيه.
كما أن الهجرة المتزايدة من الدول الإسلامية نحو الغرب نتيجة الحروب والصراعات الدينية وخاصة في الشرق الأوسط نقلت الكثير من الأفكار المتطرفة الى الغرب، وولدت شعورا بالرفض والخوف من قبل شعوب تلك البلدان وتنامي ظاهرة "الاسلاموفوبيا" والقلق من تأثيرها على القيم ونمط الحياة في تلك المجتمعات التي يترسخ فيها احترام الحريات والدستور والقوانين.
من أهم التحديات التي واجهتها الجاليات المسلمة في الغرب هي التواصل والحوار مع المجتمعات المضيفة وبينهم كجماعة على حد سواء، لذلك كان من الواجب إنشاء مؤسسات ومراكز دينية وثقافية للجالية المسلمة لتفعيل الحوار الثقافي والتواصل، وهو ما مارسته بعض الدول الغربية للإستفادة من الطاقات الكبيرة لكثير من المهاجرين وتوطينهم وتهيئة البيئة الاقتصادية والثقافية لهم في المجتمع الجديد.
يجب ان يميز المسلمون كذلك بين ما يسمى الحضارة الغربية وطريقة العيش الغربية، الحضارة الغربية مفهوم واسع جدا وممكن ان نجد نقاطا مختلفة تتعارض مع الحضارة الاسلامية وما تحمله من إرث ديني وإجتماعي وثقافي كبير.
لكن طريقة العيش في المجتمع الغربي المبني على اساس الناتج والطلب والعرض والحياة المادية، يفرض نفسه على اي شخص، سواء كان مسلما او مسيحيا او يهوديا أو بوذياً، اذا كنت تريد العيش فعليك العمل والاجتهاد ودفع الضرائب. وما دمت تعمل وتدفع ما عليك فانت مواطن من الدرجة الأولى وفي نفس الخانة مع سكان البلد الأصليين متساوون امام القانون في الحقوق والواجبات.
بالرغم من ان الاحكام الفقهية قد يجدها البعض صعبة او تجعل الفرد المسلم في المجتمع الغربي يعيش في عزلة، لكن يجب الاعتراف أن الفقه الشيعي بالذات وجد الكثير من الحلول خاصة في الامور الاجتماعية، لهذا لا نرى الجاليات الشيعية خاصة تعاني من امراض اجتماعية كالجاليات الباكستانية والهندية والافريقية واللاتينية خاصة في القضايا المتعلقة بالمرأة والحضانة وتربية الاطفال والميراث وغيرها.
إذا أرادت الدول الغربية أن تعالج أزمة اندماج المسلمين في مجتمعاتها واستثمار طاقاتهم فعليها أن توفر بدائل فكرية واقتصادية واجتماعية ونفسية للمهاجرين بتشجيعهم على المشاركة بشكل أكبر في الحوار والمؤتمرات والمهرجانات وخاصة التي تهتم بالقضايا المحلية التي تمسّ حياتهم في المجتمعات الغربية.
كما يمكن تشجيعهم على الاهتمام بالقضايا العالمية كالعدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر وحماية البيئة والسلام العالمي ومكافحة الاتجار بالبشر وهي قضايا كونية عابرة للهويات وللحدود الجغرافية ويمكن أن تنمّي الرغبة لديهم في الاهتمام بقضايا أوطانهم الأصلية ولكن من خلال "منظور عالمي" خاصة أنهم عاشوا في ظروف سيئة في بلدانهم التي هاجروا منها وبكل تأكيد جعلت منهم مجتمعات منغلقة وغير مهتمة في قضايا العصر ومشكلاته غالباً.
المجتمع النموذجي في المهجر
كما يندفع الانسان الباحث عن فرصة للعمل في وطنه، وعندما يعجزه ذلك يتخذ قرار الهجرة الى بلاد الله الواسعة، فمن المفترض ان يتكرر الشيء نفسه مع من يطالب بحقوقه وحقوق شعبه، او يريد تطبيق إصلاحات جوهرية وتغيير الواقع الفاسد في بلده، ولنا خير أسوة بنبينا الاكرم، صلى الله عليه وآله، عندما اختار الهجرة على البقاء في مكة، وهي مدينته ومسقط رأسه، ومسكن عشيرته وأهله، فاتخذ من مدينة يثرب وطناً جديداً، وبدأ من هناك مشوار الدعوة الى قيم السماء، ونشرها الى آفاق الارض، وحوّل المدينة التي كانت موطناً للأوبئة، ومكاناً يعافه الجميع، الى مدينة مشعة، نابضة بالحياة، فصارت "طيبة" ومدينة منورة، بفضل الانتقالة الذكية من حالة المظلومية التي عاشها النبي طيلة ثلاثة عشر سنة في مكة على يد المشركين، الى حالة البناء وصناعة البديل الافضل ليقدمه لأهل مكة والمدينة ثم الجزيرة العربية والعالم بأسره.
وهذا ما ركز عليه المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي والذي نعيش هذه الأيام ذكرى رحيله الثامنة عشرة، فقد كان يؤكد في احاديثه الخاصة والعامة، ولمرات عديدة، حتى أواخر حياته، على ضرورة الانتشار في الارض، وعدم الالتصاق بما يقنع البعض بالعيش البائس بحجة الظروف القاهرة، ثم العمل على صناعة البديل الذي يفضلونه ويؤمنون به، فاذا كانت الدعوات الى الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من القيم السامية، فلابد ان تتجسد في مجتمع صغير، او مجتمعات في انحاء العالم، لتبين للرأي العام ما يفتقدونه في بلدانهم، ومن المسؤول عن انتهاك هذه الحقوق.
وهذا ممكن جداً من خلال تأسيس المدارس والحسينيات والمكتبات وحتى المؤسسات الانتاجية، الى جانب المؤسسات الثقافية والخيرية التي تكون عالماً مصغراً من القيم والمبادئ التي يناضل من اجلها المعارضون للديكتاتورية والظلم، وهذا العالم المصغر او المجتمع النموذجي، من شأنه ان يكون البديل العملي للواقع السيئ في الوطن الأم.
الهجرة ليست قراراً سهلاً، فهي تتطلب الانتقال من حالة الاستقرار، مع كم هائل من الارتباطات والعلاقات، الى بلاد وأجواء وظروف اخرى والبدء من الصفر لتكوين علاقات اجتماعية وسياسية، وهذا يكلف كثيراً من الجهود، لاسيما من الناحية النفسية، وخوض مشاكل الاندماج والتعامل مع مجتمعات بطباع وتقاليد مختلفة، بيد انه افضل بكثير من الاقتصار على استعطاف الآخرين وانتظار النتائج الجاهزة من تضامن وتأييد بانتظار لحظة الانتصار!
اضف تعليق