منذ أن بدأ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يجدد الرؤى والتصورات الإستراتيجية بشأن قيادة المملكة والتي ارتبط جزء منها بتبدل في الأسس العرفية التي تحكم المملكة من خلال الإنتقال بالحكم من الأبناء إلى الأحفاد وبعدها عن طريق تجديد رؤية المملكة بإستراتيجية واضحة في الجوانب الجيوسياسية، تلتها القمة الخليجية في الرياض والتي فجرت معطيات جديدة في العلاقة بين الدول داخل مجلس التعاون الخليجي، يتجه الوضع في السعودية بإتجاهات جديدة ترسم ملامح دور جديد ينتقل من وهم القوة إلى التمكين في الدور الإستراتيجي.

ويبدو أن عملية التخطيط لصياغة نهج جديد للمملكة تمر بسياسات إقليمية وأخرى ذات صفة داخلية، فالإصلاحات في المملكة تحاول إستيعاب بعض الفئات الإجتماعية لصالح حكم الأمير بن سلمان كالحالة مع توسيع الحقوق بالنسبة للمواطنين وقيادة المرأة للسيارات والتي كان لها أثراً كبيراً في تجديد صورة الملك القادم لجمهوره. وأخرى ذات طابع إقليمي يتمثل في إعادة تكوين المعطيات التي تتحرك من خلالها المملكة تجاه التوازنات الإقليمية القائمة.

المملكة من وهم القوة إلى تمكين الذات

إن واحدة من أهم ملامح الرغبة في تمكين الدور الإستراتيجي للسعودية جاءت كرد فعل على تداعيات قمة الرياض، إذ لم يكن للمملكة أي قدرة على مواجهة قطر بعد دعم دورها بالدور التركي والإيراني، الأمر الذي وضعها أمام ضرورة صياغة ظروف إستراتيجية جديدة في منطقة التفاعل، وهو ما انعكس على العلاقات الإيجابية بالعراق من جهة والدور الذي قامت به في لبنان من خلال استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري.

وعلى الرغم من الفشل الذي لاحق دور المملكة في اليمن وضعف إدارتها للتطورات الجديدة في منطقة الخليج، إلا أن المملكة أدركت أن دورها لا يمكن أن يتحقق من دون الإنتقال إلى موازنة القوى الكبرى الرئيسة في المنطقة كالحالة مع تركيا وإيران، فضعف أوراقها الدبلوماسية إلى جانب فقدانها للقوة العسكرية البرية جعلها عاجزة عن حسم القضايا الإستراتيجية في المنطقة، فضلاً عن أن المملكة لا تثق كثيراً بالدور المصري الذي قد لا يستمر معها لنهاية الطريق كما حدث في اليمن من قبل.

وتفترض سياسة التمكين أن تستوعب المملكة الفئات الإجتماعية الداخلية وتقليص التأثير عليها، ولعل هذا ما يفسر إلى حد كبير السياسات التي تبنتها المملكة بشأن توسيع الحقوق الممنوحة لبعض هذه الفئات بالإضافة إلى تقليص التأثير الخارجي عليها من خلال بعض المعارضين للأسرة الحاكمة كالحالة مع الوليد بن طلال، وبعض الأمراء الذي تشوبهم بعض الشكوك بشأن موقفهم من التغيرات التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز.

إن طبيعة هذه السياسات وتغيير وجهة العمل الإستراتيجي كان لها دوراً مهماً في محاولة تثبيت البرامج التي يطمح إلى تحقيقها الأمير محمد بن سلمان بالإضافة إلى سعيه إلى تجديد الدور الخارجي بما ينسجم مع ما تمتلكه السعودية من قوة، فالقوة لا تعني ما تمتلكه من موارد بقدر ما يمكن تأمينه من نفوذ وهذا ما يتطلب إدراك قواعد اللعبة والتحكم بجزء من عناصرها، فالمملكة أدركت أن ما أقدمت عليه من سياسات بعد عاصفة الحزم والتحالف الإسلامي لم يكن سوى وهم القوة التي تعيشها، ولأجل تغيير ذلك لابد من إدارة أوراقها السياسية بنحو جديد يضمن لها صياغة الدور الذي تتطلع إليه.

حزب الله.. هدف إستراتيجي بعد الحوثيين

أثارت استقالة الحريري صدمة سياسية واضحة كونها جاءت بأوضاع وظروف غامضة في مقدمتها استقالته من خلال إعلان في الرياض وليس في مقر رئاسة الجمهورية الأمر الذي يعني أن هنالك مشروعاً سوف يلتف حول لبنان تديره المملكة من بعد.

من جهة أخرى جاءت الاستقالة بالتزامن مع حملة الإعتقالات التي أصدرها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان التي تكشف عن ملابسات الاتصال بين القضيتين. ويبدو أن هذا القرار له ربط بالوضع الذي نتج بعد قمة الرياض والخلاف السعودي القطري وإعلان حزب الله منظمة إرهابية.

إن مشهد استقالة رئيس الحكومة اللبنانية يقود إلى سيناريو إضعاف حزب الله في لبنان خصوصاً وأن الحريري لم يستطع احتواء حزب الله وتمدده في لبنان أو في الحكومة التي يرأسها مما يعني إننا أمام مشهدين الأول هو إدارة ناعمة من خلال التغيير السياسي وتضييق دور حزب الله في لبنان.

أما المشهد الثاني فإنه يتجه نحو إضعاف حزب الله من خلال عمليات عسكرية كما حصل في اليمن مع الحوثيين ولكن يبدو الخيار الأقرب هو التعامل السياسي. فحزب الله كقوة عسكرية لا تقارن بالحوثيين، ثم أن هنالك مخاوف من أن يؤدي العمل العسكري تجاه حزب الله إلى سحب إيران إلى حرب مباشرة في الشرق الأوسط. ولذلك يبدو أن محاولة إضعاف دور حزب الله هو الأقرب إلى هذه المشاهد.

تتجه ملامح السياسات القادمة إلى سعي المملكة إلى فرض برامج على الحكومة القادمة في لبنان أولها هو تضييق حركة حزب الله من خلال سياسات تهدف إلى إحتواءه، ولعل ذلك من شأنه أيضاً إتباع سياسات جديدة في سوريا تعمل على ضرب مراكز العمليات العسكرية لحزب الله، وجميع هذه الملامح تعد من مقررات القمة الخليجية التي عقدت في الرياض، فالإدارة الأمريكية سوف تدعم هذه التوجهات خصوصاً وأن رغبة الرئيس دونالد ترامب تتجه نحو إضعاف الدور الإيراني الذي بدأ يتعاظم بعد الإتفاق النووي.

إن جميع هذه المعطيات من شأنها أن تصيغ مداخل جديدة للتفاعلات في المنطقة، فالوضع في سوريا ولبنان سوف يكون في مقدمة هذه الصياغات، ولعل العراق سوف يكون مدخلاً لتغيير قواعد التوازن الإستراتيجي بعد التنسيق النوعي الذي حققه مع المملكة العربية السعودية. فتحييد العراق بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية يعد من أهم الغايات التي تسعى إلى ضمانها في هذه المرحلة، بالإضافة إلى أن تأمين المساومة بشأن قطر يتطلب تحريك أوراق تفاوضية جديدة بإتجاه إيران بشكل كبير يشكل العراق ولبنان جزءاً منها.

إن سياسات الأمير بن سلمان تؤشر إلى منحى جديد في الترابط الإستراتيجي بين ما يعتقد به من طموحات وبين ما يجسده من سياسات، إذ أن هنالك تكتيكات واضحة لصياغة الدور في منطقة مضطربة تعمل على تأمين متطلباته، وهذه الصياغة سوف ترسم ملامح الدور الجديد لها مستقبلاً، والتي ستتجه نحو التأثير في المحاور التي استقرت عند الآخرين من أجل إضعافها ولتشغل طموحاتهم عن نفوذ جديد في منطقة الخليج.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق