من الثقافة الخاطئة التي انتشرت في ذهنيات كثيرين هاجس الولوج إلى العمل السياسي بهدف تحقيق نسق مضمر وغير معلن يتمثل بممارسة التسلط والقهر من دون وعي، وذلك بالاستفادة من المزايا المادية والمعنوية التي يتيحها الفعل السياسي، خصوصاً إذا ما انحرف عن خطه الرئيس وخاض في متاهات المصالح الفئوية والحزبية، الأمر الذي يُنبىء بعلاقة ملتبسة تنتج بين الطبقة المتسلطة وطبقات المجتمع، بل ان علاقة اعتباطية قد تنشأ مع شذوذ الفعل السياسي بين أطراف السلطة أنفسهم، فتكون ممارسة القهر المتسلط بين بعضهم االبعض وصولاً لمرحلة تأزيم المجتمع من خلال خطاب متشنج، وكل ذلك سيلقي بظلاله الرمادية على طموحات وأحلام المجتمع الراغب بحياة كريمة لامنغصات فيها.

إن انعكاس هذه العلاقة الملتبسة يؤدي إلى عدم الشعور بالأمان خصوصاً من قبل الطبقات المجتمعية التي تجد نفسها الحلقة الأضعف في دوامة الصراعات السلطوية، وتقع عليها مخلفات العلاقة الاعتباطية بين أطراف التسلط، فتعيش إزاء هذا الوضع المرتبك حالة من التناقض والتيه في المجهول، وعدم الجدية في إيجاد حلول جذرية، أو الاهتداء لبوصلة يمكن أن تؤشر لطريق ذي فائدة؛ لأن شكل العلاقة الملتبس هذا وكما أثبتت التجارب لايتوقف على صراع الحصول على المناصب والمكاسب فقط، بل أنه أنتج عنفاً مجتمعياً تضرر منه الجميع، وهنا مكمن الخطورة، فشيوع العنف المجتمعي نتيجة التجاذبات بين الأطراف المتسلطة والممارسة للقهر ينذر بانهيار قيمي كبير مالم يتم التصدي له، والتفكير الجدي بالحد من مخاطره تمهيداً لإزالتها، والعمل على تحديد مسببات اعتباطية هذه العلاقة التي أدت إلى نشوء العنف، ومن ثم إيجاد الحلول الكفيلة بإنهائها.

وأهم شيء يمكن أن يتم الالتفات له، خصوصاً في المجتمعات ذات التعددية العرقية والدينية؛ هو تنظيم ثنائية الإنسان/ الوطن وتعزيز هاجس المواطنة؛ لقطع الطريق على الصراع الإيديولوجي الذي أنتج التناقضات المجتمعية مستفيداً من ارتباك وعيها تجاه علاقة الإنسان بالإنسان أولاً، ثم علاقة الإنسان بالوطن ثانياً، ومن ثم الالتفات إلى قضية جوهرية في غاية الأهمية تتمثل في ضرورة الاستماع لخطاب يمثل الدولة ككل وليس خطاب يكون الوطن قشره والانقسام والتناحر لبّه.

والحديث عن أزمة خطاب الدولة على نحو التخصيص؛ ليس حديثاً جديداً، غير أنه يتفاعل مع كل حدث خصوصاً لو حكمته عناصر التفاعل السياسية، أو لنقل بتعبير أوضح عناصر سلطوية ترتدي دائماً الأقنعة التي صارت تراجيدية أكثر منها واقعية، وهي أقنعة العرق والمذهب والقومية، والتي كلما سقطت عادت لتنهض كالعنقاء من رمادها بفعل التحولات السياسية والفكرية من جهة، أو بفعل المخططات والأجندات التي يراد تنفيذها بمنهجية من جهة أخرى.

واقعنا العراقي، وهو يعاني من مشكلة إعادة تأهيله حتى بعد مرور أكثر من عقد وثلاث سنوات على خلاصه من ديكتاتورية شمولية، وهذه المشكلة ارتفعت إلى مصاف العقدة المعطلة التي صارت هاجساً يؤرق الحالمين بمشروع دولة حضارية عصرية، الأمر الذي كثّف من مطالبات تفعيل دور الراصد النقدي وفتح نوافذ أخرى؛ لإيصال صوته الناقد لتناسل ظواهر عنفية أربكت مشهد التعايش السلمي، والقبول بالمختلف الذي تنضج المعرفة بوجوده، وهي الحالة التي كانت تمثل أهم معاناة العراقيين قبل 2003، فضلاً عن تغييب ممنهج لدور المثقف في صناعة الحدث؛ بفعل هيمنة الأدلجة المتسلطة على مقاليد الأمور. اللغز الغامض الذي يحيط بالتجربة العراقية الماثلة، لن تتم عملية فك طلاسمه، مالم تكن هناك صراحة فكرية وثقافية في تأويل المشكلة، والوصول إلى جذورها الرئيسة التي قد تتشابك وتمتد إلى أزمنة غابرة، وتاريخ طويل من الويلات والحروب والمؤامرات.

تقدم لنا التجربة العراقية الماثلة أنموذجاً ساطعاً لأزمة الخطاب الذي لم يجتهد في ارتقاء السلالم التي تفضي لأفق الدولة الواضح، وغير المرتكز على عناصر السلطة التي أجهزت على مكونات الخطاب الأخلاقي الذي يمكن له أن يبين ملامح ومحددات طبقات المجتمع من سياسيين ونخب ثقافية. لقد عززت هذه الأزمة من شعور عدم الانتماء، وعدم الاستقلالية في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصير البلد، وذلك منذ لحظة الخلاص الجدلية من حكم الديكتاتورية الشمولية ، وهيمنة الفاعل- المحتل، وماتبع لحظة الخلاص تلك من أحداث وصولاً ليومنا المأزوم مفاهيمياً وثقافياً.

في كتابه (الدولة العراقية الأولى.. التكون والسقوط) يؤشر الناقد الدكتور (سليم جوهر) على المسبقات الفكرية التي تسببت بازدواجية السلوك السياسي العراقي فيقول : "السياسي العراقي في مجالسه الخاصة وذات المرجعية الثقافية المتناغمة مع الذات يصف ويتعامل مع الفاعل الأمريكي على أنه عدو، لكنه في تعامله مع الواقع السياسي الجديدن أي في تعامله مع السياسة الأمريكية وادواتها، أو مع الغرب عموماً فهو يتعامل على أنها الصديق الذي يحتاجه في البناء أو في حفظ الأمن أو غيرها"1.

وظلت هذه العقلية تحكم السياسيين حتى بعد زوال المؤثر الاحتلالي (ظاهرياً)، واذا أردنا التماس عذر معين لأزمة خطاب الدولة في ظل المحتل نتيجة الانتقال من مرحلة الشمولية لمرحلة الحرية المقيدة بهيمنة استعمارية؛ فإننا لانستطيع التماس نفس العذر في مرحلة أخرى من مراحل التحول الذي تعيش الدولة العراقية تمظهراته العملية.

إن اختصار الانتماء للوطن عن طريق القومية والمذهبية سيؤدي إلى علاقة اعتباطية أخرى تنتج صراعات داخل الكيان المذهبي أو القومي الواحد، وبالتالي سنكون أمام عنف مجتمعي بصورة تتغلغل إلى أعماق الخصوصية، فتسيطر حالة من الهيمنة العرقية على علاقة الفرد بمجتمعه، لدرجة استحالة الاندماج والتعايش في ظل منظومة قيمية أساسها التسامح.

ولنا أن نتخيل حجم المخاطر والكوارث التي قد تنتج لاسمح الله في حال عدم السيطرة على جريان الاعتباطية في العلاقات، مما يتيح لأطراف التسلط ممارسة القهر الإيديولوجي طالما أن المجتمع بتناقضاته وعلاقاته الملتبسة جاهز لأن يكون حطباً لهذا الصراع.

اضف تعليق