إعلان النصر على داعش، صدر عن عواصم أربعة: طهران وبغداد ودمشق وبيروت... حسناً، هو نصرٌ مبين بلا شك، وإن كانت أكلافه عصيّة على الاحتمال، وآثاره ليست من النوع القابل للإمّحاء في وقت منظور، أما تهديد التنظيم الأمني، فما زال ماثلاُ، حتى بعد اندثار تهديده العسكري والاستراتيجي الذي ألقى بظلاله الكئيبة والكثيفة على المنطقة والعالم برمته، طوال أزيد من سنوات ثلاث.

ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لهذا البلدان، وتحديداً العربية منها؟

في الأفق، تلوح بوادر حروب متناسلة جديدة... واشنطن، ومعها حلفاء عرب وإقليميين، تشن حرباً ضروساً ضد حزب الله... وهي أعلنت بعض فصائل الحشد الشعبي تنظيمات إرهابية... والمؤكد أن هذا "المحور" لا يريد أن يرى مليشيات شيعية في سوريا... وإذا كانت خطة تأليب اللبنانيين على حزب الله قد سقطت بالنقاط في جولتها الأولى، فليس معنى ذلك أن الحرب عليه قد وضعت أوزارها.

وفي العراق، سيحتدم الجدل حول ميليشيات الحشد الشعبي، واستتباعاً العشائري (السني)، وسينبري من يدافع عن "منطق الدولة" ومن يرى في المليشيات ذراعاً لها وضمانة لبقائها وديمومتها... أما في سوريا، فتتولى إسرائيل القيام بدور رأس الحربة ضد بقاء إيران وميليشياتها في سوريا، أقله على مبعدة مسافة أمان من حدود الجولان المحتل... إذا، الحرب لم تضع أوزارها بعد، والمرحلة التي كان فيها "الأمريكي" يقاتل إلى جانب الحشد الشعبي ضد داعش، انتهت ولن تعود، الأوامر صدرت بنقل البندقية من كتف إلى كتف، وقضي الأمر.

إن كان لحزب الله ما يبرر له الإبقاء على سلاحه في مواجهة التهديد الإسرائيلي للبنان براً وبحرً وجواً... وأطماع تل أبيب في مائه ونفطه والاحتفاظ بمزارعه المحتلة، فإن الفصائل الأخرى من الحشد حتى تلك التي تسمى "حليفة ورديفة" في سوريا، لن تجد مثل هذا المبرر أبداً، وفي ظني أن المعركة الأخيرة على حزب الله، نجحت في وضع الأخير في سلة واحدة مع بقية المليشيات، والبحث جارٍ في تسوية واحدة وترتيب واحد، لمعاجلة أمرها مجتمعة.

ما يحتاجه العراق على نحو ملح، ولكي لا تعود داعش ثانية، أو لا تنبثق فصائل وتنظيمات أشد هولاً منها، هو السعي من دون إبطاء لإنجاز المصالحات الوطنية والمجتمعية، وإعادة تصحيح وتصويب مسار العملية السياسية، وبناء نظام سياسي أكثر اتزاناً وتوازناً في تمثيل مصالح مختلف المكونات العراقية... مخرج العراق من أزمته المتراكبة منذ العام 2003، لا حل لها بعيداً عن الدولة العادلة والقادرة، والعراق مؤهل لفعل ذلك، ولا مبرر لبقاء أي من الكيانات المسلحة "اللا دولاتية"، سنية كانت أم شيعية، عربية أم كردية.

وسوريا بدورها بحاجة لمصالحة وطنية عميقة، وحل سياسي لا يُبقي أحداً خارجه أو بعيداً عن مساراته... وربما هذا ما استجوب دعوة الأسد إلى سوتشي على عجل، وعشية القمة الثلاثية للدول الضامنة لمسار أستانا و"خفض التصعيد"، ولوحده من دون أي مساعديه، في لقاء بدا غريباً جداً على الشاشة الروسية: لا علم سورياً، ولا مرافق للرئيس السوري المحاط بالجنرالات الروس من على يمينه وشماله... كان مشهداً نادراً، ربما بحجم الرسالة التي تبلغها الرئيس من صديقه "القيصر": سوريا بحاجة لحل سياسي، وبمشاركة الجميع... سوريا القديمة لن تعود مجدداً، وسوريا اليوم، غير ما كانت عليه قبل سبع سنوات.

لا حاجة للمليشيات التي تكاثرت في سوريا بعد اليوم، الحرب على داعش تكاد تضع أوزارها، وبقية الفصائل المسلحة منخرطة أو مرشحة للانخراط في مساري استانا – جنيف، وثمة توافقات تتضح معالمها في اجتماعات سوتشي المكثفة: قمة الأسد – بوتين، اجتماع رؤساء أركان الدول الثلاث، واجتماع قادتها بعده، وقبلها في أنطاليا (وزراء خارجية الدول الثلاث) وأثناءها في الرياض (اجتماعات توحيد المعارضة السورية).

أما في لبنان، فلا حل عسكرياً لمشكلة حزب الله أو للمشكلة معه، بل ولا حل لبنانياً لهذه المسألة... الحل سياسي إن أريد للبنان أن يتفادى الانفجار والانهيار... والحل إقليمي، طالما أن حزب الله بات لاعباً على مسرح الإقليم، باعتراف (اتهام – لا فرق) من خصومه قبل حلفائه... زمن التسويات في سوريا والعراق، يقترب، وبعد إنجازها، وربما بعده فقط، يمكن للبنان الذي تفادى الانزلاق إلى مستنقع الفوضى طوال سبع سنوات، أن "ينزلق" إلى الحل السياسي لمشكلاته الداخلية ومشكلاته مع الآخرين، أو مشكلات الآخرين معه... ليس هنا يكمن جوهر المسألة.

قد لا تسير التطورات والأحداث في هذا المنحى السلس والمجرد، فهذه المنطقة حبلى بالمفاجآت من كل نوع وعيار، وقد يحصل الانفجار في لبنان قبل أن تنعم سوريا والعراق بالأمن والسلام... وقد يتعقد المشهد على وقع "مشروع ترامب" و"صفقة القرن"... وقد يحصل ما لا يمكن التنبوء به في دول القرار العربي التي تغلي على مرجل المشكلات والصراعات الداخلية والبينية... كل هذا وارد، بل ووارد جداً، ولكن بعد سنوات من الفشل، تجد البلدان العربية نفسها بمسيس الحاجة لـ "الدولة"، ويجد الإقليم نفسه بحاجة لـ "ويستفاليا" جديدة، أو بالأحرى للعودة إلى قواعد ويستفاليا القديمة، فالمنطقة دفعت ثمناً باهظاً للسياسات والأدوار والدول والحركات العابرة للحدود، من "داعش" و"النصرة" وما شاكلهما إلى المليشيات المذهبية إياها، وجميعها تحظى بالرعاية من قبل حواضر إقليمية معروفة، وأحياناً تحظى بتواطئ دولي يصل حد "التورط" المباشر في دعمها وإسنادها ومدّها بنسغ الحياة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق